الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُصُولَهُ لِأَنْفُسِهِمْ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي حُصُولِهِ لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ أَنْكَرُوا حُصُولَهُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ كَانُوا مُكَابِرِينَ لَهُمْ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُكَابِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ فَرَحِهِ وَأَلَمِهِ، وَخَوْفِهِ وَحُبِّهِ، وَالْمُنَاظَرَةُ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَمْ يَبْقَ فِيهَا فَائِدَةٌ، وَيَنْبَغِي الْعُدُولُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْمُبَاهَلَةِ، قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]
[فصل التفصيل في خبر الواحد وأنه ليس سواء]
فَصِلٌ
خَبَرُ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَتَارَةً يُجْزَمُ بِكَذِبِهِ لِقِيَامِ دَلِيلِ كَذِبِهِ وَتَارَةً يُظَنُّ كَذِبُهُ إِذَا كَانَ دَلِيلُ كَذِبِهِ ظَنِّيًّا، وَتَارَةً يُتَوَقَّفُ فِيهِ فَلَا يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ أَحَدِهِمَا، وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا يُجْزَمُ بِهِ، وَتَارَةً يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، فَلَيْسَ خَبَرٌ وَاحِدٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَلَا الظَّنَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ، فَلَا وَجْهَ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ، بَلْ نَقُولُ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: خَبَرُ مَنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ جَلَّ وَعَلَا وَخَبَرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
الثَّانِي: خَبَرُ الْوَاحِدِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَدِّقُهُ كَخَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي أَخْبَرَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «أَنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ " فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ» ، وَكَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ فَقَالَ:" قَدْ رَأَيْتُهُ " وَمِنْ هَذَا تَرْتِيبُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ لَهُ مُقْتَضَاهُ كَغَزْوِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِنَقْضِ قَوْمٍ الْعَهْدَ وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَتَمَهُ وَنَالَ مِنْ عِرْضِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
فَهَذَا تَصْدِيقٌ لِلْمُخْبِرِ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ بِصِدْقِ أَصْحَابِهِ كَمَا قَطَعَ بِصِدْقِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الدَّجَّالِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ قَالَ:(حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ) وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ
يَرَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَا يَجْزِمُ بِصِدْقِ أَصْحَابِهِ، وَيُرَتِّبُ عَلَى أَخْبَارِهِمْ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ شَهَادَةً عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، لَا نَمْتَرِي فِيهَا وَلَا نَشُكُّ عَلَى صِدْقِهِمْ وَنَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنَّا دَفْعُهُ عَنْ نُفُوسِنَا، وَمِنْ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَجْزِمُ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ مِنْ رُؤْيَا الْمَنَامِ، وَيَجْزِمُ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهَا وَيَقُولُ إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ، وَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِتَصْدِيقِهِ لِمَنْ أَخْبَرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذَا إِخْبَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْزِمُونَ بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِمَنْ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرُكَ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ حَتَّى يَتَوَافَرَ، وَتَوَقَّفَ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ حَتَّى عَضَّدَهُ آخَرُ مِنْهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَثْبِتُ أَحْيَانًا نَادِرَةً جِدًّا إِذَا اسْتَخْبَرَ.
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ يَشُكُّونَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو ذَرِّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ كَانُوا لَا يَشُكُّونَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنَ الدَّهْرِ: خَبَرُكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَكَانَ حَدِيثُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْمُخْبِرُ لَهُمْ أَجَلَّ فِي أَعْيُنِهِمْ وَأَصْدَقَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا رَوَى لِغَيْرِهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاعْتَقَدَ تِلْكَ الصِّفَةَ بِهِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ كَمَا اعْتَقَدَ رُؤْيَةَ الرَّبِّ وَتَكْلِيمَهُ وَنِدَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِبَادِهِ بِالصَّوْتِ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْبَعِيدُ كَمَا يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ، وَنُزُولُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَضَحِكُهُ وَفَرَحُهُ وَإِمْسَاكُ سَمَاوَاتِهِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ وَإِثْبَاتُ الْقَدَمِ لَهُ.
مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مِمَّنْ حَدَّثَ بِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ صَاحِبٍ اعْتَقَدَ ثُبُوتَ مُقْتَضَاهَا بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا مِنَ الْعَدْلِ الصَّادِقِ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ فِيهَا حَقٌّ حَتَّى
أَنَّهُمْ رُبَّمَا تَثَبَّتُوا فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَسْتَظْهِرُوا بِآخَرَ كَمَا اسْتَظْهَرَ عُمَرُ رضي الله عنه بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى خَبَرِ أَبِي مُوسَى، كَمَا اسْتَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الِاسْتِظْهَارَ فِي رِوَايَةِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الْبَتَّةَ بَلْ كَانُوا أَعْظَمَ مُبَادَرَةً إِلَى قَبُولِهَا وَتَصْدِيقِهَا وَالْجَزْمِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ بِهَا مِنَ الْمُخْبِرِ لَهُمْ بِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِالسُّنَّةِ وَالْتِفَاتٍ إِلَيْهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَوْلَا وُضُوحُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ لَذَكَرْنَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ.
فَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ نُفَاةُ الْعِلْمِ عَنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ خَرَقُوا بِهِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ وَإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَوَافَقُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّةَ وَالرَّافِضَةَ وَالْخَوَارِجَ الَّذِينَ انْتَهَكُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ، وَتَبِعَهُمْ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ سَلَفٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ بَلْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ.
فَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ.
قَالَ ابْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانُ، وَيَقَعُ بِهَذَا الضَّرْبِ أَيْضًا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ: نَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَنَقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَكَذَلِكَ رَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَاهُنَا اثْنَانِ يَقُولَانِ إِنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ عَمَلًا وَلَا يُوجِبُ عِلْمًا فَعَابَهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا، وَقَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا إِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ الْمُخْبِرِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ فِيهِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَأَصْحَابُنَا يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ فِيهِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنْ لَمْ تَتَلَقَّهُ بِالْقَبُولِ، قَالَ: وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا حَكَيْتُ لَا غَيْرُ.
فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ يُحَتَّمُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ حُكْمٌ أَوْ فَرْضٌ عَمِلْتُ بِهِ وَدِنْتُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي يُونُسَ فِي أَوَّلِ الْإِرْشَادِ: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، وَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْكِفَايَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كُتُبِهِ الْأُصُولِ كَالتَّبْصِرَةِ وَشَرْحِ اللُّمَعِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا لَفْظُهُ فِي الشَّرْحِ: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ، وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَصَرَّحَتِ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُسْتَفِيضَ يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» " قَالُوا: مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، قَالُوا: وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ، قَالُوا: وَنَحْوُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي إِعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ، قَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَإِنْ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ فَإِنَّهَا عِنْدَنَا شُذُوذٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرٍ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثْبِيتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ أَوْ يُخْبَرُ مِثْلُهُ مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَالنَّظَرِ فِيهَا وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ، دَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إِلَى حُكْمِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ، فَأَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ، هَذَا لَفْظُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فِي كِتَابِهِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ اسْتِفَاضَةُ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالنِّدَاءِ وَالنُّزُولِ وَالتَّكْلِيمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنِ اسْتِفَاضَةِ حَدِيثِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَحَدِيثِ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَحَدِيثِ فَرْضِ الْجَدَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ اسْتِفَاضَةِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَاسْتِفَاضَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَهَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذِهِ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَتِلْكَ لَا تُوجِبُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاهِتًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا
فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافِ مَالِكٍ، وَنَصَرَهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُوجِبُهُ نَصُّ الْكِتَابِ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي الْكِتَابَيْنِ.
قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ سُنَّةٍ مِنْ خَبَرِ الْخَاصَّةِ الَّذِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْخَبَرُ فِيهِ فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِانْفِرَادِ، فَالْحُجَّةُ فِيهِ عِنْدِي أَنْ يَلْزَمَ الْعَالِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ رَدُّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعُدُولِ لَا أَنَّ ذَلِكَ إِحَاطَةٌ كَمَا يَكُونُ نَصُّ الْكِتَابِ وَخَبَرُ الْعَامَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ شَكَّ فِي هَذَا شَاكٌّ لَمْ نَقُلْ لَهُ تُبْ، وَقُلْنَا لَيْسَ لَكَ إِنْ كُنْتَ عَالِمًا أَنْ تَشُكَّ كَمَا لَيْسَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِمُ الْغَلَطُ، وَلَكِنْ تَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ صِدْقِهِمْ، وَاللَّهُ وَلِيُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ ذَلِكَ. اه.
فَهَذَا نَصُّهُ فِي خَبَرٍ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَكَلَامُنَا فِي أَخْبَارٍ تُلُقِّيَتْ بِالْقَبُولِ وَاشْتَهَرَتْ فِي الْأُمَّةِ وَصَرَّحَ بِهَا الْوَاحِدُ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، بَلْ قَبِلَهُ السَّامِعُ وَأَثْبَتَ بِهِ صِفَةَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَاهَا، كَمَا أَنْكَرَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرَّبِّ الْخَبَرِيَّةَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْأَخِيرِ فَقَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَعْنِي مَنْ يُنَاظِرُهُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: أَتَّهِمُ جَمِيعَ مَا رَوَيْتَ عَمَّنْ رَوَيْتَهُ عَنْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ غَلَطَ كُلِّ مُحَدِّثٍ عَنْهُمْ عَمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ إِذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّهَمَ حَدِيثُ أَهْلِ الثِّقَةِ، قُلْتُ: فَهَلْ رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ بِصِدْقِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَنَا وَعَلِمْنَا أَنَّ مَنْ سَمَّيْنَا قَوْلَهُ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَعِلْمُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ عِلْمُنَا بِأَنَّ مَنْ سَمَّيْنَاهُ قَالَهُ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ فَإِذَا اسْتَوَى الْعِلْمَانِ مِنْ خَبَرِ الصَّادِقِ فَأَوْلَى بِنَا أَنْ نُصَيِّرَ إِلَيْهِ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَأْخُذَ بِهِ أَوِ الْخَبَرِ عَمَّنْ دُونَهُ، قَالَ: بَلِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ ثَبَتَ، قُلْتُ: ثُبُوتُهُمَا وَاحِدٌ، قَالَ: فَالْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِنَا أَنْ نَصِيرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَدْخَلْتُمْ عَلَى الْمُخْبِرِينَ عَنْهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِمُ الْغَلَطُ دَخَلَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ مُخَالِفَ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ قُلْتَ: نُثْبِتُ بِخَبَرِ الصَّادِقِينَ) فَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ.
فَقَدْ نَصَّ كَمَا تَرَى بِأَنَّهُ إِذَا رَوَاهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ يُصَدَّقُ الرَّاوِي عِنْدَنَا وَلَا يُنَاقَضُ، هَذَا نَصُّهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا نَفَى هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِلْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، قَالَ: فَقَطَعَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِقَبُولٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنَّ قَبُولَ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُمْ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ قَوْمٌ وَيَرُدُّهُ قَوْمٌ، الثَّانِي: خَبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَقْطَعُ بِصِدْقِهِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِ، الثَّالِثُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُقِرُّ عَلَى الْكَذِبِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْهُ، فَلَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَمْ تَتَّفِقْ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تَكْذِيبِهِ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكْتَسَبٌ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ. .