الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} {هُمْ} الثانية تأكيد، والجملة حالية مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة. {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع، ولا يمنّ به عليهم، من المنّ.
التفسير والبيان:
{حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وللدلالة على خطر ما يتلى بعدها، هذا القرآن منزّل من الله تبارك وتعالى ذي الرحمة الواسعة لعباده، فهو المنعم بعظائم النّعم ودقائقها، إنه منزّل على عبده ونبيّه محمد ص. وتخصيص هذين الوصفين {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} بالذّكر هنا للدلالة على أن هذا القرآن هو البلسم الشافي للأمم والأفراد والجماعات، وهو الرّحمة الكبرى للعالم، كما قال تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء 107/ 21].
ونظير الآية قوله تعالى: {قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل 102/ 16]، وقوله سبحانه:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء 192/ 26 - 195].
{كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وهو كتاب بيّنت آياته بيانا شافيا، وأوضحت معانيه، وأحكمت أحكامه:{كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود 1/ 11]، وقد أنزلناه بلغة العرب، ليسهل فهمه، فمعانيه مفصّلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، وإنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون الذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، ويعلمون معانيه، لنزوله بلغتهم، كما قال تعالى:{إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف 2/ 12]، وقال سبحانه:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم 4/ 14].
{بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي إن هذا القرآن يبشّر المؤمنين أولياء الله بالجنة لاتّباعهم له وعملهم به، وينذر الكافرين أعداء الله بالنار لمخالفتهم أحكامه، وإصرارهم على التكذيب به حتى الموت، ولكن أعرض أكثر الكفار المشركين عمّا اشتمل عليه من الإنذار، وعن الإصغاء إليه، فهم لا يسمعون آياته سماع تدبّر وانتفاع، ولم يقبلوه ولم يطيعوا أحكامه، لإعراضهم عنه، بالرغم من بيانه ووضوحه.
ثم صرّحوا بأسباب ثلاثة لنفرتهم ومباعدتهم عنه، كما حكى تعالى:
{وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} أي وقال أولئك المشركون: قلوبنا في أغطية، فهي لا تفقه ما تقول، ولا يصل إليها قولك ودعوتك إلى الإيمان بالله وحده، وترك عبادة الآباء والأجداد، وفي آذاننا صمم وثقل سمع يمنعها من استماع قولك، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك، ويمنعنا من إجابتك.
وهذه تمثيلات ثلاثة منهم لنبو قلوبهم عن إدراك الحق، ومجّ أسماعهم له، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله ص. قيل: إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه.
فاعمل على دينك وطريقتك، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا، لا نتابعك، واعمل في هلاكنا وإبطال أمرنا، فإنا عاملون في هلاكك وإبطال أمرك وفضّ الناس من حولك.
وأذكر هنا رواية أخرى لما ذكرت في فضل هذه السورة،
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله ص ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلّم عتبة، قرأ رسول الله ص حم ومرّ في صدرها حتى انتهى إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} فأرعد الشيخ، ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله ص بيده، وناشده بالرّحم أن يمسك وقال حين فارقه:
«والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي» .
وبعد أن ذكروا أسباب إبائهم الإيمان بالله وحده، أجيبوا بأن محمدا مجرد بشر لا يقدر على جبرهم على الإيمان، فقال تعالى:
{قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي قل أيها الرسول مجيبا قومك المكذبين المشركين عن شبهتهم:
ما أنا إلا بشر كواحد منكم لولا الوحي، وإني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا، فإني بشر مثلكم، لكني أبلغكم ما أوحي إليّ به، وخلاصة ذلك الوحي أمران: العلم والعمل، أما العلم فأساسه معرفة التوحيد، لأن الحق هو أن الله واحد، وليس معه شريك من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرّقين، وهو المراد بقوله:{أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} والحق يجب علينا أن نعترف به، والعمل أساسه: الاستقامة والاستغفار والتوبة من الذنوب، أي الطاعة وإخلاص العبادة، وطلب العفو عن الذنوب السالفة، ورأسها الشرك، لذا أعقبه بتهديد المشركين، فقال تعالى:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} أي الهلاك والدمار والخسارة للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر، والذين تجرّدوا من حبّ الإنسانية والشفقة على خلق الله فلا يؤدون الزكاة، ويمنعونها عن الفقراء، ولا ينفقون في الطاعة، وهم جاحدون الآخرة، منكرون البعث والحساب والجزاء.
فالله تعالى أثبت الويل لمن اتّصف بصفات ثلاث:
أولها-أن يكون مشركا، وهو ضدّ التوحيد.
وثانيها-كونه ممتنعا من أداء الزكاة، وهو ضدّ الشفقة على خلق الله تعالى.
وثالثها-كونه منكرا للقيامة، مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها.
وإنما ذكر الله تعالى هذه الأوصاف، لأن الإيمان أساس العقيدة، والشرك هدم لها، ولأن الزكاة دليل الإيمان، لأنها اقتطاع جزء من أحب الأشياء إلى النفس وهو المال قرين الروح، لذا قيل: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. ومنع الزكاة قسوة على عباد الله، وبذلها دليل على صدق النّية.
وأما الإيمان بالآخرة: فهو خلاصة الإيمان وهدفه وتقرير للمصير. وإنكار البعث والقيامة: تدمير لكل الأعمال في الدنيا، وانصراف إليها وإعراض عن الآخرة.
وهذه الآية تهديد لمن يشرك بالله، ويمنع الزكاة التي تطهّر النّفس من داء الشّح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة وينصرف إلى الدنيا ولذاتها. ونحو الآية:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها} [الشمس 9/ 91 - 10].
ثم أعقب وعيد الكفار بوعد المؤمنين للجمع المألوف في القرآن بين الترهيب والتّرغيب، فقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهى عنه، لهم عند ربّهم أجر وثواب غير مقطوع ولا ممنوع، ولا يمنّ عليهم به، لأن المنّة بالتّفضل، وأما