الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِبَادِهِ، فَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا، فَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ وَالْعَقْلُ الْمُدْرِكُ حُجَّةُ اللَّهِ خَلَقَهُ، وَكِتَابُهُ هُوَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى، فَهُوَ الَّذِي عَرَّفَنَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِعُقُولِنَا سَبِيلٌ إِلَى اسْتِقْلَالِهَا بِإِدْرَاكِهِ أَبَدًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَذْهَبٌ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مَفْزَعٌ فِي مَجْهُولٍ يَعْلَمُهُ وَمُشْكِلٍ يَسْتَبِيَنُهُ، فَمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ فَإِلَيْهِ يَرْجِعُ، وَمَنْ دَفَعَ حِكْمَةً فِيهِ يُحَاجُّ خَصْمَهُ إِذْ كَانَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُرْشِدُ إِلَى الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ، فَمَنْ رَدَّ مِنْ مُدَّعِي الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ حُكُومَتَهُ وَدَفَعَ قَضِيَّتَهُ، فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ سَبِيلٌ إِلَى إِفْهَامِهِ.
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي غَيْرُ رَاضٍ حُكْمَهُ بَلْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَإِنَّهُ مَتَى رَدَّ حُكْمَهُ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَعَانَدَ الْكِتَابَ وَالْعَقْلَ، وَالَّذِينَ زَعَمُوا مِنْ قَاصِرِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَنَّ الْعَقْلَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى السَّمْعِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا إِنَّمَا أُتُوا مِنْ جَهْلِهِمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، وَمُقْتَضَى السَّمْعِ، فَظَنُّوا مَا لَيْسَ بِمَعْقُولٍ مَعْقُولًا، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شُبَهَاتٌ تُوهِمُ أَنَّهُ عَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِالسَّمْعِ إِمَّا بِنَسَبِهِمْ إِلَى الرَّسُولِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ أَوْجَبَتْ لَهُمْ ظَنَّ التَّعَارُضِ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ حَاجَّ عِبَادَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِيمَا أَرَادَ تَقْرِيرَهُمْ بِهِ وَإِلْزَامَهُمْ إِيَّاهُ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى الْعَقْلِ وَأَسْهَلِهَا تَنَاوُلًا، وَأَقَلِّهَا تَكَلُّفًا وَأَعْظَمِهَا غِنًى وَنَفْعًا.
[حُجَجُهُ سُبْحَانَهُ الْعَقْلِيَّةُ والسمعية على توحيده وأسمائه وصفاته]
فَحُجَجُهُ سُبْحَانَهُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي فِي كِتَابِهِ جَمَعَتْ بَيْنَ كَوْنِهَا عَقْلِيَّةً سَمْعِيَّةً ظَاهِرَةً وَاضِحَةً قَلِيلَةَ الْمُقْدِمَاتِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَاجَّ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقَطْعِ أَسْبَابِهِ وَحُسْنِ مَوَادِّهِ كُلِّهَا {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَخَذَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَجَامِعَ الطُّرُقِ الَّتِي دَخَلُوا مِنْهَا إِلَى الشِّرْكِ وَسُدَّ بِهَا عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ سَدٍّ وَأَحْكَمَهُ، فَإِنَّ الْعَابِدَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْبُودِ لِمَا يَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو مَنْفَعَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مَالِكًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْفَعُ بِهَا عَابِدَهُ، أَوْ شَرِيكًا لِمَالِكِهَا، أَوْ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ مُعَاوِنًا لَهُ أَوْ وَجِيهًا ذَا حُرْمَةٍ وَقَدْرٍ يَشْفَعُ عِنْدَهُ، فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ انْتَفَتْ أَسْبَابُ الشِّرْكِ وَانْقَطَعَتْ مَوَادُّهُ، فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَنْ تَمْلِكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَدْ يَقُولُ الْمُشْرِكُ: هِيَ
شَرِيكَةُ الْمَالِكِ الْحَقِّ، فَنَفَى شِرْكَهَا لَهُ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُ: قَدْ يَكُونُ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ مُعَاوِنًا فَقَالَ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ فَنَفَاهَا عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِلشَّافِعِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالشَّفَاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّافِعِ وَمُعَاوَنَتِهِ لَهُ، فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، وَأَمَّا مَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ، فَهُوَ الْغِنِيُّ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُقَرِّرًا بُرْهَانَ التَّوْحِيدِ أَحْسَنَ التَّقْرِيرِ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْجَزَهُ {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] فَإِنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي كَانُوا يُثْبِتُونَهَا مَعَهُ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ وَمُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانُوا آلِهَةً كَمَا يَقُولُونَ لَعَبَدُوهُ وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ; فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُمْ دُونَهُ، وَقَدْ أَفْصَحَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي هُمْ عَبِيدِي كَمَا أَنْتُمْ عَبِيدِي، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي ; فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي؟
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الْبَيِّنِ فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى شَرِكَةَ الْإِلَهِ الْآخَرِ مَعَهُ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِهِ، كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَمَالِيكِهِمْ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُنْفَرِدُ عَلَى قَهْرِ الْآخَرِ وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ تَحْتَ قَهْرِ إِلَهٍ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ حُكْمِهِمْ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ حُكْمِهِ فَيَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ الْإِلَهُ وَهُمُ الْعَبِيدُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَقْهُورُونَ، وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَارْتِبَاطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَجَرَيَانُهُ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَفْسُدُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ
غَيْرُهُ كَمَا دَلَّ دَلِيلُ التَّمَانُعِ عَلَى أَنَّ خَالِقَهُ وَاحِدٌ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، فَذَاكَ تَمَانُعٌ فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ وَهَذَا تَمَانُعٌ فِي الْغَايَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبَّانِ خَالِقَانِ مُتَكَافِئَانِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى هَذَا اللَّفْظَ وَأَوْجَزَهُ وَأَدَلَّهُ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقَتْ مِنْ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ طُولِبُوا بِأَنْ يُرُوهُ إِيَّاهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ أَنَّهَا أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ آلِهَتُهَا بَاطِلًا وَمُحَالًا.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4] فَطَالَبَهُمْ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] فَاحْتَجَّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ، وَعَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْخَلْقِ، وَعَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قَهَّارٌ، وَالْقَهْرُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ الْوِحْدَةَ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي تَمَامَ الْقَهْرِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74] فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي أُمِرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِاسْتِمَاعِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَدْ عَصَى أَمْرَهُ، كَيْفَ تَضَمَّنَ إِبْطَالَ الشِّرْكِ وَأَسْبَابَهُ بِأَوْضَحِ بُرْهَانٍ فِي أَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِهَا وَأَحْلَاهَا، وَسَجَّلَ عَلَى جَمِيعِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَعَاوَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَبْلَغِ الْمُعَاوَنَةِ لَعَجَزُوا عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عَجْزَهُمْ وَضَعْفَهُمْ عَلَى اسْتِنْقَاذِ مَا يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ
إِيَّاهُ حِينَ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا الْإِلَهِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْ عَابِدِهِ الطَّالِبِ نَفْعَهُ وَحْدَهُ؟ فَهَلْ قَدَرَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ آلِهَةً هَذَا شَأْنُهَا.
فَأَقَامَ سُبْحَانَهُ حُجَّةَ التَّوْحِيدِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَعْذَبِ أَلْفَاظٍ وَأَحْسَنِهَا لَمْ يَشُبْهَا غُمُوضٌ، وَلَمْ يُشِنْهَا تَطْوِيلٌ، وَلَمْ يُعِبْهَا تَقْصِيرٌ، وَلَمْ يُزْرِ بِهَا زِيَادَةٌ وَلَا نَقْصٌ، بَلْ بَلَغَتْ فِي الْحُسْنِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِيجَازِ مَا لَا يَتَوَهَّمُهُ مُتَوَهِّمٌ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ فِي مَعْنَاهَا مِنْهَا وَتَحْتَهَا مِنَ الْمَعْنَى الْجَلِيلِ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ الْبَالِغِ فِي النَّفْعِ مَا هُوَ أَجَلُّ مَنِ الْأَلْفَاظِ.
وَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ وَكَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] فَأَمَرَ مَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ أَقْصَرَ سُورَةٍ، ثُمَّ فَسَخَ لَهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ - فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33 - 34] ثُمَّ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ تَسْجِيلًا عَامًّا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ بِعَجْزِهِمْ، وَلَوْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ فَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .
فَانْظُرْ إِلَى أَيِّ مَوْقِعٍ يَقَعُ مِنَ الْأَسْمَاعِ وَالْقُلُوبِ هَذَا الْحِجَاجُ الْجَلِيلُ الْقَاطِعُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَجِدُ طَالِبُ الْحَقِّ وَمُؤْثِرُهُ وَمُرِيدُهُ عَنْهُ مَحِيدًا وَلَا فَوْقَهُ مَزِيدًا وَلَا وَرَاءَهُ غَايَةً وَلَا أَظْهَرَ مِنْهُ آيَةً وَلَا أَوْضَحَ مِنْهُ بُرْهَانًا وَلَا أَبْلَغَ مِنْهُ بَيَانًا.
وَقَالَ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُتَأَمِّلِ لِأَحْوَالِهِ وَدَعْوَتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ - أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ - أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 68 - 70] .
فَدَعَا سُبْحَانَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقَوْلِ وَتَأْمُّلِ حَالِ الْقَائِلِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ كَذِبًا وَزُورًا يُعْرَفُ مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ تَارَةً، وَتَارَةً مِنْ تَنَاقُضِهِ وَاضْطِرَابِهِ ظُهُورُ شَوَاهِدِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَيُعْرَفُ مَنْ حَالِ الْقَائِلِ تَارَةً، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمُنْكَرِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ، لَا تَكُونُ أَقْوَالُهُ إِلَّا مُنَاسِبَةً لِأَفْعَالِهِ، وَلَا يَأْتِي مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يَتَأَتَّى مِنَ الْبَارِّ الصَّادِقِ مِنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَغَدْرٍ وَفُجْرٍ وَكَذِبٍ، بَلْ قَلْبُ هَذَا وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ وَقَوْلُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَلْبُ ذَلِكَ وَعَمَلُهُ وَقَصْدُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَدَعَاهُمْ سُبْحَانَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقَوْلِ وَتَأَمُّلِ سِيرَةِ الْقَائِلِ وَأَحْوَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ لَهُمْ وَيَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] فَتَأَمَّلْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ الْقَاطِعَتَيْنِ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِي، وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لِي، وَلَا مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَمْسَكَ عَنْهُ قَلْبِي وَلِسَانِي وَأَسْمَاعَكُمْ وَأَفْهَامَكُمْ فَلَمْ أَتَمَكَّنْ مِنْ تِلَاوَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَتَمَكَّنُوا مِنْ دِرَايَتِهِ وَفَهْمِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّى قَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرِي إِلَى حِينِ أَتَيْتُكُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ تُشَاهِدُونِي وَتَعْرِفُونِي وَتَصْحَبُونِي حَضَرًا وَسَفَرًا، وَتَعْرِفُونَ دَقِيقَ أَمْرِي وَجَلِيلَهُ وَتُحَقِّقُونَ سِيرَتِي، هَلْ كَانَتْ سِيرَةَ مَنْ جَاهَرَ رَبَّهُ بِالْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ، وَطَلَبَ إِفْسَادَ الْعَالَمِ وَظُلْمَ النُّفُوسِ وَالْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
هَذَا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْفَظُ كِتَابًا وَلَا أَخُطُّهُ بِيَمِينِي، وَلَا صَاحَبْتُ مَنْ أَتَعَلَّمُ مِنْهُ، بَلْ صَاحَبْتُمْ أَنْتُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ مَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَتَسْأَلُونَهُ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ أُشَارِكْكُمْ فِيهِ بِوَجْهٍ، ثُمَّ جِئْتُكُمْ بِهَذَا النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي فِيهِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَعِلْمُ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَأَيُّ بُرْهَانٍ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا، وَأَيُّ عِبَارَةٍ أَفْصَحُ وَأَوْجَزُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وَلَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي يَطْلُبُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُنَاظِرًا مَعَ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ
