الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي قال رجل من أقارب فرعون ورجال دولته: كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أن قال: الله ربي، والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والأدلة الدالة على نبوته وصحة رسالته وصدقه؟ فهذا لا يستدعي القتل، فتوقف فرعون عن قتله، بسبب صدقه في الدفاع.
قال ابن عباس رضي الله عنهما-فيما رواه ابن أبي حاتم-: «لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون، والذي قال:{يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص 20/ 28].
والحق أنه كان لهذه الكلمة: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللهُ} تأثير عظيم في نفس فرعون، وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله ص، أخرج البخاري في صحيحة عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ص، قال: بينا رسول الله ص يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله ص، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ص، ثم قال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} ؟.
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس، أخبروني من أشجع الناس؟ قال: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس، قالوا:
لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله ص، وأخذته قريش، فهذا
يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا!! قال:
فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع-أي علي-بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: أنشدكم، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه، وبذل ماله ودمه».
ثم أورد مؤمن آل فرعون ست حجج أخرى مفصلة لتأييد رأيه، فقال تعالى:
1 -
{وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي إن كان هذا الرجل كاذبا في دعوته، كان وبال كذبه وإثمه عليه يجازيه الله في الدنيا والآخرة، فاتركوه، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقوبة الدنيوية والأخروية، فاتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وإنما قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} فلأنه ص كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا أصابهم عذاب الدنيا، فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به.
والمراد أنه إذا لم يصبكم كل العذاب المتوعد به، فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفي بعض ذلك هلاككم.
2 -
{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ} أي لو كان موسى مسرفا في قوله، متجاوزا حده، كذابا في دعواه النبوة، لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، ولو كان كاذبا على الله، خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.
3 -
{يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا} ؟ أي يا قومي، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع، وأنتم الغالبون العالون على بني إسرائيل في أرض مصر، فلكم الكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله وتصديق رسوله ص، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله ص، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟ ولا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.
وإنما قال: {يَنْصُرُنا} و {جاءَنا} لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم، وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، وأنه حريص على دفع الشر عنهم، ليتأثروا بنصحه.
فرد فرعون بنصيحة فيها مراوغة، مظهرا أنه أخلص نصحا لقومه من هذا الرجل، فقال تعالى:
{قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ} أي قال فرعون مجيبا الرجل المؤمن: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، وما أدلكم وأدعوكم إلا إلى طريق الصواب الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة والغلبة وهو قتل موسى. وقد كذب فرعون وافترى في قوله:{ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى} فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة، وكذب أيضا في قوله:
{وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ} أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، ولكن قومه مع ذلك قد أطاعوه واتبعوه بسبب سلطانه ونفوذه، قال تعالى:{فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود 97/ 11] وقال سبحانه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} [طه 97/ 20]
جاء في الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن معقل بن يسار: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام» .
4 -
{وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي لقد حذر هذا الرجل المؤمن الصالح قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فبدأ بتخويف العذاب الدنيوي، فقال: يا قومي، إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثلما أصاب الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوا رسلهم من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط، فقد حل بهم بأس الله، ولم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم، ولا عاصما يحميهم. فقوله {مِثْلَ دَأْبِ.} . أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب.
{وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} أي لا يريد الله إلحاق ظلم بعباده، فلم يهلكهم بغير جرم، إنما أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره.
ثم خوفهم العذاب الأخروي، فقال:
5 -
{وَيا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ} أي ويا قومي، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضا مستغيثا به من الأهوال، أو حين ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، كما قال تعالى:{وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا:}
{نَعَمْ} [الأعراف 44/ 7] وقال سبحانه: {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ} [الأعراف 48/ 7]. وقال عز وجل: {وَنادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ} [الأعراف 50/ 7].
وحين تفرّون هاربين من النار، أو منصرفين عن الموقف إلى النار، لا تجدون واقيا ولا مانعا ولا عاصما يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه، وهذا تأكيد للتهديد.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} أي من أضله الله، فلم يوفقه ولم يلهمه رشده، فلا هادي له غيره يهديه إلى الصواب والنجاة.
6 -
{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ، حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أي أذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الآباء والأجداد، فلقد بعث الله لكم أي لآبائكم يا أهل مصر رسولا من قبل موسى عليه السلام هو يوسف بن يعقوب، وجاءكم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، والآيات الواضحات المبينة لدين الله وشرائعه، فكذبتموه وكذبتم من جاء بعده من الرسل، وما زلتم في شك من البينات ولم تؤمنوا به، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده، فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، مما يدل على توارث التكذيب، واستمرار العناد في مواجهة الرسل، والكفر برسالاتهم.
{كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ} أي مثل هذا الضلال وسوء الحال، يكون حال من يضله الله لإسرافه في المعاصي والاستكثار منها، وارتياب قلبه في دين الله، وشكه في وحدانية الله ووعده ووعيده.
وصفة هؤلاء المسرفين المرتابين ما حكاه تعالى:
{الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي إن أولئك المسرفين المرتابين هم الذين يجادلون في آيات الله ليبطلوها، بغير حجة واضحة ولا دليل بيّن، ويحاربون الحق بالباطل، كبر ذلك الجدل بغضا عند الله والمؤمنين، لأنه جدال بالباطل لا أساس له، أما مقت الله فهو تعذيبه العصاة، وأما مقت المؤمنين فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.