الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:" «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ حَدَثَ سُوءٍ» ".
وَقَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا قَامَ الْعَبْدُ يُصَلِّي أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَإِذَا الْتَفَتَ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَيْرٌ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا الْتَفَتَ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» " وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ تُجَاهَ وَجْهِ الرَّحْمَنِ» "، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ: ابْنَ آدَمَ إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ؟ إِلَى خَيْرٍ لَكَ مِنِّي تَلْتَفِتُ» ؟ ".
[المثال السادس اسم الله النور وقوله تعالى الله نور السماوات والأرض]
الْمِثَالُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وَمِنْ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَقَالَتِ الْمُعَطِّلَةُ: ذَلِكَ مَجَازٌ، مَعْنَاهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالنُّورِ الْمَخْلُوقِ، قَالُوا: وَيَتَعَيَّنُ الْمَجَازُ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ هَذَا النُّورُ الْمُنْبَسِطُ عَلَى الْجُدْرَانِ، وَلَا هُوَ النُّورُ الْفَائِضُ مِنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازُهُ مُنَوِّرَ السَّمَاوَاتِ، أَوْ هَادِيَ أَهْلِهَا.
وَبُطْلَانُ هَذَا يَتَبَيَّنُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّورَ جَاءَ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَهَذَا الِاسْمُ مِمَّا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَأَثْبَتُوهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالَّذِي رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ نُورًا، وَلَيْسَ لَهُ نُورٌ، وَلَا صِفَةُ النُّورِ ثَابِتَةٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ عَلِيمًا قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا، وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ، بَلْ صِحَّةُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِثُبُوتِ مَعَانِيهَا لَهُ، وَانْتِفَاءُ حَقَائِقِهَا عَنْهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِهَا عَنْهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ " نُورٌ أَنَّى
أَرَاهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ ثَمَّ نُورٌ، أَيْ فَهُنَاكَ نُورٌ مَنَعَنِي رُؤْيَتَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى شَيْئَانِ (أَحَدُهُمَا) قَوْلُهُ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ فِي الْحَدِيثِ: "«رَأَيْتُ نُورًا» " فَهَذَا النُّورُ الَّذِي رَآهُ هُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الذَّاتِ، الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" «احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْقَهُ بِأَرْبَعٍ: بِنَارٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ» " وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ جِبْرِيلَ: " هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ " فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ» ".
الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نُورٌ فَلَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ ; لِأَنَّ نُورَهُ الَّذِي لَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْهُ لَاحْتَرَقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مَانِعٌ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ نُورُ الْحِجَابِ مَانِعًا مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ فَنُورُ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ مِنْ نُورِ الْحِجَابِ، بَلِ الْحِجَابُ إِنَّمَا اسْتَنَارَ بِنُورِهِ، فَإِنَّ نُورَ السَّمَاوَاتِ إِذَا كَانَ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَنُورُ الْحِجَابِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نُورِهِ، وَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ النُّورُ حِجَابَ مَنْ لَيْسَ لَهُ نُورٌ؟ هَذَا أَبْيَنُ الْمُحَالِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «رَأَيْتُ نُورًا» " وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ مُكَافَحَةُ الرُّؤْيَةِ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْمُثَبَتَ رُؤْيَةُ مَا ظَهَرَ مِنْ نُورِ الذَّاتِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فَقَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَ ذَاتِهِ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " وَلِقَوْلِهِ:«رَأَيْتُ نُورًا» .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَظَهَرَ لَهُ أَمْرٌ مَا مِنْ نُورِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ صَارَ الْجَبَلُ دَكًّا، فَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] أَشَارَ أَنَسٌ بِطَرَفِ إِصْبَعِهِ عَلَى طَرَفِ خِنْصَرِهِ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ ثَابِتٌ فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: مَا تُرِيدُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ أَنْتَ: مَا تُرِيدُ بِهَذَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي أَصَارَ الْجَبَلَ إِلَى هَذَا الْحَالِ ظُهُورُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ لَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، بَلْ تَجَلَّى رَبُّهُ لَهُ سُبْحَانَهُ» .