المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا] - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

[ابن الموصلي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[فصل فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ التَّأْوِيلِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]

- ‌[فصل تَنَازَعَ النَّاسُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ]

- ‌[فصل تَعْجِيزِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَنْ تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسُوغُ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وما لا يسوغ]

- ‌[فصل إِلْزَامِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ تَأَوُّلًا نَظِيرَ مَا فَرُّوا مِنْهُ]

- ‌[فَصْلٌ شبهات الجهمي في الوجه والعين والجنب والساق والجواب عليها]

- ‌[فصل فِي الْوَظَائِفِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ التَّأْوِيلَ شَرٌّ مِنَ التَّعْطِيلِ]

- ‌[فصل قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُخَاطَبِ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ يُنَافِي قَصْدَ الْبَيَانِ]

- ‌[فصل فِي بَيَانِهِ أَنَّهُ مَعَ كَمَالِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ]

- ‌[فصل بَيَانِ أَنَّ تَيَسُّرَ الْقُرْآنِ لِلذِّكْرِ يُنَافِي حَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمُخَالَفَاتِ لِحَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ]

- ‌[فَصْلُ اشْتِمَالُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا عَدَاهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَقْبَلُ التَّأَوُّلَ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَأْتِي الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ بِتَأْوِيلٍ إِلَّا أَمْكَنَ الْمُعَطِّلُ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ]

- ‌[فَصْلٌ أَسْبَابٌ قَبُولُ التَّأْوِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَا يُمْكِنُهُمْ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى مُبْطِلٍ أَبَدًا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الآفَاتِ]

- ‌[حُجَجُهُ سُبْحَانَهُ الْعَقْلِيَّةُ والسمعية على توحيده وأسمائه وصفاته]

- ‌[موافقة صريح العقل لصحيح النقل]

- ‌[كَسْرُ الطَّاغُوتِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ]

- ‌[تَقْدِيمَ الْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ]

- ‌[إتمام الله لدينه لا يحوجنا إلى العقل]

- ‌[اتفاق العقل والنقل]

- ‌[معارضة العقل للشرع من عادة الكفار]

- ‌[الاحتجاج بشهادة العقل وحده باطلة]

- ‌[غاية ما ينتهي إليه من عارض الشرع بالعقل]

- ‌[كذب من زعم أن السلف لا يدرون معاني ألفاظ الصفات]

- ‌[أنواع التوحيد الصحيحة والباطلة]

- ‌[تسمية أهل الزيغ توحيد الرسل شركا وتجسيما]

- ‌[لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا لا نفيا]

- ‌[الجهة والفوقية والعلو نفيها عنه سبحانه تعطيل]

- ‌[فصل إنكار القدرية خلق أفعال العباد وتسميتهم بذلك بالعدل]

- ‌[العقل يصدق ما جاء الوحي أشد مما يصدق كثير من المحسوسات]

- ‌[أصول المعارضين للشرع بالعقل تنفي وجود الصانع لا صفاته فحسب]

- ‌[فصل مذهب أهل الكلام في الصفات]

- ‌[معارضة الوحي بالعقل]

- ‌[الفطرة والمعقول يثبتان صفات الله]

- ‌[أحسن ما قيل في المثل الأعلى]

- ‌[الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ببعضها لا بمعقولات]

- ‌[إنكار الصحابة على من عارض النصوص بآراء الرجال]

- ‌[الجهمية أول من عارض الوحي بالرأي]

- ‌[قيام ابن تيمية بالحجة واليد على غزو أهل الضلال]

- ‌[إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه]

- ‌[إفحام من ينكر الصفات]

- ‌[توحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل]

- ‌[أقوى الطرق وأدلها على الصانع]

- ‌[الأصل الذي قاد إلى القول بالتعطيل]

- ‌[فصل اتفاق الحكماء مع السلف على علو الله]

- ‌[فصل مناقشة من يمنعون الإشارة الحسية إليه تعالى]

- ‌[مناقشة نفاة الصفات وإفحامهم]

- ‌[فصل الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ مُعْتَرِفُونَ بِوَصْفَهِ تَعَالَى بِعُلُوِّ الْقَهْرِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ]

