الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَبْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِي مَوْضِعٍ وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَعَشَرَةٍ، أَفَيَسُوغُ حَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَأَرْبَعَةِ آلَافِ مَوْضِعٍ كُلِّهَا عَلَى الْمَجَازِ وَتَأْوِيلُ الْجَمِيعِ بِمَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ؟ وَلَا تَسْتَبْعِدْ قَوْلَنَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ آلَافٍ، فَكُلُّ آيَةٍ وَكُلُّ حَدِيثٍ إِلَهِيٍّ وَكُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَقُولُ، وَكُلُّ أَثَرٍ فِيهِ ذَلِكَ، إِذَا اسْتُقْرِئَتْ زَادَتْ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَيَكْفِي أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ وَأَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ وَأَحَادِيثُ الْحِسَابِ، وَأَحَادِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَحَادِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى، وَأَحَادِيثُ تَكَلُّمِهِ عِنْدَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، وَأَحَادِيثُ تَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ، وَأَحَادِيثُ تَكْلِيمِهِ لِلشُّهَدَاءِ، وَأَحَادِيثُ تَكْلِيمِ كَافَّةِ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا تُرْجُمَانٍ وَلَا وَاسِطَةٍ، وَأَحَادِيثُ تَكْلِيمِهِ لِلشُّفَعَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ كُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ وَأَضْعَافُهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، بَلْ نُشْهِدُكَ وَنُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَحَقُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَوْلَى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّ الْبَحْرَ لَوْ أَمَدَّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَكَانَتْ أَشْجَارُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا يُكْتَبُ بِهَا مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ، لَنَفِدَتِ الْبِحَارُ وَالْأَقْلَامُ وَلَمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُكَ، وَأَنَّكَ لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، فَأَنْتَ الْخَالِقُ حَقِيقَةً.
[مسألة تكلم العباد بالقرآن]
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَكَلُّمِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ فَقَدِ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ كَلَامَهُ عِنْدَ تِلَاوَةِ كُلِّ تَالٍ، فَيَجْرِي كَلَامُهُ الْمَخْلُوقُ عَلَى لِسَانِ التَّالِي، وَفِعْلُ التَّالِي هُوَ حَرَكَةُ اللِّسَانِ فَقَطْ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ: فَالْقِرَاءَةُ صُنْعُ الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَقْرُوءُ صُنْعُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ، فَالْمَسْمُوعُ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ بَيْنَ صُنْعَيْنِ: صُنْعِ الرَّبِّ وَصُنْعِ الْعَبْدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُذَيْلٍ وَالْإِسْكَافِيِّ وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: إِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِأَفْعَالِهِ وَتِلَاوَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ وَلَا يُفَارِقُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا الْمَسْمُوعُ هُوَ صُنْعُ التَّالِي أَلْفَاظُهُ وَتِلَاوَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا هُوَ فِعْلُهُ، فَإِنَّهُ عَرَضٌ وَهُمْ يُحِيلُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ فِعْلًا لِلَّهِ، قَالُوا فَهُوَ فِعْلُ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَعْمَرٍ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ كَلَامَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ مَكَّنَ جَبْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ نَقْلًا وَيُعَلِّمَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، فَجَبْرَائِيلُ إِذَا نَطَقَ بِهِ كَانَ نُطْقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْرَأُ كِتَابَ غَيْرِهِ، لَكِنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ فِي الْحَقِيقَةِ لِجَبْرَائِيلَ لَمْ تَقُمْ بِذَاتِ الرَّبِّ حُرُوفُ
الْقُرْآنِ وَلَا أَلْفَاظُهُ، وَلَا سَمِعَهُ جَبْرَائِيلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْكُلَّابِيَّةِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَسْمُوعَ قَوْلُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ حَقِيقَةً سَمِعَهُ مِنْهُ الرَّسُولُ الْبَشَرِيِّ فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَالرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ نَاقِلٌ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ غَيْرُ سَامِعٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ نَاقِلٌ لَهُ عَنْ جَبْرَائِيلَ قَوْلَهُ وَأَلْفَاظَهُ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: بَلِ اللَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ جَبْرَائِيلَ مَعَانِيَهُ، فَعَبَّرَ عَنْهَا جَبْرَائِيلُ بِعِبَارَتِهِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَلَامُ جَبْرَائِيلَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا كَلَامُ اللَّهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: جَبْرَائِيلُ عَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ نَصَّ مَعَانِيهِ وَأَلْقَاهَا فِي رَوْعِهِ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْشَأَ أَلْفَاظَهَا وَعَبَّرَ بِهَا مِنْ عِنْدِهِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَلْقَاهُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ عَلَى قَوْلِهِمْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَوْلُ جَبْرَائِيلَ عليه السلام، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا نُسَمِّيهِمْ لِشُهْرَتِهِمْ، وَإِنْ حَرَّفُوا الْعِبَارَةَ وَزَيَّنُوا لَهُ الْأَلْفَاظَ، فَهُوَ قَوْلُهُمُ الَّذِي يُنَاظِرُونَ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ يَقُولُونَ فِيهِ: قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ كَذَا، وَقَالَتْ سَائِرُ فِرَقِ أَهْلِ الزَّيْغِ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ لِسَانُ التَّالِي مُظْهِرٌ لِلْكَلَامِ الْقَدِيمِ، فَيُسْمَعُ مِنْهُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَلِسَانُ التَّالِي كَالشَّجَرَةِ مَحَلٌّ وَمُظْهِرٌ لِلْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ التَّالِي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] كَانَ الْمَسْمُوعُ كُلُّهُ حُرُوفُهُ وَأَصْوَاتُهُ غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِي الْقَارِئِ وَلَا اتِّحَادٍ بِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَحِلَّ فِي الشَّجَرَةِ وَلَا اتَّحَدَ بِهَا، وَسَمِعَ مُوسَى كَلَامَهُ مِنْهَا.
وَاخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ فِي الصَّوْتِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْقَارِئِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَيْنُ صَوْتِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ ظَهَرَ عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي، فَكَانَتِ التِّلَاوَةُ مُظْهِرَةً لَهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ، مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الصَّوْتِ فِي الْأَدَاءِ وَلَا يَتَأَدَّى الْكَلَامُ بِدُونِهِ، فَهُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الِاعْتِمَادِ وَالرَّفْعِ فَمُحْدَثٌ.
قَالُوا: وَقَدِ اقْتَرَنَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ عَلَى وَجْهٍ مُعْسِرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا جِدًّا، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْحِسَّ شَاهِدٌ بِأَنَّ هَذَا الصَّوْتَ مَوْجُودٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا وَمَعْدُومًا بَعْدَ وُجُودِهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْقَدِيمِ، أَجَابُوا بِأَنَّ الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ ثُمَّ عُدِمَ بَعْدَ وُجُوِدِهِ هُوَ ظُهُورُ الصَّوْتِ الْقَدِيمِ لَا نَفْسُهُ، فَالْمُحْدَثُ وَقَعَ عَلَى الْإِدْرَاكِ لَا عَلَى الْمُدْرَكِ، كَمَا إِذَا سَمِعَ كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ عَدِمَ السَّمْعَ فَالْحُدُوثُ وَاقِعٌ عَلَى السَّمْعِ لَا عَلَى الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَأَصْحَابُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بَرِيئُونَ مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُخَالِفِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَقَدْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْعَبْدِ، فَقَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» "، قَالَ يَجْهَرُ بِهِ وَيُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» ، «وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ثُمَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "«مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» " فَأَضَافَ الصَّوْتَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ «الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، مَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَحْسَنَ مِنْهُ» ، فَأَضَافَ الصَّوْتَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] » ثُمَّ قَالَ:
بَابُ قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ " «يَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ» "، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ التِّلَاوَةُ وَالْأَدَاءُ وَمَا قَامَ بِهِمْ مِنَ الْأَصْوَاتِ، وَأَنَّهَا لَمْ تُجَاوِزْ حَنَاجِرَهُمْ، وَكَانَ الْبُخَارِيُّ قَدِ امْتُحِنَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ، فَتَجَرَّدَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَالَغَ فِي
ذَلِكَ فِي كِتَابِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) فَإِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِمْ فَهِيَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، فَالصَّوْتُ صَوْتُ الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، أَدَّاهُ الْعَبْدُ بِصَوْتِهِ كَمَا يُؤَدِّي كَلَامَ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ بِصَوْتِهِ، فَالْعَبْدُ مَخْلُوقٌ وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ وَأَفْعَالُهُ مَخْلُوقَةٌ وَصَوْتُهُ وَتِلَاوَتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَتْلُوُّ الْمُؤَدَّى بِالصَّوْتِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ فِي (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) عَلَى ذَلِكَ بِنُصُوصِ التَّبْلِيغِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وَقَوْلِهِ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: 79] وَهَذَا مِنْ رُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَصْلَيْنِ ضَلَّ فِيهِمَا أَهْلُ الزَّيْغِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مُجَرَّدُ تَبْلِيغِهِ، فَلَوْ كَانَ هُوَ قَدْ أَنْشَأَ أَلْفَاظَهُ لَمْ يَكُنْ مُبَلِّغًا بَلْ مُنْشِئًا مُبْتَدِئًا، وَلَا تَعْقِلُ الْأُمَمُ كُلُّهَا مِنَ التَّبْلِيغِ سِوَى تَأْدِيَةِ كَلَامِ الْغَيْرِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَلِهَذَا يُضَافُ الْكَلَامُ إِلَى الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا إِلَى الْمُبَلِّغِ.