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قُلْتُ حَصْرُهُ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لَيْسَ بِجَامِعٍ؛ لِأَنَّ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ مَا تَلَقَّاهُ الرَّسُولُ أَيْضًا بِالْقَبُولِ، كَأَخْبَارِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ مُصَدِّقًا لَهُ فِيهِ، وَمِنْهَا إِخْبَارُ شَخْصَيْنِ عَنْ قِصَّةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَيْهَا وَيَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهَا وَالْخَطَأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ وَلَا تَنْحَصِرُ، بَلْ يَجِدُ الْمُخْبَرُ عِلْمًا لَا يَشُكُّ فِيهِ بِكَثِيرٍ مِنْهَا، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ أَنَّهُ شَاهَدَهُ، فَإِذًا يَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا ضَرُورِيًّا أَوْ يُقَارِبُ الضَّرُورَةَ، وَكَمَا إِذَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ ضَرَرٌ، فَأَخْبَرَ بِهِ تَدَيُّنًا وَخَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا إِذَا أَتَى بِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِحَدٍّ ارْتَكَبَهُ يَطْلُبُ تَطْهِيرَهُ مِنْهُ بِالْحَدِّ، أَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ يُطْلَبُ مِنْهُ، وَلَا
مَخَافَةَ تَلْحَقُهُ فِي الْإِنْكَارِ، أَوْ أَخْبَرَ الْمُفْتِيَ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، أَوْ أَخْبَرَ الطَّبِيبَ بِأَلَمٍ يَجِدُهُ، يَطْلُبُ زَوَالَهُ إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَقْطَعُ السَّامِعُ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهَا، فَكَيْفَ يَنْشَرِحُ صَدْرًا وَيَنْطَلِقُ لِسَانًا بِأَنَّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم إِذَا قَالُوا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا وَكَذَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ عِلْمًا الْبَتَّةَ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِخَبَرٍ جُزِمَ بِصِدْقِهِمْ، وَنَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَخْبَرُوا سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَزَمَ بِصِدْقِهِمْ، بَلْ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ سَالِمًا وَنَافِعًا وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَمْثَالَهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَنَحْوُهُمْ كَذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ مَنْ عَرَفَ الْقَوْمَ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَقُولُ فِيهِ مَالِكٌ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِخَطَأِ مُنَازِعِينَا فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ صَارَ كَالْمُتَوَاتِرِ، حَكَى ذَلِكَ ابْنُ بُرْهَانَ وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا ادَّعَى عَلَى جَمَاعَةٍ بِحَضْرَتِهِمْ صِدْقَهُ فَسَكَتُوا صَارَ خَبَرُهُ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَجْحَدُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَالتَّكْفِيرُ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ مُنْكِرُ إِفَادَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ قَاسَ الْمُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرْعٍ عَامٍّ لِلْأُمَّةِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَبَرِ الشَّاهِدِ عَلَى قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَذَبَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ لَزِمَ عَلَى ذَلِكَ إِضْلَالُ الْخَلْقِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَتْ بِمُوجَبِهِ وَأَثْبَتَتْ بِهِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالِهِ، فَإِنَّ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ شَرْعًا مِنَ الْأَخْبَارِ لَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ كُلُّهُمْ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ دَلِيلٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ شَرْعًا لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
هَذَا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ شَرْعِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مُعَيَّنٍ فَهَذِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مُقْتَضَاهَا ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَحَرَّفَ مَسْأَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الَّذِي تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ وَتَعَرَّفَ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كِذِبًا وَبَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَحُجَجُ اللَّهِ لَا تَكُونُ كَذِبًا وَبَاطِلًا، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَكَافَأَ أَدِلَّةُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ مُشْتَبِهًا لِلْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَتَعَبَّدَ بِهِ خَلْقَهُ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَوَحْيِ الشَّيْطَانِ وَوَحْيِ الْمَلَكِ عَنِ اللَّهِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَلَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَقِّ نُورًا كَنُورِ الشَّمْسِ يَظْهَرُ لِلْبَصَائِرِ الْمُسْتَنِيرَةِ، وَأَلْبَسَ الْبَاطِلَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَشْتَبِهَ الْبَاطِلُ بِالنَّهَارِ عَلَى أَعْمَى الْبَصَرِ، كَمَا يَشْتَبِهُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ عَلَى أَعْمَى الْبَصِيرَةِ.
قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فِي قَضِيَّتِهِ، تَلَقَّ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، وَلَكِنْ لَمَّا أَظْلَمَتِ الْقُلُوبُ وَعَمِيَتِ الْبَصَائِرُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَازْدَادَتِ الظُّلْمَةُ بِاكْتِفَائِهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ، الْتَبَسَ عَلَيْهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَجَوَّزَتْ عَلَى أَحَادِيثِهِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي رَوَاهَا أَعْدَلُ الْأُمَّةِ وَأَصْدَقُهَا أَنْ تَكُونَ كَذِبًا، وَجَوَّزَتْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهَا أَنْ تَكُونَ صِدْقًا فَاحْتَجَبَ بِهَا.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا وَخَطَأً وَلَا يَنْصِبُ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقُولُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ مَتَى وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَجَبَ ثُبُوتُ مُخْبِرِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا تَنَازَعُوا فِي كُفْرِ تَارِكِهِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي كُفْرِ جَاحِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ رَدَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ اعْتِقَادًا لِغَلَطِ النَّاقِلِ أَوْ كَذِبِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِ الرَّادِّ أَنَّ الْمَعْصُومَ لَا يَقُولُ هَذَا، أَوْ لِاعْتِقَادِ نَسْخِهِ وَنَحْوِهِ، فَرَدَّهُ اجْتِهَادًا وَحِرْصًا عَلَى نَصْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْسُقُ فَقَدْ رَدَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْضَ أَخْبَارِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا رَدَّ عُمَرُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إِسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَكَمَا رَدَّتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَبَرِ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَهَذِهِ رِوَايَةٌ انْفَرَدَ بِهَا الْأَثْرَمُ، وَلَيْسَتْ فِي مَسَائِلِهِ، وَلَا فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِ مَعَانِي الْحَدِيثِ، وَالْأَثْرَمُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ
لَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنْ وَاهِمٍ وُهِمَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِهِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ، بَلِ الْمَرْوِيُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ جَزَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، وَالْخَبَرُ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، فَكَانَ يَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ، وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ تَحْرِيمٍ عَلَيْهَا، وَيَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا تَوَرُّعًا، بَلْ يَقُولُ: أَكْرَهُ كَذَا وَأَسْتَحِبُّ كَذَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِذَنْبٍ عَمِلَهُ وَلَا لِكَبِيرَةٍ أَتَاهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ فَنُصَدِّقَهُ وَنَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ وَلَا نَنُصَّ الشَّهَادَةَ، وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِصَالِحٍ عَمِلَهُ وَلِخَيْرٍ أَتَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فَنَقْبَلَهُ كَمَا جَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَا نَنُصَّ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا نَنُصُّ الشَّهَادَةَ، مَعْنَاهُ عِنْدِي وَلَا نَقْطَعَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَفْظُ " نَنُصَّ " هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ لَا نَشْهَدُ عَلَى الْمُعَيَّنِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ: نَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ، وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَشْهَدُ وَأَعْلَمُ وَاحِدٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ بِمُوجَبِ خَبَرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ يَقُولُونَ: أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُفِيدُ الْعِلْمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] .
وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] قَالُوا: فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ كُلِّهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلُّ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] فَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ السُّنَّةَ كَمَا أُوتِيَ الْكِتَابَ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى الْعِبَادِ
إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقَالُوا: فَلَوْ جَازَ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا لَمْ تَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا كَانَتْ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآتَاهُ إِيَّاهُ تَفْسِيرًا لِكِتَابِهِ وَتَبْيِينًا لَهُ، وَكَيْفَ تَقُومُ حُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ تُجْرَى مَجْرَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ الْمُرَادِ، فَهِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا وَغَلَطًا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَقَالَ كُلُّ مَنِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِسُنَّةٍ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ وَتُفَسِّرُهُ: هَذَا فِي خَبَرِ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا تَقُومُ عَلَيَّ حُجَّةٌ بِمَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَهَذَا طَرْدُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ، وَأَطْرَدُ النَّاسِ لَهُ أَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.
وَالَّذِي جَاءَ يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى الْخَيَالَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَلَقَّوْهَا عَنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَقَدْ قَسَّمَ الْأَخْبَارَ إِلَى تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوَاتُرِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَا لَا يَرْوِيهِ إِلَّا الْوَاحِدُ الْعَدْلُ وَنَحْوُهُ، وَلَمْ يَتَوَافَرْ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَمَلًا بِهِ أَوْ تَصْدِيقًا لَهُ كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ " «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ» " وَخَبَرِ أَنَسٍ «دَخَلَ مَكَّةَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ، وَكَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ " «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» " وَكَقَوْلِهِ " «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» " وَقَوْلِهِ:
" «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ» " وَقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا " «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» " وَقَوْلِهِ " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» " وَقَوْلِهِ " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» " وَقَوْلِهِ يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ " «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
أَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، وَأَمَّا الْخَلَفُ فَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ مِثْلِ السَّرَخْسِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنِ خُوَازِ مِنْدَادَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِثْلِ الْقَاضِي وَأَبِي يَعْلَى وَابْنِ مُوسَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَنْبَلِيَّةِ، وَمِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِيِّ وَابْنِ فُورَكَ وَأَبِي إِسْحَاقَ النَّظَّامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَصَحَّحَهُ وَاخْتَارَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَةَ الْقَائِلِينَ بِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَظَنَّ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا الْبَابِ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو انْفَرَدَ بِهِ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَعُذْرُهُمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى مَا يَجِدُونَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَإِنِ ارْتَفَعُوا دَرَجَةً صَعَدُوا إِلَى سَيْفِ الْآمِدِيِّ وَإِلَى الْخَطِيبِ، فَإِنْ عَلَا سَنَدُهُمْ صَعِدُوا إِلَى الْغَزَالِيِّ وَالْجُوَيْنِيِّ وَالْبَاقِلَانِيِّ.
قَالَ: وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى مُوجِبِ عُمُومٍ أَوْ مُطْلَقٍ أَوِ اسْمٍ حَقِيقَةً أَوْ عَلَى مُوجِبِ قِيَاسٍ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَوْ جُرِّدَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يَجُوزُ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْبِرِينَ بِمُفْرَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا وَرَأْيِهَا وَرُؤْيَاهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» " فَجُعِلَ تَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَالْآحَادُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَكُونُ ظُنُونًا بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا قُوِّيَتْ صَارَتْ عُلُومًا، وَإِذَا ضَعُفَتْ صَارَتْ أَوْهَامًا وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً.
قَالَ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ إِذْ هُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا سُؤَالُ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ.
قُلْنَا: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْتَفِ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، إِذِ الْقَرَائِنُ الْمُجَرَّدَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا، فَكَيْفَ إِذَا احْتَفَتْ بِالْخَبَرِ، وَالْمُنَازِعُ بَنَى عَلَى هَذَا أَصْلَهُ الْوَاهِيَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ مَا دُونَ الْعَدَدِ لَا يُفِيدُ أَصْلًا، وَهَذَا غَلَطٌ خَالَفَهُ فِيهِ حُذَّاقُ أَتْبَاعِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ كَذِبًا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ لَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا هُوَ كَذِبٌ وَخَطَأٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ مَقْبُولٌ فَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ أَوْلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ إِلَّا فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَشَرَتِ انْتِشَارًا لَا تُضْبَطُ أَقْوَالُ جَمِيعِهَا.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ مَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ
الْحَدِيثِ وَعُلَمَاؤُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِهَا دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّحَاةِ وَالْأَطِبَّاءِ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى صِدْقِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ صِدْقِهِ إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَالِمُونَ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ، الضَّابِطُونَ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُعْتَنُونَ بِهَا أَشَدَّ مِنْ عِنَايَةِ الْمُقَلِّدِينَ بِأَقْوَالِهِمْ مَتْبُوعِيهِمْ.
فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوَاتُرِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، فَيَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِغَيْرِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَتَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ لِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ مِمَّا لَا شُعُورَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ أَلْبَتَّةَ، فَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْجَازِمَ الَّذِي يَلْتَحِقُ عِنْدَهُمْ بِقِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يُفِيدُ عِلْمًا، وَكَذَلِكَ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَبِيَّهُمْ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَنْ خُرُوجِ قَوْمٍ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ جَازِمُونَ بِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَاطِعُونَ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ، وَغَيْرُهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ.
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ تَصْدِيقَ مِثْلِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرَ عَدْلٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّدْقِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ، فَهَذَا فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلْمِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَلَا يَشْهَدُ
بِهِ، وَقَدْ حَلَفَ الْإِمَامُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَضْمُونِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَجْعَلُونَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ، وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ الْمُبَلِّغِ.
فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بَلَّغُوا الْأُمَّةَ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ كَانُوا أَصْدَقَ الْخَلْقِ لَهْجَةً، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَحْفَظَهُمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ، وَخَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ طَبِيعَتُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، ثُمَّ ازْدَادُوا بِالْإِسْلَامِ قُوَّةً فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَانَ صِدْقُهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَحِفْظُهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَمْرًا مَعْلُومًا لَهُمْ بِالِاضْطِرَارِ، كَمَا يَعْلَمُونَ إِسْلَامَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ وَجِهَادَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِحَالِ الْقَوْمِ يَعْلَمُ أَنَّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَأَصْحَابِهِ لَا يُقَاسُ بِخَبَرِ مَنْ عَدَاهُمْ، وَحُصُولُ الثِّقَةِ بِخَبَرِهِمْ فَوْقَ الثِّقَةِ وَالْيَقِينِ بِخَبَرِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.
فَقِيَاسُ خَبَرِ الصِّدِّيقِ عَلَى خَبَرِ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ، وَكَذَلِكَ الثِّقَاتُ الْعُدُولُ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُمْ هُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَشَدُّهُمْ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ فِي جَمِيعِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ أَصْدَقُ لَهْجَةً وَلَا أَعْظَمُ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُتَكَلِّمُونَ أَهْلُ ظُلْمٍ وَجَهْلٍ يَقِيسُونَ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَخْبَارِ آحَادِ النَّاسِ، مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ الْمُبِينِ بَيْنَ الْمُخْبِرِينَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ فِي عَدَمِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَفَّلَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ الْأَوَّلُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُهُ وَبَيِّنَاتُهُ، وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَبَيَّنَ حَالَهُ لِلنَّاسِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ فُلَانٌ كَذَّابٌ.
وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا جَعَلَهُمْ بِهِ نَكَالًا وَعِبْرَةً حِفْظًا لِوَحْيِهِ وَدِينِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْوَزْعَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» " وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلًا فَكَذَبَ عَلَيْهِ فَوُجِدَ مَيِّتًا قَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ.
فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُقِرَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَفَضَحَهَ، وَكَشَفَ سِتْرَهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ الْمَحْضُ وَهُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَامُهُ وَحْيٌ فَهُوَ أَصْدَقُ، وَأَحَقُّ الْحَقِّ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ، فَلَا يُشْتَبَهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ، بَلْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْجَلَالَةِ وَالْبُرْهَانِ مَا يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، وَالْحَقُّ عَلَيْهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُبْصِرُهُ ذُو الْبَصِيرَةِ السَّلِيمَةِ، فَبَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ عَنْهُ مِنَ الْفَرْقِ كَمَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلَامِ، وَكَلَامُ النُّبُوَّةِ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الصِّدْقِ، فَكَيْفَ نِسْبَتُهُ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَارِهِ وَسُنَّتِهِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ فِي عَمًى عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: أَخْبَارُهُ وَأَحَادِيثُهُ الصَّحِيحَةُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُمْ مُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهَا الْعِلْمَ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، كَاذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَالْمُخْبِرُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَحَرِّيهِمْ لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ، وَكَوْنِهِمْ أَبْعَدَ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْكَذِبِ وَعَنِ الْغَلَطِ