- ‌[فصل رؤية الرب إمكانها بالعقل وإثباتها بالشرع]

- ‌[نفي الشبيه ليس في نفسه مدح]

- ‌[فَصْلٌ حُجَّةِ الْجَهْمِيِّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَسْخَطُ وَالْجَوَابُ عَنْهَا]

- ‌[إدراك حكمة الله في خلقه]

- ‌[معنى قضاء الله في عباده وتنزيهه عن الظلم]

- ‌[فصل استدلال الجبرية بقوله تعالى لا يسأَل عما يفعل]

- ‌[فصل ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أَصناف]

- ‌[فصل العدل الإلهي في الثواب والعقاب]

- ‌[فصل حكمة الله تعالى في خلق الضدين]

- ‌[فصل العبودية إنما تظهر عند الامتحان بالشهوات]

- ‌[حكمة الله تعالى في خلق إبليس]

- ‌[رحمة الله سبقت غضبة]

- ‌[فصل من عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الذي يستحقه]

- ‌[فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات]

- ‌[فصل القول بالمجاز قول مبتدع]

- ‌[تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم فاسد]

- ‌[تفريقهم بين الحقيقة والمجاز لاضطراد وفساده]

- ‌[أن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره]

- ‌[الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق لها ثلاث اعتبارت]

- ‌[أن الله تعالى هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم]

- ‌[اللغة كلها حقيقة أو كلها مجاز]

- ‌[أنواع القرائن]

- ‌[تقسيم معاني الكلام إلى خبر وطلب واستفهام]

- ‌[نقل كلام ابن جني في المجاز والرد عليه]

- ‌[فصل ذكر ما ادعوا فيه المجاز من القرآن]

- ‌[المثال الأول قوله وجاء ربك والملك صفا صفا]

- ‌[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

- ‌[المثال الثالث استواء الله على عرشه]

- ‌[المثال الرابع إثبات اليدين حقيقة لله تعالى]

- ‌[المثال الخامس إثبات الوجه لله تعالى حقيقة]

- ‌[المثال السادس اسم الله النور وقوله تعالى الله نور السماوات والأرض]

- ‌[المثال السابع إثبات فوقية الله تعالى على الحقيقة]

- ‌[المثال الثامن إثبات نزوله حقيقة]

- ‌[حديث الجمعة وهو شجي في حلوق المعطلة]

- ‌[حديث لقيط بن عامر الجهني وفيه فوائد]

- ‌[النزول إلى الأرض يوم القيامة تواترت به الأحاديث وجاء به القرآن]

- ‌[فصل اختلاف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال]

- ‌[فصل ثبوت الانتقال والحركة لله تعالى]

- ‌[المثال التاسع معية الله تعالى وقربه من عباده]

- ‌[المثال العاشر نداء الله ومناجاته وكلامه بحرف وصوت]

- ‌[فصل مذاهب الناس في كلام الله]

- ‌[مذهب الاتحادية]

- ‌[مذهب الفلاسفة المتأخرين]

- ‌[مذهب المعتزلة]

- ‌[مذهب الكلابية]

- ‌[مذهب الأشعري]

- ‌[مذهب الكرامية]

- ‌[مذهب السالمية]

- ‌[فصل مذهب أتباع الرسل]

- ‌[مسألة تكلم العباد بالقرآن]

- ‌[فصل جواب السؤال هل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة]

- ‌[فصل كون الكلام في محاله]

- ‌[فصل سماع كلام الله مباشرة وبواسكة]

- ‌[فصل وجود القرآن في المصحف]

- ‌[فصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك]

- ‌[فصل منشأ النزاع هل كلام الرب بمشيئتة أم لا]

- ‌[فصل هل يمكن وجود حرف نطقي بلا صوت]

- ‌[فصل الاحتجاج بالأحاديث النبوية على إثبات صفات الله المقدسة العلية]

- ‌[المقام الأول بيان إفادة النصوص الدلالة القاطعة على مراد المتكلم]

- ‌[المقام الثاني موافقة القرآن للحديث]

- ‌[فصل كلام الشافعي في الاحتجاج بالسنة]

- ‌[فصل المقام الرابع إفادتها للعلم واليقين]