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ: " «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» " الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُغَايِرٌ لِكَوْنِهِ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِصْلَاحَهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْأَنْوَارِ وَهِدَايَتَهُ لِمَنْ فِيهِمَا هِيَ رُبُوبِيَّتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْرٌ وَرَاءَ رُبُوبِيَّتِهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ شَامِلَةٍ عَامَّةٍ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ: رُبُوبِيَّتُهَا وَقَيُّومِيَّتُهَا وَنُورُهُمَا، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا لَهُمَا وَقَيُّومًا لَهُمَا وَنُورًا لَهُمَا أَوْصَافٌ لَهُ، فَآثَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ وَنُورِهِ قَائِمَةٌ بِهِمَا، وَصِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ صِفَةَ الرَّحْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ قَائِمَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّحْمَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَالَمِ، وَالْإِحْسَانُ وَالْخَيْرُ، وَالنِّعْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ آثَارُ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، وَهَكَذَا عِلْمُهُ الْقَائِمُ بِهِ هُوَ صِفَتُهُ، وَأَمَّا عُلُومُ عِبَادِهِ فَمِنْ آثَارِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ، فَالْتَبَسَ هَذَا الْمَوْضِعُ عَلَى مُنْكِرِي نُورِهِ سُبْحَانَهُ، وَلُبِّسُوا مِنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ:{نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُنَوِّرٌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَادٍ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ فِي: الْوَجْهِ السَّابِعِ: أَسَأْتُمُ الظَّنَّ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ فَهِمْتُمْ أَنَّ حَقِيقَةَ مَدْلُولِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ هَذَا النُّورُ الْوَاقِعُ عَلَى الْحِيطَانِ وَالْجُدْرَانِ، وَهَذَا الْفَهْمُ الْفَاسِدُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَكُمْ إِنْكَارَ حَقِيقَةِ نُورِهِ وَجَحْدَهُ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ الْفَهْمِ الْفَاسِدِ وَإِنْكَارِ الْمَعْنَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ النُّورِ هُوَ نُورُ الرَّبِّ الْقَائِمِ بِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ الْمَخْلُوقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي مَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، فَالنُّورُ الْفَائِضُ عَنِ النَّارِ أَوِ الشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ إِنَّمَا هُوَ نُورٌ لِبَعْضِ الْأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ نُورِ الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنَّارِ، لَيْسَ هُوَ نُورُ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نُورَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ هُوَ هَذَا النُّورُ الْفَائِضُ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ لَفْظُ النَّصِّ: اللَّهُ هُوَ النُّورُ الَّذِي تُعَايِنُونَهُ وَتَرَوْنَهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَانَ لِفَهْمِ هَؤُلَاءِ وَتَحْرِيفِهِمْ مُسْتَنَدًا مَا، أَمَّا وَلَفْظُ النَّصِّ:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ هَذَا بِوَجْهٍ مَا أَنَّهُ النُّورُ الْفَائِضُ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ، فَإِخْرَاجُ نُورِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ حَقِيقَتِهِ وَحَمْلُ لَفْظِهِ عَلَى مَجَازِهِ إِنَّمَا اسْتَنَدَ إِلَى هَذَا الْفَهْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِوَجْهٍ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: " «أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» " وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ النُّورُ الْمُنْبَسِطُ عَلَى الْحِيطَانِ وَالْجُدْرَانِ، وَلَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ عَنْهُ بَلْ عَلِمُوا أَنَّ لِنُورِ الرَّبِّ تَعَالَى شَأْنًا آخَرَ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثَالٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، فَهَلْ أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذَا النُّورَ الَّذِي عَلَى الْحِيطَانِ وَوَجْهِ الْأَرْضِ هُوَ عَيْنُ نُورِ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، أَوْ فَهِمَ هَذَا عَنْهُمْ ذُو فَهْمٍ مُسْتَقِيمٍ؟ ! فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُتَطَابِقَةٌ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتُصَرِّحُ بِالْفَرْقِ الَّذِي بَيْنَ النُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ، وَالنُّورِ الَّذِي هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ، وَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ فِي رَحْمَتِهِ سُمِّيَتْ بِرَحْمَتِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُمَاثَلُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ، فَكَذَلِكَ نُورُهُ سُبْحَانَهُ، فَأَيُّ نُورٍ مِنَ الْأَنْوَارِ الْمَخْلُوقَةِ إِذَا ظَهَرَ لِلْعَالَمِ وَوَاجَهَهُ أَحْرَقَهُ؟ وَأَيُّ نُورٍ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ لِلْجِبَالِ الشَّامِخَةِ قَدْرًا مَا جَعَلَهَا دَكًّا، وَإِذَا كَانَتْ أَنْوَارُ الْحُجُبِ لَوْ دَنَا جَبْرَائِيلُ مِنْ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقَ، فَمَا الظَّنُّ بِنُورِ الذَّاتِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُشْرِقُ بِنُورِهِ، وَهُوَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَيَنْصِبُ كُرْسِيَّهُ بِالْأَرْضِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تُشْرِقَ بِنُورِهِ، وَعِنْدَ الْمُعَطِّلَةِ لَا يَأْتِي وَلَا يَجِيءُ وَلَا لَهُ نُورٌ تُشْرِقُ بِهِ الْأَرْضُ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الْجَبَّارُ جل جلاله وَقَدْ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قَالَ: ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، فَهَذَا نُورٌ مُشَاهَدٌ قَدْ سَطَعَ لَهُمْ حَتَّى حَرَّكَهُمْ وَاسْتَفَزَّهُمْ إِلَى رَفْعِ رُءُوسِهِمْ إِلَى فَوْقَ.
الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الرَّبِّ نُورًا، وَبِأَنَّ لَهُ نُورًا مُضَافًا إِلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِأَنَّ حِجَابَهُ نُورٌ، هَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ، فَالْأَوَّلُ يُقَالُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ النُّورُ الْهَادِي، وَالثَّانِي يُضَافُ إِلَيْهِ كَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعِزَّتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَعَلِمُهُ، وَتَارَةً يُضَافُ إِلَى وَجْهِهِ، وَتَارَةً يُضَافُ إِلَى ذَاتِهِ، فَالْأَوَّلُ إِضَافَتُهُ كَقَوْلِهِ:" أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ " وَقَوْلِهِ: " نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ "، وَالثَّانِي إِضَافَتُهُ إِلَى ذَاتِهِ كَقَوْلِهِ {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " ذَلِكَ نُورُهُ الَّذِي إِذَا تَجَلَّى بِهِ "، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو " «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ» " الْحَدِيثَ. الثَّالِثُ وَهُوَ إِضَافَةُ نُورِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وَالرَّابِعُ كَقَوْلِهِ: " حِجَابُهُ النُّورُ " فَهَذَا النُّورُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ يَجِيءُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالنُّورُ الَّذِي احْتَجَبَ بِهِ سُمِّيَ نُورًا وَنَارًا، كَمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي لَفْظِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: " حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ "، فَإِنَّ هَذِهِ النَّارَ هِيَ نُورٌ، وَهِيَ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ كَلِيمَهُ مُوسَى فِيهَا، وَهِيَ نَارٌ صَافِيَةٌ لَهَا إِشْرَاقٌ بِلَا إِحْرَاقٍ.
فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: إِشْرَاقٌ بِلَا إِحْرَاقٍ كَنُورِ الْقَمَرِ، وَإِحْرَاقٌ بِلَا إِشْرَاقٍ وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ فَإِنَّهَا سَوْدَاءُ مُحْرِقَةٌ لَا تُضِيءُ، وَإِشْرَاقٌ بِإِحْرَاقٍ وَهِيَ هَذِهِ النَّارُ الْمُضِيئَةُ وَكَذَلِكَ نُورُ الشَّمْسِ لَهُ الْإِشْرَاقُ وَالْإِحْرَاقُ، فَهَذَا فِي الْأَنْوَارِ الْمَشْهُودَةِ الْمَخْلُوقَةِ، وَحِجَابُ الرَّبِّ تبارك وتعالى نُورٌ وَهُوَ نَارٌ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ كُلُّهَا حَقِيقَةٌ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهَا، فَنُورُ وَجْهِهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَإِذَا كَانَ نُورُ مَخْلُوقَاتِهِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ حَقِيقَةً فَكَيْفَ يَكُونُ نُورُهُ الَّذِي نِسْبَةُ الْأَنْوَارِ الْمَخْلُوقَةِ إِلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا النُّورُ حَقِيقَةً.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ إِضَافَةَ النُّورِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَوْ كَانَ إِضَافَةَ مِلْكٍ وَخَلْقٍ لَكَانَتِ الْأَنْوَارُ كُلُّهَا نُورُهُ، فَكَانَ نُورُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمِصْبَاحِ نُورُهُ، فَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ إِضَافَةَ مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِهِ كَانَ نُورُهُ حَقِيقَةً، فَيَا عَجَبًا لَكُمْ: أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَقِيقَةً، وَأَنْ يَكُونَ لِوَجْهِهِ نُورٌ حَقِيقَةً، ثُمَّ جَعَلْتُمْ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَصَابِيحِ نُورَهُ حَقِيقَةً، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ فَسَادَ هَذَا، وَأَنَّ نُورَهُ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ نُورَ الْمِصْبَاحِ قَامَ بِالْفَتِيلَةِ مُنْبَسِطًا عَلَى السُّقُوفِ وَالْجُدْرَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ نُورُ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي هُوَ نُورُ ذَاتِهِ وَوَجْهِهِ الْأَعْلَى، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَصَابِيحِ مُضَافٌ إِلَيْهَا حَقِيقَةً، قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فَهَذَا نُورٌ مَخْلُوقٌ قَائِمٌ بِجِرْمٍ مَخْلُوقٍ لَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى وَلَا يُوصَفُ بِهِ وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ مَجْهُولٌ لَا عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ قَائِمٌ بِهِ، فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نُورِ وَجْهِهِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاسْتَعَاذَ بِهِ الْعَائِذُونَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنَّ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَتْبَاعِهِمَا لَمْ يَذْكُرُوا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ،