يَكُونُ مُنَاظِرًا مَعَ غَيْرِهِ فَأَمَرَهُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنْ يَقُومُوا لِلَّهِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَيَتَنَاظَرَانِ وَيَتَسَاءَلَانِ بَيْنَهُمَا وَاحِدًا وَاحِدًا، يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِ هَذَا الدَّاعِي وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَيَسْتَدْعِي أَدِلَّةَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَيَعْرِضُ مَا جَاءَ بِهِ عَلَيْهَا لِيَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَهَذَا هُوَ الْحِجَاجُ الْجَلِيلُ وَالْإِنْصَافُ الْبَيِّنُ، وَالنُّصْحُ التَّامُّ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي تَثْبِيتِ أَمْرِ الْبَعْثِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَلَوْ رَامَ أَفْصَحُ الْبَشَرِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْبَيَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَوْ مِثْلِهَا، فِي أَلْفَاظٍ تُشَابِهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، وَوَصَفَ حِينَئِذٍ الدِّلَالَةَ وَصِحَّةَ الْبُرْهَانِ لَأَلْفَى نَفْسَهُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِسُؤَالٍ أَوْرَدَهُ الْمُلْحِدُ اقْتَضَى جَوَابًا، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] مَا وَفَى بِالْجَوَابِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ، لَوْلَا مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَأْكِيدِ حُجَّتِهِ وَزِيَادَةِ تَقْرِيرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ الْمُلْحِدَ لَوْ تَبَيَّنَ خَلْقَ نَفْسِهِ وَبَدْءَ كَوْنِهِ لَكَانَتْ فِكْرَتُهُ فِيهِ كَافِيَةً، ثُمَّ أَوْضَحَ سُبْحَانَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] وَصَرَّحَ جَوَابًا لَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] فَاحْتَجَّ بِالْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَبِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الثَّانِيَةِ عَجَزَ عَنِ الْأُولَى، بَلْ كَانَ أَعْجَزَ وَأَعْجَزَ.
وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْخَالِقِ عَلَى مَخْلُوقِهِ، وَعِلْمَهُ بِتَفَاصِيلِ خَلْقِهِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فَهُوَ عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَتَفَاصِيلِهِ وَمَوَارِدِهِ وَصُورَتِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ الثَّانِي، فَإِذَا كَانَ تَامَّ الْعِلْمِ كَامِلَ الْقُدْرَةِ، كَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْيِيَ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟
أَكَّدَ الْأَمْرَ بِحُجَّةٍ تَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مُلْحِدٍ آخَرَ يَقُولُ: الْعِظَامُ إِذَا صَارَتْ رَمِيمًا عَادَتْ طَبِيعَتُهَا بَارِدَةً يَابِسَةً، وَالْحَيَاةُ فِي الْأَبْدَانِ تَكُونُ مَادَّتُهَا طَبِيعَةٌ حَارَّةٌ، فَقَالَ:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْعُنْصُرِ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الْمُمْتَلِئِ بِالرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ، فَالَّذِي يُخْرِجُ الشَّيْءَ مِنْ ضِدِّهِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا أَنْكَرَهُ الْمُلْحِدُ مِنْ إِحْيَاءِ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ.
ثُمَّ أَكَّدَ الدِّلَالَةَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَهُ أَقْدَرُ فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي أَبْدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى جَلَالَتِهِمَا وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، وَكِبَرِ أَجْسَامِهِمَا وَسِعَتِهِمَا وَعَجِيبِ خَلْقِهِمَا، أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ عِظَامًا صَارَتْ رَمِيمًا فَيَرُدَّهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] .
ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا آخَرَ يَتَضَمَّنُ مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ دَفْعَ شُبَهِ كَلِّ مُلْحِدٍ وَجَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ يَفْعَلُ بِالْآلَاتِ وَالْكُلْفَةِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ آلَةٍ وَمُشَارِكٍ وَمُعِينٍ، بَلْ يَكْفِي فِي خَلْقِ مَا يُرِيدُ خَلْقَهُ {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] فَأَخْبَرَ أَنَّ نُفُوذَ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَسُرْعَةَ تَكْوِينِهِ وَانْقِيَادَ الْكَوْنِ لَهُ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِإِخْبَارِهِ أَنَّ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] .
سُبْحَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي جَمَعَ مَعَ وَجَازَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَصِحَّةِ بُرْهَانِهِ كُلَّ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَجَوَابِ الشُّبْهَةِ بِأَلْفَاظٍ لَا أَعْذَبَ مِنْهَا لِلسَّمْعِ، وَلَا أَحْلَى مِنْ مَعَانِيهَا لِلْقَلْبِ، وَلَا أَنْفَعَ مِنْ ثَمَرَاتِهَا لِلْعَبْدِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا - قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا - أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا - يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 49 - 52] فَتَأَمَّلْ مَا أُجِيبُوا بِهِ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ عَلَى التَّفْصِيلِ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] فَقِيلَ لَهُ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنْ لَا خَالِقَ لَكُمْ وَلَا رَبَّ، فَهَلَّا كُنْتُمْ خَلْقًا لَا يُصِيبُهُ التَّعَبُ كَالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ فِي صُدُورِكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لَنَا رَبٌّ خَالِقٌ خَلَقَنَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنْشَأْنَا هَذِهِ النَّشْأَةَ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ، وَلَمْ يَجْعَلْنَا
حِجَارَةً وَلَا حَدِيدًا، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِقَرَارِكُمْ، فَمَا الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ خَالِقِكُمْ وَمُنْشِئِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا؟ .
وَلِلْحُجَّةِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَلْقٍ مُمَيَّزٍ مِنْهُمَا لَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُفْنِيَكُمْ وَيُحِيلَ ذَوَاتَكُمْ وَيَنْقُلَهَا مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَعَ صَلَابَتِهَا وَشِدَّتِهَا بِالْإِفْنَاءِ وَالْإِحَالَةِ، فَمَا يُعْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ دُونَهَا بِإِفْنَائِهِ وَإِحَالَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا آخَرَ بِقَوْلِهِمْ: مَنْ يُعِيدُنَا إِذَا اسْتَحَالَتْ أَجْسَامُنَا وَفَنِيَتْ؟ فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] وَهَذَا الْجَوَابُ نَظِيرُ جَوَابِ قَوْلِ السَّائِلِ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهَا انْتَقَلُوا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ يَتَعَلَّلُونَ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمَقْطُوعُ بِالْحِجَاجِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {مَتَى هُوَ} [الإسراء: 51] فَأَجِيبُوا بِقَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا - يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 51 - 52] .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى - أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى - فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40] ؟ .
فَاحْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانَ مُهْمَلًا مُعَطَّلًا عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّ حِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ نُطْفَةِ مَنِيٍّ وَمِنَ الْمَنِيِّ إِلَى الْعَلَقَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَةِ، ثُمَّ خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَرَكَّبَ فِيهِ الْحَوَاسَّ وَالْقُوَى وَالْعِظَامَ وَالْمَنَافِعَ، وَالْأَعْصَابَ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ، وَأَتْقَنَ خَلْقَهُ وَأَحْكَمَهُ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، وَأَخْرَجَهُ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَشَمُّ الصُّوَرِ وَأَحْسَنُ الْأَشْكَالِ، كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إِعَادَتِهِ وَإِنْشَائِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ أَمْ كَيْفَ تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ وَعِنَايَتُهُ أَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى؟ فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَتُهُ.