- ‌[فصل التفصيل في خبر الواحد وأنه ليس سواء]

- ‌[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل استدلال ابن القيم على أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

- ‌[فصل الاستدلال بأحاديث الآحاد في العلم كالعمل]

- ‌[فصل المقام الخامس هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها]

- ‌[فصل المقام السابع اختلاف درجة الدليل بحسب درجة فهم المستدل]

- ‌[فصل المقام الثامن انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد]

- ‌[فصل ليس في السنة ما يخالف القرآن]

- ‌[فصل المقام التاسع والعاشر أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة]

الفصل: ‌[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

وَالْخَطَأِ فِيمَا نَقَلُوهُ إِلَى الْأُمَّةِ وَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ، عَنْهُمْ كَذَلِكَ، وَقَامَتْ شَوَاهِدُ صِدْقِهِمْ فِيهِ، فَهَذَا الْمُخْبِرُ يَقْطَعُ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَيُفِيدُهُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ لِمَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَسِيرَتِهِ، وَنَوْعٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمُخْبِرِينَ مَا عِنْدَ أُولَئِكَ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يُفِيدُهُمْ خَبَرُهُمُ الْيَقِينَ، فَإِذَا انْضَمَّ عَمَلُ الْمُخْبِرِ وَعِلْمُهُ بِحَالِ الْمُخْبِرِ وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَيْهِ، أَفَادَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِصِحَّةِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهَذَا فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ رَجُلٍ مُبْرَزٍ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَفُّظِ، عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَالْجُودِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مُعْدِمٌ فَقِيرٌ مَا يُغْنِيهِ؟ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَقِيرِ، فَكَيْفَ إِذَا تَعَدَّدَ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ وَكَثُرَتْ رِوَايَاتُهُمْ وَأَحَادِيثُهُمْ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَعَطَايَا مُتَنَوِّعَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُفِيدُ الْعِلْمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَصَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَأْمُورٌ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَفِي الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ كَثِيرٌ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بِلَفْظِهِ، لَكِنْ بِتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ مَحْفُوظًا وَلَا مَضْمُونًا سَلَامَتُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ بَطَلَ الِانْتِفَاعُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا فِيهِ إِذَا لَمْ نَدْرِ صَحِيحَ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ الْمُخْطِئُ أَوْ تَعَمَّدَ فِيهِ الْكَذِبَ الْكَاذِبُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا.

قَالَ: وَأَيْضًا فَنَقُولُ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَالْوَهْمُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْحِفْظِ: أَخْبِرُونَا هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ شَرِيعَةُ فَرْضٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَاتَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَجُهِلَتْ حَتَّى لَا يَعْلَمَهَا عِلْمَ الْيَقِينِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ أَبَدًا؟ وَهَلْ يُمْكِنُ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَوْضُوعٍ بِالْكَذِبِ أَوْ بِخَطَأٍ بِالْوَهْمِ قَدْ جَاوَزَ وَمَضَى وَاخْتَلَطَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ اخْتِلَاطًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيِّزَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ أَبَدًا، أَمْ لَا يُمْكِنُ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا يُمْكِنَانِ أَبَدًا بَلْ قَدْ أَمِنَّا ذَلِكَ، صَارُوا إِلَى قَوْلِنَا وَقَطَعُوا أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ رَوَاهُ الثِّقَةُ عَنِ الثِّقَةِ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، قَدْ قَالَهُ

ص: 566

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ خَبَرٌ مَوْضُوعٌ أَوْ مَوْهُومٌ فِيهِ لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ الْبَاطِلُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ أَبَدًا، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ قَدْ فَسَدَ وَبَطَلَ أَكْثَرُهُ وَاخْتَلَطَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَعَ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اخْتِلَاطًا لَا يُمَيِّزُهُ أَحَدٌ أَبَدًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَبَدًا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، وَلَا مَا وَضَعَ الْكَاذِبُونَ وَالْمُسْتَخِفُّونَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهَدْمٌ لِلدِّينِ وَتَشْكِيكٌ فِي الشَّرَائِعِ. ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُمْكِنًا عِنْدَكُمْ، فَهَلْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا.

فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَأْمُرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَحِقُوا بِالْمُعْتَزِلَةِ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهُمْ عَنِ الْقَوْلِ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ، قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالْعَمَلِ فِي دِينِهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِهِ مِمَّا وَضَعَهُ الْكَاذِبُونَ وَأَخْطَأَ فِيهِ الْوَاهِمُونَ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَنْسُبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَأْتِكُمْ بِهِ قَطُّ، وَمَا لَمْ يَقُلْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَهَذَا قَطْعٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عز وجل أَمَرَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَافْتَرَضَ الْعَمَلَ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا شَرَعَهُ الْكَاذِبُونَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَبِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَسْتَجِيزُ الْقَوْلَ بِهِ مُسْلِمٌ.

ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُكْمِ فِي الدِّينِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ عَنْ أَحَدٍ هَلْ بَقِيَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ أَمْ سَقَطَ عَنَّا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَيْنَا، قُلْنَا لَهُمْ كَيْفَ يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِمَا لَا نَدْرِي وَبِمَا لَمْ يَبْلُغْنَا أَبَدًا، وَهَذَا مِنْ تَحْمِيلِ الْإِصْرِ وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الَّذِي قَدْ آمَنَنَا اللَّهُ مِنْهُ.

وَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ سَقَطَ عَنَّا الْعَمَلُ بِهِ قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ نَسْخَ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ دِينِ الْإِسْلَامِ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُحْكَمَةٌ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ، فَأَخْبِرُونَا مَنِ الَّذِي نَسَخَهَا وَأَبْطَلَهَا، وَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ لَازِمَةٌ لَنَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِسْلَامِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ جُمْلَةً.

فَإِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ شَرِيعَةٍ. مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ لَازِمٌ لَنَا وَلَمْ

ص: 567

يُنْسَخْ، قُلْنَا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحِفْظِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ تُجِيزُوا تَمَامَ الْحِفْظِ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ لَا يَخْتَلِطَ بِهَا بَاطِلٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ قَطُّ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِهِ قَطُّ، وَهَذَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ مَنَعَ مِنْ سُقُوطِ شَرِيعَةِ حَقٍّ أَوْ أَجَازَ اخْتِلَاطَهَا بِالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ مَنْ مَنَعَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْحَقِّ فِي شَرِيعَةٍ بِالْبَاطِلِ، وَأَجَازَ سُقُوطَ شَرِيعَةِ حَقٍّ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ وَمُمْتَنِعٌ، قَدْ أَمِنَّا كَوْنَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى حَقٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فَنَسْأَلُهُمْ هَلْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْ، وَهَلْ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ أَمْ لَمْ يُبَلِّغْ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: فَمِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ، فَنَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ الْبَيَانِ، أَهُمَا بَاقِيَانِ عِنْدَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْ هُمْ غَيْرُ بَاقِيَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا بَاقِيَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا وَأَقَرُّوا أَنَّ الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الدِّينِ مُبَيَّنٌ مِمَّا لَمْ يُنْزِلْهُ، مُبَلَّغٌ إِلَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَهَذَا هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مِثْلُهُ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِغَيْبِهِ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا غَيْرُ بَاقِيَيْنِ، دَخَلُوا فِي عَظِيمَةٍ وَقَطَعُوا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ قَدْ بَطَلَ، وَأَنَّ التَّبْلِيغَ قَدْ سَقَطَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ بَيَانَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَثِيرَ مِنَ الدِّينِ قَدْ ذَهَبَ ذَهَابًا لَا يُوجَدُ مَعَهُ أَبَدًا، وَهَذَا قَوْلُ الرَّافِضَةِ، بَلْ شَرٌّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ أَنَّ حَقِيقَةَ الدِّينِ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ إِنْسَانٍ مَضْمُونٍ كَوْنُهُ فِي الْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْطَلُوهُ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كِلَا الْقَوْلَيْنِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وَقَالَ تَعَالَى ذَامًّا

ص: 568

لِقَوْمٍ فِي قَوْلِهِمْ {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا - وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 32 - 148] وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ نَقُولَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْقَوْلَ فِي دِينِهِ بِالظَّنِّ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ إِلَّا بِعِلْمٍ، فَلَوْ كَانَ لِخَبَرِ الْمَذْكُورِ يَجُوزُ فِيهِ الْكَذِبُ أَوِ الْوَهْمُ لَكَانَ قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، وَلَكَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا نَتَيَقَّنُهُ، وَالَّذِي هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِّ شَيْئًا، وَالَّذِي هُوَ غَيْرُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْكُ وَالْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ وَالَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ بِهِ.

فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ حَقٌّ مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ مَعًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، فَصَارَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ بِإِيجَابِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَنٌّ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ قَائِلًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَنَا بِأَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَأَنْ نَحْكُمَ فِي دِينِنَا بِالظَّنِّ الَّذِي قَدْ حُرِّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِهِ فِي الدِّينِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] فَنَقُولُ لِمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مِنْ بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْدِيلُ، وَأَنْ يَخْتَلِطَ بِالْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَبَدًا، أَخْبِرُونَا عَنْ إِكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا دِينَنَا وَرِضَاهُ الْإِسْلَامَ لَنَا دِينًا وَمَنْعِهِ مِنْ قَبُولِ كُلِّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، أَكُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ عَلَيْنَا وَلَنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَقَطْ، أَوْ لَا لِلصَّحَابَةِ وَلَا لَنَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ.

فَإِنْ قَالُوا: لَا لِلصَّحَابَةِ وَلَا لَنَا، كَانَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ كَافِرًا لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ جِهَارًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ لَنَا وَعَلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، صَارُوا إِلَى قَوْلِنَا ضَرُورَةً، وَصَحَّ أَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا كَامِلَةٌ وَالنِّعْمَةَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا تَامَّةٌ، وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الدِّينُ عِنْدَهُ مُتَمَيِّزٌ مِنْ غَيْرِهِ، قَدْ هَدَانَا

ص: 569

بِفَضْلِهِ لَهُ، وَإِنَّا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ ضَرُورِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُنَا مَحْفُوظٌ لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَبَدًا.

وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ فَقَطْ، قَالُوا الْبَاطِلَ، وَخَصَّصُوا خِطَابَ اللَّهِ بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، إِذْ خِطَابُهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمُومٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الْأَبَدِ، وَلَزِمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَيْرُ كَامِلٍ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى رَضِيَ لَنَا مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَيْنَا وَأَلْزَمَنَا مِنْهُ مَا لَا نَدْرِي أَيْنَ نَجِدُهُ، وَافْتَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ مَا كَذَّبَهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُسْتَحِقُّونَ وَوَضَعُوهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَوْ وَهِمَ فِيهِ الْوَاهِمُونَ مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيُّهُمْ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا بِيَقِينٍ لَيْسَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ جِهَارًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا (وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ) لَكَانَ دِينُنَا كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَتَبُوا الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ قَدْ وَثِقْنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ هَدَانَا لِلْحَقِّ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ هَدَانَا تَعَالَى لَهُ وَأَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمًا ظَاهِرًا.

قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ، وَمَا عَلِمْنَا عِلْمًا ظَاهِرًا غَيْرَ بَاطِنٍ وَلَا عِلْمًا بَاطِنًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، بَلْ كُلُّ عِلْمٍ يُتَيَقَّنُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ عَلِمَهُ وَبَاطِنٌ فِي قَلْبِهِ، وَكُلُّ ظَنٍّ لَمْ يُتَيَقَّنْ فَلَيْسَ عِلْمًا أَصْلًا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَشَكٌّ وَظَنٌّ مُحَرَّمٌ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ.

