الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 1] أَوَ لَيْسَ الْحِبْرُ وَالْوَرَقُ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ لَا يُمْنَعُ مِنْ مَسِّهِ الْمُحْدِثُونَ، وَإِذَا ظَهَرَتِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ صَارَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ تَنْزِيلًا وَتَجْلِيلًا: " «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ» "، أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَقَالَ فِي حَقِّ مُوسَى {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] أَفَتَرَى مِنَ الْقُوَّةِ تَهْوِينَهَا عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالِازْدِرَاءَ بِهَا عِنْدَ الْمُتَخَلِّفِينَ، يُزَخْرِفُونَ لِلْعَوَامِّ عِبَارَةً يَتَوَقَّوْنَ بِهَا إِنْكَارَهُمْ وَيَدْفِنُونَ فِيهَا مَعْنًى لَوْ فَهِمَهُ النَّاسُ لَعَجَّلُوا بَوَارَهُمْ، وَيَقُولُونَ: تِلَاوَةٌ وَمَتْلُوٌّ وَقِرَاءَةٌ وَمَقْرُوءٌ، وَكِتَابَةٌ وَمَكْتُوبٌ، هَذِهِ الْكِتَابَةُ مَعْلُومَةٌ فَأَيْنَ الْمَكْتُوبُ؟ وَهَذِهِ التِّلَاوَةُ مَسْمُوعَةٌ فَأَيْنَ الْمَتْلُوُّ؟ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ عِنْدَنَا قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ زَخَارِفُ لَبَّسُوا بِهَا ضَلَالَتَهُمْ، وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ لَا مَحَالَةَ، فَقَدِ انْكَشَفَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ يُقَدِّمُونَ رِجْلًا نَحْوَ الِاعْتِزَالِ فَلَا يَتَجَاسَرُونَ، وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى نَحْوَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِيَسْتَتِرُوا فَلَا يَتَظَاهَرُونَ، إِنْ قُلْنَا لَهُمْ مَا مَذْهَبُكُمْ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ قُلْنَا فَمَا الْقُرْآنُ أَلَيْسَ هُوَ السُّوَرُ الْمُسَوَّرَةُ وَالْآيَاتُ الْمُسَطَّرَةُ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ، أَلَيْسَ هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي صُدُورِ الْحَافِظِينَ، أَلَيْسَ هُوَ الْمَسْمُوعُ مِنْ أَلْسِنَةِ التَّالِينَ؟ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ حِكَايَتُهُ وَمَا أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ عِبَارَتُهُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَائِمٌ فِي نَفْسِ الْحَقِّ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي إِحْسَاسِ الْخَلْقِ فَانْظُرُوا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ كَيْفَ جَاءُوا بِهَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى.
ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِهَذَا الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جَبْرَائِيلُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا فَسَمِعَهُ مِنْهُ جَبْرَائِيلُ، فَأَدَّاهُ إِلَى رَسُولِهِ فَأَدَّاهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأُمَّةِ.
[فصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك]
فَصْلٌ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: أَوَّلُ مَا ظَهَرَ إِنْكَارُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ فِي إِمَارَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَأْمُونِ وَأَدْخَلَتْهُ فِي آرَائِهَا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَذِلَّاءَ مَقْمُوعِينَ، وَهَؤُلَاءِ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ أَصْلًا بِحَرْفٍ
وَلَا صَوْتٍ وَلَا مَعْنًى وَلَا يُرَى، وَلَا هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا عِلْمَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا إِرَادَةَ وَلَا حِكْمَةَ تَقُومُ بِهِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْمِحْنَةُ وَثَبَّتَ اللَّهُ خُلَفَاءَ الرُّسُلِ وَوَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا وَرِثُوهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّ بَاطِلَ أُولَئِكَ هُوَ نِفَاقٌ مُشْتَقٌّ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الرَّسُولِ وَسُوسُ الْمُلْكِ، وَظَهَرَ لِلْأُمَّةِ سُوءُ مَذَاهِبِ الْجَهْمِيَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ التَّعْطِيلِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ الْبَصْرِيُّ وَأَثْبَتَ الصِّفَاتِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَنَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ رَدًّا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمْ يَفْهَمْ لِنَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهَا مَعْنًى إِلَّا كَوْنَهَا قَدِيمَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، فَأَثْبَتَ قِدَمَ الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا، وَرَأَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعَاقُبِ وَسَبْقِ بَعْضِهَا بَعْضًا، فَجَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ هُوَ مُجَرَّدُ مَعْنًى أَوْ مَعَانٍ مَحْصُورَةٍ، وَسَلَكَ طَرِيقَةً خَالَفَ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةَ، وَلَمْ يُوَافِقْ فِيهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ، وَالْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ إِنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ يُرِيدُونَ أَنْ يُلْبِسُوا عَلَى النَّاسِ، بَلَى تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ.
ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفِّ» ، وَصَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الصَّحِيحِ حَدِيثَ جَابِرٍ " «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ» " فَاحْتَجَّ بِهِ فِي الْبَابِ وَإِنْ ذَكَرَهُ تَعْلِيقًا، وَذَكَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ شَيْئًا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ» .