وَأَيْضًا فَالتَّبْلِيغُ وَالْبَلَاغُ هُوَ الْإِيصَالُ، وَهُوَ مُعَدًّى مَنْ بَلَغَ إِذَا وَصَلَ، وَالْإِيصَالُ حَقِيقَةً أَنْ يُورِدَ إِلَى الْمُوصَلِ إِلَيْهِ مَا حَمَّلَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، فَلَهُ مُجَرَّدُ إِيصَالِهِ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّبْلِيغَ فِعْلُ الْمُبَلِّغِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مَقْدُورٌ لَهُ، وَتَبْلِيغُهُ هُوَ تِلَاوَتُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الصَّوْتُ وَالتِّلَاوَةُ وَصَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَزَلِيًّا وَتِلَاوَتُهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مَأْمُورًا بِهِ مُضَافًا إِلَى الْمَأْمُورِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّبْلِيغُ هُوَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ الْقَائِمِ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ» "، فَتَأَمَّلْ مَقْصُودَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ فَلَوْ كَانَتْ أَصْوَاتُنَا بِالْقُرْآنِ هِيَ نَفْسَ الصَّوْتِ الْقَدِيمِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لَمْ يَكُنِ الْوَحْيُ قَدِ انْقَطَعَ، بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ مَا دَامَتْ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ مَسْمُوعَةً بِالتِّلَاوَةِ، فَالْقَائِلُونَ إِنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْقَدِيمَ ظَهَرَ عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي، وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ بِهِ الْوَحْيَ إِلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ لَزِمَهُ لُزُومًا بَيِّنًا أَنَّ الْوَحْيَ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي كِتَابِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ خَفْتَ الصَّوْتِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ رَفِيعَ الصَّوْتِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، فَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَفِي الدَّلِيلِ أَنَّ صَوْتَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ ; لِأَنَّ صَوْتَ اللَّهِ يُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ مَنْ قُرْبٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصْعَقُونَ مِنْ صَوْتِهِ، فَإِذَا نَادَى جَبْرَائِيلُ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُصْعَقُوا، ثُمَّ سَاقَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالصَّوْتِ مُحْتَجًّا بِهَا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا فِيهِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَقَرَأَهُ تُرْجُمَانُ قَيْصَرَ عَلَى قَيْصَرَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي قِرَاءَةِ الْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا أَعْمَالُهُمْ، وَأَمَّا الْمَقْرُوءُ فَهُوَ كَلَامُ الْعَلِيمِ الْمَنَّانِ لَيْسَ بِخَلْقٍ، فَمَنْ حَلَفَ بِأَصْوَاتِ قَيْصَرَ أَوْ بِنِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِاللَّهِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ دُونَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «لَا تَحْلِفُوا بِغَيْرِ اللَّهِ» " وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَحْلِفَ بِالْخَوَاتِيمِ وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ وَأَلْوَاحِ الصِّبْيَانِ الَّتِي يَكْتُبُونَهَا ثُمَّ يَمْحُونَهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَإِنْ حَلَفَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «بَيْنَا أَنَا فِي الْجَنَّةِ سَمِعْتُ صَوْتَ رَجُلٍ بِالْقُرْآنِ» " فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْتَ غَيْرُ الْقُرْآنِ.
قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُ صِفَةُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، وَعِلْمُهُ وَأَسْمَائُهُ وَعِزُّهُ وَقُدْرَتُهُ بَائِنَةٌ مِنَ اللَّهِ أَمْ لَا، وَقَوْلُكَ وَكَلَامُكَ بَائِنٌ مِنَ اللَّهِ أَمْ لَا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39]، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] وَالْإِنْذَارُ مَنْ نُوحٍ وَهُوَ نَذِيرٌ مُبِينٌ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْغُفْرَانُ فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