وَنَقُولُ لَهُمْ إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ قَدِ اخْتَلَطَ بِالْبَاطِلِ فَمَا يُؤَمِّنُكُمْ إِذْ لَيْسَ مَحْفُوظًا أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّرَائِعِ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ أَصْلًا فَإِذَا مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْمَنْعُ مِنِ اخْتِلَاطِهِمْ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي الْأَمَانَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ أُمَّتَهُ

ص: 570

مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَاجِبِهَا وَحَرَامِهَا وَحَلَالِهَا، فَإِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 34 - 115] فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الَّذِينَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَبُولَ نَقْلِهِمْ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْقَوْلَ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ وَبَيَانُ نَبِيِّهِ يُمْكِنُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّحْوِيلُ أَوِ التَّبْدِيلُ لَكَانَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهَا تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ كَذِبًا، وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ مُسْلِمٌ أَصْلًا، فَصَحَّ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ سُنَّةٍ سَنَّهَا اللَّهُ عز وجل لِرَسُولِهِ وَسَنَّهَا رَسُولُهُ لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ أَبَدًا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ نَقْلَ الثِّقَاتِ فِي الدِّينِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ كَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْبَلَاغِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ مَعْصُومًا فِي تَبْلِيغِهِ إِلَيْنَا وَنَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْفَضِيلَةِ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبْلِيغِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا أَهِيَ لَهُ فِي إِخْبَارِهِ الصَّحَابَةَ بِذَلِكَ فَقَطْ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ لِمَا أَتَى بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بُلُوغِهِ إِلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هِيَ لَهُ مَعَ مَنْ شَاهَدَهُ خَاصَّةً لَا فِي بُلُوغِ الدِّينِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، قُلْنَا لَهُمْ: إِذًا قَدْ جَوَّزْتُمْ بُطْلَانَ الْعِصْمَةِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَجَوَّزْتُمْ وُجُودَ الدَّاخِلَةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا جَوَّزْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَهُ وَبَيْنَ مَا مَنَعْتُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؟ ، فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُبَلِّغٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَلَا مَعْصُومٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الْآيَةَ (قِيلَ) : نَعَمْ وَهَذَا التَّبْلِيغُ الْمُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْصُومٌ فِيهِ بِإِجْمَاعِكُمْ مَعَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ هُوَ إِلَيْنَا كَمَا هُوَ إِلَى الصَّحَابَةِ وَلَا فَرْقَ، وَالدِّينُ لَازِمٌ لَنَا كَمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ سَوَاءً، فَالْعِصْمَةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّبْلِيغِ لِلدِّيَانَةِ بَاقِيَةٌ مَضْمُونَةٌ وَلَا بُدَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِالدِّينِ عَلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى الصَّحَابَةِ سَوَاءً، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدَ قَطَعَ بِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ غَيْرُ قَائِمَةٍ، وَالْحُجَّةُ لَا تَقُومُ بِمَا لَا يُدْرَى أَحَقٌّ هُوَ أَمْ كَذِبٌ.

ثُمَّ نَقُولُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]

ص: 571

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وَإِنِ ادَّعَوْا إِجْمَاعًا، قِيلَ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مَعْصُومٍ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُعَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ (قُلْنَا لَهُمْ) : صَدَقْتُمْ وَلَا يُعَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدِّينَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَطَلَتْ وَاخْتَلَطَتْ بِالْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَوْهُومِ فِيهِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَلَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دِينِ إِبْلِيسَ.

(وَإِنْ قَالُوا) : إِنَّ الْفَضِيلَةَ بِعِصْمَةِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدِّينِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، صَارُوا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

(فَإِنْ قَالُوا) : إِنَّ صِفَةَ كُلِّ مُخْبِرٍ وَطَبِيعَتَهُ أَنَّ خَبَرَهُ يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَالْخَطَأُ، وَقَوْلُكُمْ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إِحَالَةُ الطَّبِيعَةِ وَخَرْقُ الْعَادَةِ فِيهِ.