فَإِنْكَارُ كَوْنِهِ نُورًا هُوَ قَوْلُ الْمُبْتَدِعَةِ، قَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ مَقَالَاتِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَكَرَ اتِّفَاقَهُمَا إِلَّا فِيمَا نَدَرَ مِنَ الْأُمُورِ اللَّفْظِيَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نُورٌ لَا كَأَنْوَارٍ حَقِيقَةً لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لِذَلِكَ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِذْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، فَقَالَ: إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ اللَّهِ عز وجل أَنُورٌ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: كَلَامُكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُ نُورٌ يَتَجَزَّأُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا، وَهَذِهِ صِفَةُ النُّورِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَعْنَى مَا قَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ.
فَإِنْ قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ نُورٌ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ أَخْبَرْنَاكَ مَا مَعْنَى النُّورِ الْمَخْلُوقِ وَمَا مَعْنَى النُّورِ الْخَالِقِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَمَنْ تَعَدَّى أَنْ يَقُولَ اللَّهُ نُورٌ فَقَدْ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُسَمِّي نَفْسَهُ لِعِبَادِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ النُّورَ إِلَّا هَذَا النُّورَ الْمُضِيءَ الْمُتَجَزِّئَ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ نُورٌ إِلَّا كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْئًا إِلَّا وَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فَإِذَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِنِّي نُورٌ، قُلْتُ أَنَا: هُوَ نُورٌ عَلَى مَا قَالَ سبحانه وتعالى، وَقُلْتَ أَنْتَ: لَيْسَ هُوَ نُورٌ، فَمَنِ الْمُثْبِتُ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَا أَوْ أَنْتَ؟ وَكَيْفَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالدَّافِعُ لِمَا قَالَ اللَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ، وَإِنْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ نُورٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَلْقِ؛ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَقُولَ إِنَّ اللَّهَ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَلْقِ، وَمَعْنَانَا فِي هَذَا الْبَابِ خِلَافُ مَعْنَاكُمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاكُمْ فِي ذَلِكَ التَّعْطِيلُ، وَمَعْنَانَا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ نُورٌ نُثْبِتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ عِنْدَنَا، فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، فَإِنْ جَازَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا شَيْئًا لَا كَالْأَشْيَاءِ جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَأَنْتُمْ ظَلَمَةٌ فِيمَا سَأَلْتُمْ، جَحَدَةٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مُتَّفِقُونَ إِنْ أَقْرَرْتُمْ بِالْكِتَابِ أَنَّ لِلَّهِ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمُخْتَلِفُونَ فِي أَنْ نَقُولَ: نُورٌ فَقُلْنَا نَحْنُ: نُورٌ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَا نَقُولُ نُورٌ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ مَعْنَى نُورٍ مَعْنَى هَادٍ قُلْنَا لَكُمْ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نُورٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، كَذَّبْتُمُ الْقِيَاسَ وَاللُّغَةَ، وَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، قُلْنَا لَكُمْ: سَوَّيْتُمْ بَيْنَ النُّورِ وَالْهَادِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ اللَّهِ وَبَيْنَهُ إِنْ كَانَ هُوَ النُّورُ الْهَادِي وَمَعْنَى هَذَا نُورٌ، مَعْنَى كَوْنِ هَذَا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي مَعْنَيْهِمَا وَأَسْمَائِهِمَا فَدَخَلْتُمْ فِيمَا عِبْتُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: فَالنُّورُ لَا يَكُونُ إِلَّا جَسَدًا مُجَسَّدًا أَوْ ضِيَاءً سَاطِعًا، قُلْنَا: وَلَا يَكُونُ عَالِمٌ بَصِيرٌ إِلَّا لَحْمًا وَدَمًا مُتَجَزِّئًا مُتَبَعِّضًا، فَإِنْ جَازَ قِيَاسُكُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ جَازَ قِيَاسُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ قُلْتُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَالِمٌ لَا لَحْمَ وَلَا دَمَ، قِيلَ لَكُمْ: كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُورٌ لَا جَسَدَ وَلَا ضَوْءَ سَاطِعٌ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْتُ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ كِتَابِهِ رحمه الله بِأَلْفَاظِهِ لِتَحْقِيقِهِ هَذَا الْوَصْفَ لِلَّهِ تَمَسُّكًا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُ لَا يَرَى أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْكِتَابِ مَا وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ لِرَأْيٍ وَهَوًى لَا يُوجِبُهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، قَالَ: فَقَدْ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَأَزَالَ اللَّبْسَ فِيهِ وَأَنَّ السَّمْعَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَجَازِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالنُّورِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأُولَى: مَعْنَاهُ هَادٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مُنَوِّرٌ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّ فِي مُصْحَفِهِ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالثَّالِثُ: مُزَيِّنٌ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى مُنَوِّرٍ، قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ، الْخَامِسُ: ذُو النُّورِ، السَّادِسُ أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ: وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُقَالُ لَهُ: نُورٌ إِلَّا بِإِضَافَةٍ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّهُ هَادٍ وَمُنَوِّرٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هُوَ مَجَازٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَصِحُّ.
قُلْتُ: أَمَّا حِكَايَتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى هَادٍ فَعُمْدَتُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي ثُبُوتِ أَلْفَاظِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْوَالِبِيَّ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَعْنَى، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ مَقْصُودُهُ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ النُّورِ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنُورٍ وَلَا نُورَ لَهُ، كَيْفَ وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ:" «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» "، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِعِكْرِمَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ نُورٌ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ
يُدْرِكْهُ شَيْءٌ، كَيْفَ وَلَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ يَنْبُو عَنْ تَفْسِيرِ النُّورِ بِالْهَادِي ; لِأَنَّ الْهِدَايَةَ تَخْتَصُّ بِالْحَيَوَانِ وَأَمَّا الْأَرْضُ نَفْسُهَا وَالسَّمَاءُ فَلَا تُوصَفُ بِهُدًى، وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ سبحانه وتعالى نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكِنَّ عَادَةَ السَّلَفِ أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمْ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَةِ بَعْضَ مَعَانِيهَا وَلَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهَا أَوِ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهَا أَوْ مِثَالًا يُنَبِّهُ السَّامِعَ عَلَى نَظِيرِهِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هَادِيًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نُورًا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى مُنَوِّرٍ وَأَنَّهَا فِي مُصْحَفِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي نَفْسِهِ نُورًا وَأَنْ يَكُونَ النُّورُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَلْ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ النُّورَانِيَّةَ نَوْعَانِ (مِنْهَا) مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَنِيرٌ وَلَا يُنِيرُ غَيْرَهُ كَالْجَمْرَةِ مَثَلًا، فَهَذَا لَا يُقَالُ لَهُ نُورٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَنِيرٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ مُنِيرٌ لِغَيْرِهِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ، وَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا هُوَ مُنَوِّرٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنُورٍ بَلْ إِنَارَتُهُ لِغَيْرِهِ فَرْعُ كَوْنِهِ نُورًا فِي نَفْسِهِ، فَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنَوِّرٌ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى كَوْنِهِ نُورًا، وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا مُعَلِّمًا مُرْشِدًا مُقَدِّرًا لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا رَشِيدًا قَادِرًا، قَدْ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنَّ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ تبارك وتعالى.