الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَقُولُ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَكَلَّمَ اللَّهُ وَيُكَلِّمُ حَقِيقَةٌ فِي خَلْقِ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا مُكَلَّمًا، وَالْمُتَكَلِّمُ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةٌ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ هِيَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، وَأَصَابُوا فِي ذَلِكَ لَكِنْ أَخْطَئُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ، فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ، وَالرَّبُّ لَمْ يَقُمْ بِهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ فَصَارَ بِذَلِكَ مُتَكَلِّمًا دُونَ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامُ، فَقَدْ قَلَبُوا أَوْضَاعَ اللُّغَاتِ، وَخَرَجُوا عَنِ الْمَعْقُولِ وَعَنْ لُغَاتِ الْأُمَمِ قَاطِبَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوِ اتَّصَفَ بِمَا يُحْدِثُهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ لَكَانَ اسْوَدَّ بِالسَّوَادِ الَّذِي يَخْلُقُهُ فِي الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ فِي مَحَلٍّ بَيَاضًا أَوْ حُمْرَةً أَوْ طُولًا أَوْ قِصَرًا أَوْ حَرَكَةً كَانَ الْمَحَلُّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَعْرَاضُ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِهَا حَقِيقَةً لَا الْخَالِقَ لَهَا، فَالصِّفَةُ إِذَا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا إِلَى ذَلِكَ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَاشْتُقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمٌ لَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ، وَأَخْطَأَ الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ وَأَخْلَوُا الْمَحَلَّ عَنْ حُكْمِ الصِّفَةِ وَأَعَادُوهُ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، وَاشْتَقُّوا الِاسْمَ لِمَنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ دُونَ مَنْ قَامَتْ بِهِ فَقَلَبُوا الْحَقَائِقَ.
[فصل ذكر ما ادعوا فيه المجاز من القرآن]
[المثال الأول قوله وجاء ربك والملك صفا صفا]
فَصْلٌ
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَجَازِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا ادَّعَوْا فِيهِ الْمَجَازَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ أَمْثِلَةٍ ادَّعَوْا فِيهَا الْمَجَازَ:
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وَنَظَائِرُهُ، قِيلَ: هُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ تَقْدِيرُهُ وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِضْمَارُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تَضَمُّنٍ وَلَا لُزُومٍ، وَادِّعَاءُ حَذْفِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ لِوُثُوقِهِ مِنَ الْخِطَابِ، وَيَطْرُقُ كُلَّ مُبْطِلٍ عَلَى ادِّعَاءِ إِضْمَارِ مَا يَصِحُّ بَاطِلُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ صِحَّةَ التَّرْكِيبِ وَاسْتِقَامَةَ اللَّفْظِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، بَلِ الْكَلَامُ مُسْتَقِيمٌ تَامٌّ قَائِمُ الْمَعْنَى بِدُونِ إِضْمَارٍ، فَإِضْمَارُهُ مُجَرَّدُ خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَانَ تَعْيِينُهُ قَوْلًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ بِإِرَادَةِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَذَبَ عَلَيْهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] فَعَطْفُ مَجِيءِ الْمَلَكِ عَلَى مَجِيئِهِ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَجِيئَيْنِ، وَأَنَّ مَجِيئَهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةٌ، كَمَا أَنَّ مَجِيءَ الْمَلَكِ حَقِيقَةٌ، بَلْ مَجِيءُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مِنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] فَفَرَّقَ بَيْنَ إِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ وَإِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِ رَبِّكَ، فَقَسَّمَ وَنَوَّعَ، وَمَعَ هَذَا التَّقْسِيمِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمَانِ وَاحِدًا فَتَأَمَّلْهُ.
وَلِهَذَا مَنَعَ عُقَلَاءُ الْفَلَاسِفَةِ حَمْلَ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ، وَقَالُوا: هَذَا يَأْبَاهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّرْدِيدُ وَالِاطِّرَادُ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ لَمْ يَحْسُنْ وَكَانَ كَلَامًا رَكِيكًا، فَادِّعَاءُ صَدِيقِ مَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مُشْتَرَكًا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ مَلَكُ رَبِّكَ أَوْ أَمْرُ رَبِّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ كَانَ مُسْتَهْجَنًا.
السَّادِسُ: أَنَّ اطِّرَادَ نِسْبَةِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ صَرَّحْتُمْ بِأَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادَ، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا الْمُطَّرِدُ مَجَازًا.
السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ مُسْتَحِيلًا عَلَيْهِ لَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ، فَمَتَى عَهِدْتُمْ إِطْلَاقَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ نِسْبَةً مَجَازِيَّةً، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْكَمَالِ الْبَتَّةَ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وَأَتَى وَيَأْتِي عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِحَالَةِ، مِثْلُ نَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلِقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَا رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا مُطْلَقَةً فَضْلًا عَنْ تَطَرُّدِ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، وَقَدِ اطَّرَدَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَكَيْفَ تُسَوَّغُ دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذْ هِيَ الْأَصْلُ، فَمَا الَّذِي أَحَالَ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ أَوِ اتِّفَاقٍ مِنِ