قُلْنَا: لَا يُنْكَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِحَالَةُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّبَائِعِ إِذَا صَحَّ الْبُرْهَانُ بِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ إِنْكَارِكُمْ هَذَا مَعَ قَوْلِكُمْ بِهِ بِعَيْنِهِ فِي إِيَجَابِكُمْ عِصْمَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ فِي تَبْلِيغِهِ الشَّرِيعَةَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ، بَلْ لَمْ تَقْنَعُوا بِالتَّنَاقُضِ إِذَا أَصَبْتُمْ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأْتُمْ فِي مَنْعِكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِالْبَاطِلِ الْمَحْضِ، إِذْ جَوَّزْتُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مُوَافَقَةَ الْخَطَأِ فِي إِجْمَاعِهَا فِي رَأْيِهَا، وَذَلِكَ طَبِيعَةٌ فِي الْكُلِّ وَصِفَةٌ لَهُمْ، وَمَنَعْتُمْ مِنْ جَوَازِ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً فِي اجْتِهَادِهَا فِي الْقِيَاسِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ عَيْنُ الْبَاطِلِ، فَخَرَقْتُمْ بِذَلِكَ الْعَادَةَ وَأَحَلْتُمُ الطَّبَائِعَ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُخَالِفُ لَنَا مِنَ الْمُرْجِئَةِ الْقَاطِعِينَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَقٌّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَالُوا الطَّبَائِعَ بِلَا بُرْهَانٍ وَمَنَعُوا مِنْ إِحَالَتِهَا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ بِإِحَالَتِهَا.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِنَّ نَقَلَةَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومُونَ فِي نَقْلِهَا وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَعْصُومٌ فِي نَقْلِهِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَوُقُوعِ الْوَهْمِ مِنْهُ.

قُلْنَا لَهُمْ: نَعَمْ هَكَذَا نَقُولُ وَبِهِ نَقْطَعُ، وَكُلُّ عَدْلٍ رَوَى خَبَرًا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 572

فِي الدِّينِ فَذَلِكَ الرَّاوِي مَعْصُومٌ فِيهِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، مَقْطُوعٌ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْ جَوَازِ الْوَهْمِ فِيهِ إِلَّا بِبَيَانٍ وَارِدٍ وَلَا بُدَّ مِنَ اللَّهِ بِبَيَانِ مَا وَهِمَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ سُبْحَانَهُ بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ وَاهِمًا لِقِيَامِ الْبَرَاهِينِ الَّتِي قَدَّمْنَا مِنْ حِفْظِ جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهَا.

قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ حَقٌّ فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ.

(قَالَ ابْنُ حَزْمٍ) : فَإِنْ قَالُوا: قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: " «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا» ".

قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحُكْمِ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ بَلْ كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِيجَابِ مَا لَا نَعْلَمُ، وَبَيَّنَ لَنَا كُلَّ مَا أَلْزَمَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكُلِّ ذَلِكَ كَمَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا فَرْقَ، وَلَمْ يَجُزِ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْعَدْلُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَبِمَا شَهِدَ بِهِ الْعَدْلَانِ فَصَاعِدًا، وَبِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَقُمْ بِالْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فِي إِبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَبْشَارِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ عَلَيْنَا قَوْلَهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.

قُلْنَا لَهُمْ: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فُرُوقٌ وَاضِحَةٌ كَالشَّمْسِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ وَتَبْيِينِهِ مِنَ الْغَيِّ وَمِمَّا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَفَّلْ تَعَالَى بِحِفْظِ دِمَائِنَا وَلَا بِحِفْظِ فُرُوجِنَا وَلَا بِحِفْظِ أَبْشَارِنَا وَأَمْوَالِنَا فِي الدُّنْيَا، بَلْ قَدَّرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُولُ: " «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ

ص: 573

بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» " وَبِقَوْلِهِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ:" «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ".

وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَنَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْحَالِفِ لَيْسَ حُكْمًا بِالظَّنِّ كَمَا زَعَمُوا بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ مَعَ الشَّهَادَةِ الْعَدْلِ وَبِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ وَالْعَدْلَيْنِ وَالْعُدُولِ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ كَاذِبِينَ أَوْ وَاهِمِينَ، فَالْحُكْمُ بِكُلِّ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَنَا مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهِ.

بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَاكِمًا لَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَلَمْ يَحْكُمْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ، أَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى ظَالِمٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُبْطِلًا فِي إِنْكَارِهِ أَوْ مُحِقًّا أَوْ كَانَ الشُّهُودُ كَذَبَةً أَوْ وَاهِمِينَ أَوْ صَادِقِينَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَ أَمْرِهِمْ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ يَقِينًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا أَنْ نَقْتُلَ هَذَا الْبَرِيءَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَنْ نُبِيحَ هَذَا الْفَرْجَ الْحَرَامَ الْمَشْهُودَ فِيهِ بِالْكَذِبِ، وَأَنْ نُبِيحَ هَذِهِ الْبَشَرَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَهَذَا الْمَالَ الْحَرَامَ الْمَشْهُودَ فِيهِ الْبَاطِلُ، وَحَرُمَ عَلَى الْمُبْطِلِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَضَى تَعَالَى بِأَنَّنَا إِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِذَلِكَ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ لَهُ، ظَلَمَةٌ مُتَوَعَّدُونَ بِالنَّارِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي الدِّينِ بِخَبَرٍ وَضَعَهَ فَاسِقٌ أَوْ وَهَمَ وَفِيهِ وَاهِمٌ فَهَذَا فَرْقٌ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

وَفَرْقٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَأَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِكَذَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَفَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ نَهَانَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرَنَا بِكَذَا، وَلَمْ يَأْمُرْنَا قَطُّ أَنْ نَقُولَ: شَهِدَ هَذَا الشَّاهِدُ بِحَقٍّ وَلَا حَلَفَ هَذَا الْحَالِفُ عَلَى حَقٍّ، وَلَا أَنَّ هَذَا الَّذِي قَضَيْنَا بِهِ لِهَذَا حَقٌّ

ص: 574

يَقِينًا، لَكِنَّ اللَّهَ قَالَ: احْكُمُوا بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ، وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، فَلَمْ نَحْكُمْ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَلْ بِعِلْمٍ قَاطِعٍ فَإِذَا قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الظَّنِّ إِثْمٌ (قُلْنَا) : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْإِثْمَ مِنَ الْبِرِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَرَامٌ، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ بِلَا شَكٍّ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَلَجَأَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحُكْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِلدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّصُوا، بَلْ كُلُّ مَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَاهَا، الْآحَادُ، أَهِيَ كُلُّهَا حَقٌّ إِذَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ خَاصَّةً أَمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ، أَمْ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ؟ .

فَإِنْ قَالُوا: فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قُلْنَا لَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَبْطُلَ شَرِيعَةٌ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِلَى نَبِيِّهِ حَتَّى تَخْتَلِطَ بِكَذِبٍ وَضَعَهُ فَاسِقٌ فَنَسَبَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ وَهِمَ فِيهِ وَاهِمٌ فَيَخْتَلِطَ الْحَقُّ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعَ الْبَاطِلِ الْمُخْتَلَقِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ أَبَدًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَهَلِ الشَّرَائِعُ الْإِسْلَامِيَّةُ كُلُّهَا مَحْفُوظَةٌ لَازِمَةٌ لَنَا، أَمْ هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَا كُلُّهَا لَازِمٌ لَنَا، بَلْ قَدْ سَقَطَ مِنْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَهَلْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْنَا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْنَا مِنَ الشَّرَائِعِ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لَنَا مُتَمَيِّزَةٌ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْنَا بِهِ، أَمْ لَمْ تَقُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُ مُخْتَلِطٌ بِالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهُ أَبَدًا.

فَإِنْ أَجَازُوا اخْتِلَاطَ شَرَائِعِ الدِّينِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إِلَى نَبِيِّهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالُوا: لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ بِفَسَادِ الشَّرِيعَةِ وَذَهَابِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانِ ضَمَانِ اللَّهِ لِحِفْظِ الذِّكْرِ، كَالَّذِي دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ الصَّحِيحِ كَمَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَطَلَ بَيَانُهُ وَأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْنَا، وَإِنْ لَجَئُوا إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَنْفَكُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ قَدْ بَطَلَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ وَبِالْمَوْهُومِ فِيهِ، وَمِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، إِذْ قَدْ بَطَلَ ضَمَانُ حَفْظِ اللَّهِ فِيهَا.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَعْجِزُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي أَيِّ خَبَرٍ شَاءَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ بَلْ

ص: 575