الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إيمان اضطراري عن إكراه، وإنما ينفع الإيمان الاختياري، لا الإيمان الاضطراري، لأنه عند معاينة الأمر الحتمي لا يبقى للتكليف مجال، فالكل يؤمن حينئذ، وهكذا لا ينفع الإيمان عند رؤية العذاب أو الموت أو الغرق أو في الآخرة، ولم يكن الشخص آمن في الدنيا.
وهذا كما فرعون حين أدركه الغرق: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس 90/ 10 - 91] فلم يقبل الله منه إيمانه.
ثم ذكر الله تعالى حكما عاما، فقال:
{سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} أي إن هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وإن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب.
وخسر الكفار وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
جاء في الحديث الثابت:
«إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
(1)
أي فإذا غرغر، وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ، ولهذا قال تعالى هنا:{وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} وقال: {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر 78/ 40]. فليحذر الكافر والمقصر، وليتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
إن آثار تدمير الأمم الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل عبرة
(1)
أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.
للمعتبر، فلو سار الناس في نواحي الأرض، لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين، ليست إلا الهلاك والبوار والدمار، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين، والدنيا كلها فانية ذاهبة، فلا يغترن أحد بمال ولا جاه ولا سلطان.
2 -
كان سبب تدمير أولئك الأقوام في الماضي هو تكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والآيات الواضحات، وفرحهم بعقائدهم الزائفة وشبههم الباطلة، مثل قولهم: لن نعذب ولن نبعث، واستهزاؤهم بما جاء به الرسل، فأحدق بهم العقاب من كل جانب.
3 -
لقد آمن هؤلاء المشركون بالله وحده، وكفروا بالأوثان التي أشركوها في العبادة مع الله، عند رؤية العذاب.
4 -
ولكن الإيمان بالله عند معاينة العذاب، وحين رؤية البأس لا ينفع ولا يفيد صاحبه.
5 -
سنّ الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وأضحى عدم قبول الإيمان حال اليأس من النجاة سنة الله المطردة في كل الأمم.
6 -
والغاية أن يحذر أهل مكة وغيرهم من المشركين سنة الله في إهلاك الكفرة، وأن يعلموا أن الإيمان وقت رؤية الهلاك لا ينفع، وأن ما يدّعونه من علم وحضارة لا يغني عن دين الله ورسالة الأنبياء، فشريعة الله هي الأصح.
7 -
ليعلم أولئك الذين يصفون شريعة الإسلام بالهمجية والوحشية والقسوة، وهم الذين احتضنوا أفكار الغرب غير الدينية، وآمنوا بالقوانين الوضعية الحديثة، وأحلوها محل شريعة الله تعالى، ليعلموا أنهم جهلة بهذه الشريعة، وأنهم كفروا بالإسلام من حيث لا يشعرون، وأن بواعث تحضّرهم،
وادعاءهم إرادة التقدم والمدنية والأخذ بمعطيات الحضارة الحديثة يؤدي لهدم شرع الله تعالى. ولو فهموا هذا الشرع بدقة لحقق لهم كل ما يريدون ضمن ضوابط شاملة، ولم يتورطوا بوصف الشريعة الإسلامية بأنها من الشرائع البدائية أو التقليدية في أنظمة المعاملات المدنية أو الجنائية أو قواعد الإثبات، فإن التزام قواعد الشريعة خير وأحكم وأمنع مما يعيش به مجتمع القرن العشرين من فقد الأمن وكثرة الجريمة وانحلال القيم والأخلاق، وإن قواعد الإثبات فيها أولى من إعطاء حرية الإثبات المطلقة لتقدير القاضي وقناعته الشخصية، فذلك قد يؤدي إلى إهدار الحقوق، وتجريم البريء.