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْحِجَاجِ الْعَجِيبِ بِالْقَوْلِ الْوَجِيزِ، وَالْبَيَانِ الْجَلِيلِ الَّذِي لَا يُتَوَهَّمُ أَوْضَحُ مِنْهُ، وَمَأْخَذُهُ الْقَرِيبُ الَّذِي لَا تُقْطَعُ الظُّنُونُ عَلَى أَقْرَبَ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّصَارَى مُبْطِلًا لِدَعْوَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ كَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي
أَضَافَهُ مِنْ نَسَبِ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ سَائِغٍ فِي الْعُقُولِ إِذَا تَأَمَّلَهُ الْمُتَأَمِّلُ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا لَكَانَ يَصْطَفِي لِنَفْسِهِ، وَيَجْعَلَ هَذَا الْوَلَدَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الْجَوْهَرِ الْأَعْلَى السَّمَاوِيِّ الْمَوْصُوفِ بِالْخُلُوصِ وَالنَّقَاءِ مِنْ عَوَارِضِ الْبَشَرِ، وَالْمَجْبُولِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ، لَا مِنْ جَوَاهِرِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي الْكَثِيرِ الْأَدْنَاسِ وَالْأَوْسَاخِ وَالْأَقْذَارِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحِجَاجُ كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَالَةِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] .
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ دَلِيلَيْنِ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ: أَحَدُهُمَا: حَاجَتُهُمَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَضَعْفُ بِنْيَتِهِمَا عَنِ الْقِيَامِ بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ فِيمَا يُعِينُهُمَا إِلَى الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، إِذْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا.
الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ الطَّعَامَ يَكُونُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْفَضَلَاتِ الْقَذِرَةِ الَّتِي يُسْتَحَى مِنَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهَا، وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَبَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهَا بِلَازِمِهَا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْهُ إِلَى مَا يَلْزَمُهُ مِنْ هَذِهِ الْفَضْلَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ أَوْ يُمْكِنُ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ الْمُسْتَقْذَرَةُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 17 - 18] سُبْحَانَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ الْبَنَاتِ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَرْضَى بِالْبَنَاتِ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ السَّوَادُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَى بِالْإِنَاثِ بَنَاتًا فَكَيْفَ تَجْعَلُونَهَا لِي؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] .
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ضَعْفَ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ أَنْقَصُ الْجِنْسَيْنِ، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِهِ إِلَى الْحِلْيَةِ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْجِنْسَيْنِ بَيَانًا فَقَالَ تَعَالَى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فَأَشَارَ بِنَشْأَتِهِنَّ فِي الْحِلْيَةِ إِلَى أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتٌ فَيَحْتَجْنَ إِلَى الْحِلْيَةِ يَكْمُلْنَ بِهَا، وَأَنَّهُنَّ عَيِيَّاتٌ فَلَا يُبِنَّ حُجَّتَهُنَّ وَقْتَ الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18] تَعْرِيضًا بِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْحِلْيَةُ مِنَ التَّزَيُّنِ لِمَنْ يَفْتَرِشُهُنَّ وَيَطَأُهُنَّ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُنَّ لَا يَثْبُتْنَ فِي الْحَرْبِ، فَذَكَرَ الْحِلْيَةَ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ.
وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَوْمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82] فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَخْرُجْ فِي ظَاهِرِهِ مَخْرَجَ كَلَامِ الْبَشَرِ الَّذِي يَتَكَلَّفُهُ أَهْلُ النَّظَرِ وَالْجِدَالِ وَالْمُقَايَسَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، بَلْ خَرَجَ فِي صُورَةِ كَلَامٍ خَبَرِيٍّ يَشْتَمِلُ عَلَى مَبَادِئِ الْحِجَاجِ، وَيُشِيرُ إِلَى مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ وَنَتَائِجِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَفْصَحِهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِقَوْمِهِ مُتَعَجِّبًا