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى مُزَيِّنٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أُبَيٍّ، وَهُوَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ أَشْبَهُ، فَإِنَّ تَفْسِيرَ أُبَيٍّ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفٌ، رَوَاهُ عَنْهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيٍّ، ذَكَرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٌ وَوَكِيعٌ وَهُشَيْمٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَخَلَائِقُ غَيْرُهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] قَالَ: فَبَدَأَ بِنُورٍ نَمَسُّهُ فَذَكَرَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ نُورَ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ {مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] يَقُولُ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ (مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ) قَالَ فَهُوَ عَبْدٌ جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ فِي صَدْرِهِ {كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] قَالَ الْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] قَالَ: الْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي جُعِلَ فِي صَدْرِهِ {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] قَالَ {الزُّجَاجَةُ} [النور: 35] قَلْبُهُ، {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35]
قَالَ قَلْبُهُ لَمَّا اسْتَنَارَ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، يَقُولُ: مُضِيءٌ {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] قَالَ فَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] قَالَ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ الْتَفَّ بِهَا الشَّجَرُ، فَهِيَ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ لَا إِذَا طَلَعَتْ وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، قَالَ فَذَلِكَ هَذَا الْمُؤْمِنُ قَدْ أُجِيرَ مِنْ أَنْ يُضِلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهَا فَثَبَّتَهُ اللَّهُ، فَهَا هُوَ بَيْنَ أَرْبَعِ خِلَالٍ: إِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِنِ ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَ، وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ، فَهُوَ فِي النَّاسِ كَرَجُلٍ يَمْشِي فِي قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسَةٍ مِنَ النُّورِ، فَكَلَامُهُ نُورٌ، وَعِلْمُهُ نُورٌ، وَمُدْخَلُهُ نُورٌ، وَمُخْرَجُهُ نُورٌ وَمَصِيرُهُ إِلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.
قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ لِلْكَافِرِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] الْآيَةَ، قَالَ: فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا فَلَا يَجِدُهُ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ.
قَالَ: وَضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ لِلْكَافِرِ فَقَالَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] الْآيَةَ، فَهُوَ يَنْقَلِبُ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الظُّلَمِ: فَكَلَامُهُ ظُلْمَةٌ، وَمُدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمُخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُّلُمَاتِ إِلَى النَّارِ.
فَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أُبَيٍّ لَا مَا ذَكَرَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النُّورُ صِفَةَ فِعْلٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَمَا أَبْعَدَهُ عَنِ الصَّوَابِ، وَكَوْنُهُ ظَاهِرًا لَيْسَ بِصِفَةِ فِعْلٍ، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَتِلْكَ صِفَاتُ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ لَا أَنَّهَا أَفْعَالٌ.
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْإِبَانَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35] فَسَمَّى نَفْسَهُ نُورًا، وَالنُّورُ عِنْدَ الْأُمَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نُورًا يُسْمَعُ أَوْ نُورًا يُرَى، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ يُسْمَعُ وَلَا يُرَى كَانَ مُخْطِئًا فِي نَفْيِهِ رُؤْيَةَ رَبِّهِ وَتَكْذِيبِهِ بِكِتَابِهِ عز وجل وَقَوْلِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: ( «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] قَالَ: فَيَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» ، قَالَ: فَلَا يُمْتَنَعُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ نُورُ ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُمْ ذَاتُهُ فَيَرَوْنَهَا جَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ نُورُهَا فَيَرَوْنَهُ، لِأَنَّ النُّورَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ، قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّ النُّورَ صِفَةُ الْكَمَالِ، وَضِدُّهُ صِفَةُ نَقْصٍ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ نُورًا، وَسَمَّى كِتَابَهُ نُورًا وَجَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِ النُّورَ وَلِأَعْدَائِهِ الظُّلْمَةَ فَقَالَ:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] وَيَجِيءُ الْأَنْبِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُمَمُهُمْ لِكُلِّ نَبِيٍّ نُورَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ نُورٌ وَتَجِيءُ هَذِهِ الْأُمَّةُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نُورَانِ وَلِنَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ شَعْرَةٍ نُورٌ، وَلَمَّا كَانَتْ مَادَّةُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي خُلِقُوا مِنْهَا نُورًا، كَانُوا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَحَلَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَكَانُوا خَيْرًا مَحْضًا، وَلِلنُّورِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَمَتَى حَلَّ ظَاهِرُهُ بِجِسْمٍ كَسَاهُ مِنَ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالضِّيَاءِ وَالْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ وَالسَّنَاءِ بِحَسَبِ مَا كُسِيَ مِنَ النُّورِ وَزَالَتْ عَنْهُ الْوَحْشَةُ وَالثِّقَلُ، وَكَانَ مُفْرِحًا لِرَائِيهِ سَارًّا لِنَاظِرِيهِ، وَإِذَا حَلَّ بَاطِنُهُ بِالْبَاطِنِ اكْتَسَى مِنَ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعَفْوِ وَالْجُودِ وَالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَالنَّصِيحَةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ النُّورِ، فَالنُّورُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَلَمَّا كَانَ لِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ مِنْ هَذَا النُّورِ النَّصِيبُ الْوَافِرُ ظَهَرَ فِي جَمَالِهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَكَانَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ هَذَا النُّورِ أَكْمَلَ نَصِيبٍ كَانَ أَجْمَلَ الْخَلْقِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَكَانَ وَجْهُهُ يَتَلَأْلَأُ تَلَأْلُأَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَانَ كَلَامُهُ كُلُّهُ نُورًا وَمُدْخَلُهُ وَمُخْرَجُهُ نُورًا، فَإِذَا تَكَلَّمَ رُؤِيَ النُّورُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ، فَكَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي نُورِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَكَانَ نُورُهُ مِنْ أَكْبَرِ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَجِئْتُ
حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرِي عَلَيْهِ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ:" «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» "، فَاسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِنُورِ وَجْهِهِ وَنُورِ كَلَامِهِ بِنُورِهِ الْمَرْئِيِّ وَنُورِهِ الْمَسْمُوعِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبِيِّنَةٌ
…
كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ
أَيْ مَا يَبْدَهُكَ مِنْ وَجْهِهِ وَمَنْظَرِهِ وَنُورِهِ وَبَهَائِهِ، وَأَخْذِهِ الصَّرْصَرِيِّ فَقَالَ:
لَوْ لَمْ يَقُلْ إِنِّي رَسُولٌ أَمَا
…
شَاهِدُهُ فِي وَجْهِهِ يَنْطِقُ
فَإِذَا كَانَ هَذَا نُورُ عَبْدِهِ فَكَيْفَ بِنُورِهِ سُبْحَانَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلنُّورِ وَالظُّلْمَةِ كَمَا اسْتَفْتَحَ سُبْحَانَهُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] فَاسْتَفْتَحَ السُّورَةَ بِإِبْطَالِ قَوْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَجْمَعِينَ، مِنَ الثَّنَوِيَّةِ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ نُورَيْنِ: نُورٌ وَظُلْمَةٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَحْدَهُ رَبُّ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَخَالِقُهُمَا، كَمَا أَنَّهُ وَحْدَهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَوْجُودَاتِ عَالِيًا وَسَافِلًا وَمُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ لِسَافِلِهَا الظُّلْمَةَ، وَهِيَ مَسْكَنُ أَهْلِ الظُّلُمَاتِ مِنْ خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِعَالِيهَا النُّورَ، وَهُوَ مَسْكَنُ أَهْلِ النُّورِ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَا فَوْقَهَا إِلَى الْعُلُوِّ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، فَكُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ كَانَ أَعْظَمَ نُورًا، وَلِذَا كَانَ فَضْلُ نُورِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ عَلَى مَا تَحْتَهُ كَفَضْلِ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى أَخْفَى الْكَوَاكِبِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى السُّفْلِيِّ الْمُطْلَقِ كَانَ أَشَدَّ ظُلْمَةً، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَحْبِسُ أَهْلِ الظُّلُمَاتِ سَجِينٌ كَانَتْ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةً لَا نُورَ فِيهَا بِوَجْهٍ، فَكُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى كَانَ أَعْظَمَ نُورًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكُلَّمَا بَعُدَ عَنْهُ كَانَ أَشَدَّ ظُلْمَةً بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَنَّ مُوسَى أَقَامَ أَيَّامًا لَا يُحَدِّثُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مُتَبَرْقِعًا مِنَ النُّورِ الَّذِي غَشِيَ وَجْهَهُ حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَنِسْبَةُ الْأَنْوَارِ كُلِّهَا إِلَى نُورِ الرَّبِّ كَنِسْبَةِ الْعُلُومِ إِلَى عِلْمِهِ، وَالْقُوَى إِلَى قُوَّتِهِ، وَالْغِنَى إِلَى