مِمَّا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80] وَتَطْمَعُونَ أَنْ تَسْتَزِلُّونِي عَنْ تَوْحِيدِهِ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي، وَتَأَكَّدَتْ بَصِيرَتِي وَاسْتَحْكَمَتْ مَعْرِفَتِي بِتَوْحِيدِهِ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي رَزَقَنِيهَا، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فِي اعْتِقَادِهِ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ عَنْ بَصِيرَةٍ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا رَيْبٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِزْلَالِهِ عَنْهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُحَاجَّةَ بَعْدَ وُضُوحِ الشَّيْءِ وَظُهُورِهِ نَوْعٌ مِنَ الْعَبَثِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَاجَّةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَدْ رَآهَا مَنْ يُحَاجُّهُ بِعَيْنِهِ، فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ حِجَاجُكُمْ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَطْلُعْ، ثُمَّ قَالَ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 80] فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ أَنْ يَنَالَهُ مِنْهَا مَضَرَّةٌ كَمَا قَالَهُ قَوْمُ هُودٍ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ أَصَابَنِي مَكْرُوهٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي
عَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ يُرْجَى أَوْ يُخَافُ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي أَصَابَنِي مِنْ قِبَلِ الْحَيِّ الْفَعَّالِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
ثُمَّ ذَكَرَ سِعَةَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِنْهَا عَلَى مَوْقِعِ احْتِرَازٍ لَطِيفٍ، وَهُوَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمًا فِي وَفِيكُمْ وَفِي هَذِهِ الْآلِهَةِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمِي، فَإِذَا شَاءَ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَشَاؤُهُ، فَإِنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَنِي بِمَكْرُوهٍ لَا عِلْمَ لِي مِنْ أَيِّ جِهَةٍ أَتَانِي، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِمَا لَا أَعْلَمُهُ، وَهَذَا غَايَةُ التَّفْوِيضِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَأَسْبَابِ النَّجَاةِ، وَأَنَّهَا بِيَدِ اللَّهِ لَا بِيَدِي.
وَهَكَذَا قَوْلُ شُعَيْبٍ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمِهِ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] فَرَدَّتِ الرُّسُلُ بِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَشَاؤُهُ وَلَا عِلْمَ لَنَا بِامْتِنَاعِهِ.
ثُمَّ رَجَعَ الْخَلِيلُ إِلَيْهِمْ مُقَرِّرًا لِلْحُجَّةِ فَقَالَ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنعام: 81] يَعْنِي فِي إِلَهِيَّتِهِ {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81 - 82] يَقُولُ لِقَوْمِهِ: كَيْفَ يَسُوغُ فِي عَقْلٍ أَنْ أَخَافَ مَا جَعَلْتُمُوهُ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَأَنْتَمْ لَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ أَشْيَاءَ لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا حُجَّةً عَلَيْكُمْ، وَالَّذِي أَشْرَكَ بِخَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ، فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ آلِهَةً لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَلَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَجَعَلَهَا نِدًّا لَهُ وَمِثْلًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَحَقُّ بِالْخَوْفِ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَحَّدَهُ وَأَفْرَدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] فَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا بِأَحْسَنِ حُكْمٍ خَضَعَتْ لَهُ الْقُلُوبُ وَأَقَرَّتْ بِهِ الْفِطَرُ فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْكَلَامَ وَعَجِيبَ مَوْقِعِهِ فِي قَطْعِ الْخُصُومِ، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ مَا وَجَبَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَرُدَّ بِهِ مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِطَاعِنٍ مَطْعَنٌ وَلَا سُؤَالٌ، وَلَمَّا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَظَّمَهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] وَكَفَى بِحُجَّةٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُلْقِيهَا لِخَلِيلِهِ أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً لِمَوَارِدِ الْعِنَادِ، وَقَامِعَةً لِأَهْلِ الشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ.
وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] لَمَّا أَجَابَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم الْمُحَاجَّ لَهُ فِي اللَّهِ بِأَنَّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ اللَّهُ، أَخَذَ عَدُوُّ اللَّهِ فِي الْمُغَالَطَةِ وَالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِأَنَّهُ يَقْتُلُ مَنْ يُرِيدُ وَيَسْتَبْقِي مَنْ يُرِيدُ، فَقَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ هَذَا، فَأَلْزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى طَرْدِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَرَكَةِ الشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يَأْتِي اللَّهُ مِنْهَا بِزَعْمِهِ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ يُسَاوِي اللَّهَ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيَتَصَرَّفْ فِي الشَّمْسِ تَصَرُّفًا تَصِحُّ بِهِ دَعَوَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا انْتِقَالًا مِنْ حُجَّةٍ إِلَى حُجَّةٍ أَوْضَحَ مِنْهَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النُّظَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْزَامٌ لِلْمُدَّعِي فِي طَرْدِ حُجَّتِهِ إِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِهِ بِالْجِهَاتِ كُلِّهَا بِأَحْسَنِ دَلِيلٍ وَأَوْضَحِهِ وَأَصَحِّهِ، حَيْثُ يَقُولُ:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] ثُمَّ قَرَّرَ عِلْمَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ التَّقْرِيرِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَخْلُوقَهُ، وَإِذَا كُنْتُمْ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ خَالِقُكُمْ وَخَالِقُ صُدُورِكُمْ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ، فَكَيْفَ تَخْتَفِي عَلَيْهِ وَهِيَ خَلْقُهُ؟
وَهَذَا التَّقْرِيرُ مِمَّا يَصْعُبُ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فَهْمُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ عِنْدَهُمْ مَا فِي الصُّدُورِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ عَلَى أُصُولِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِهِ بِهَا، وَلِهَذَا طَرَدَ غُلَاةُ الْقَوْمِ ذَلِكَ وَنَفَوْا عِلْمَهُ، فَكَفَّرَهُمُ السَّلَفُ قَاطِبَةً، وَهَذَا التَّقْرِيرُ مِنَ الْآيَةِ صَحِيحٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، أَعْنِي تَقْدِيرَ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ،
عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: أَلَا يَعْلَمُ الرَّبُّ مَخْلُوقَهُ وَمَصْنُوعَهُ؟ ثُمَّ خَتَمَ الْحُجَّةَ بِاسْمَيْنِ مُقْتَضِيَيْنِ لِثُبُوتِهَا وَهُمَا: اللَّطِيفُ الَّذِي لَطُفَ صُنْعُهُ وَحِكْمَتُهُ وَدَقَّ حَتَّى عَجَزَتْ عَنْهُ الْأَفْهَامُ، وَالْخَبِيرُ الَّذِي انْتَهَى عِلْمُهُ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَخَفَايَاهَا كَمَا أَحَاطَ بِظَوَاهِرِهَا، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ مَا تُخْفِيهِ الضَّمَائِرُ وَتُجِنُّهُ الصُّدُورُ.
وَمِنْ هَذَا احْتِجَاجُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36] فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّرْدِيدَ وَالْحَصْرَ الْمُتَضَمِّنَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ وَأَوْضَحِ عِبَارَةٍ.
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ مَخْلُوقُونَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا، فَهَلْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؟ فَهَذَا مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَتَعَاطِيهِ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ سَاعَةً وَاحِدَةً، كَيْفَ يَكُونُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ؟ وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمِ الْعِبَادَةَ وَالشُّكْرَ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ إِلَهًا غَيْرَهُ وَهُوَ وَحْدَهُ الْخَالِقُ لَهُمْ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور: 36] مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ؟ قِيلَ: أَحْسَنُ مَوْقِعٍ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِالْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا فَاطِرًا، وَبَيَّنَ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ وُجِدُوا وَخُلِقُوا فَهُمْ عَاجِزُونَ غَيْرُ خَالِقِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا نُفُوسَهُمْ وَلَمْ يَخْلُقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الْمَسْكَنِ وَالسَّاكِنِ.
وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ مُحَاجَّةِ صَاحِبِ يس لِقَوْمِهِ، بِقَوْلِهِ:{قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ - اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20 - 21] فَنَبَّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَتْبُوعِ رَسُولًا لِمَنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَ وَلَا يَعْصَى، وَأَنَّهُ عَلَى هِدَايَةٍ، وَنَبَّهَ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَهُوَ عَدَمُ سُؤَالِ الْأَجْرِ فَلَا يُرِيدُ مِنْكُمْ دُنْيَا وَلَا رِئَاسَةً، فَمُوجِبُ الِاتِّبَاعِ كَوْنُهُ مُهْتَدِيًا وَالْمَانِعُ مِنْهُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ طَلَبُ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ وَطَلَبُ الْأَجْرِ، ثُمَّ قَالَ:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] أَخْرَجَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمُخَاطَبَةِ لِنَفْسِهِ تَأْلِيفًا لَهُمْ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الْعَبْدِ لِمَنْ فَطَرَهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ فِي الْعُقُولِ،