الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن بالغ واستقصى الله تعالى في بيان وعيد الكفار، وأردفه بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم في قوله:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً.} . أتى هنا بأسوأ اعتقادهم وهو تكذيب الله بإثبات ولد له أو شريك، وتكذيب الرسول ص بعد إثبات صدقه بالأدلة القاطعة، وختمه بوعيدهم في جهنم.
ثم أتبعه بوعد الصادق المصدوق ووعد أتباعه المصدقين المؤمنين من تكفير السيئات ومنحهم أفضل الثواب، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد.
التفسير والبيان:
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ} هذا نوع آخر من قبائح أفعال الكفار المشركين، وهو أنهم يكذبون الله، ويكذبون القائل المحق وهو رسوله الكريم ص، والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وحرّم وحلل من غير أمر الله، وكذب بما جاء به رسول الله ص من دعوة الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث والنشور.
فهم جمعوا بين طرفي الباطل: كذب على الله تعالى، وتكذيب رسول الله ص بعد قيام الأدلة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة.
وقوله: {إِذْ جاءَهُ} أي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ترو ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به.
ثم أردفه بوعيدهم فقال:
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} ؟ بلى، أي أليس في نار جهنم الواسعة
العريضة مقام ومأوى وسكنى لهؤلاء الكافرين. وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم، وهو الكفر. والمراد: ألا يكفيهم العذاب في جهنم جزاء على أعمالهم؟ وهو استفهام تقرير وإثبات، لا نفي.
ثم أتبع الوعيد السابق بوعد الصادقين المصدقين، فقال:
{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} أي أما الذي جاء بالصدق والقول الحق وهو رسول الله ص وخاتم الأنبياء وإمام الرسل، والذين صدقوا به وآمنوا بأنه رسول من عند الله وهم أتباعه المؤمنون، وأيقنوا أن القرآن كلام الله تبيان كل شيء وخير وسعادة للبشرية جمعاء، فأولئك هم الذين اتقوا الله، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان.
وثواب هؤلاء ما قال تعالى:
{لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي لهم ما يطلبون عند ربهم في الجنان، من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، فضلا عن أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء الذين أحسنوا في أعمالهم. والإحسان كما
ثبت في الصحيح لدى الشيخين عن عمر عن رسول الله ص، قال:«الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .
وعلة هذا الجزاء:
{لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} وعدهم الله بما سبق ليكفر عنهم سيء ما عملوا، ويجزيهم أجرهم كاملا بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ. وإذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم، غفر لهم ما دونه بطريق أولى. والحسن الذي يعملونه هو الأحسن عند الله تعالى.
وقوله: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه.
ثم ذكر تعالى أنه يكفي المؤمنين في الدنيا ما أهمهم ويمنع عنهم ما يخوفونهم به، فقال:
{أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} أي أن الله سبحانه يكفي من عبده وتوكّل عليه، فيدفع عنه الويلات والمصائب، ويعطيه جميع المرغوبات، كقوله:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} [البقرة 137/ 2].
وعبر بلفظ الاستفهام لإنكار النفي، مبالغة في الإثبات، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه وأظهره بحيث لا ينكره أحد، لأنه ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، فهو تعالى عالم بحاجات العباد، وقادر على توفيرها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء عبده ما يريد.
والمراد بعبده: النبي ص وجميع عباد الله، بدليل قراءة «عباده» .
روى الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ص يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع به» .
وبعد أن ذكر الله تعالى المقدمة وهي كفاية العباد، رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي ويخوفك أيها الرسول المشركون ويتوعدونك بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، فلا تخف مما يخوفونك به من آلهتهم وجنودهم، فإن الله يحميك مما يضرك، وليس عند آلهتهم نفع ولا ضرر. وقد عرفنا في سبب النزول أن المشركين خوفوا
النبي ص مضرّة الأوثان، فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنك بسوء. ولما بعث النبي خالدا إلى كسر العزّى قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقدم لها شيء، فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف.
والآية دليل على أن الله يحمي نبيه ص من السوء، ويكفيه وأتباعه الدين والدنيا، إذ لما كان تعالى كافي عبده، كان التخويف بغيره عبثا باطلا.
ثم أبان الله تعالى مدى قدرته وسلطانه ليبطل توعد المشركين ويبين جهلهم، فقال:
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أي من حق عليه القضاء بضلالة، لسوئه وفسقه وعصيانه، فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة، ومن يوفقه الله إلى السعادة والإيمان لاستعداده لهما.
فلا مضل له أبدا.
والمراد أن خلق المهتدين والضالين بيد الله، فهو الفاعل، وليس لمن عداه أي تأثير في ذلك، فلا راد لفضله، ولا مانع لمراده، لذا هدد كفار قريش قائلا:
{أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} ؟ أي أليس الله بغالب لكل شيء قاهر له، ينتقم من عصاته بعذاب شديد؟ فهو منيع الجناب، لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه القوي الذي لا أقوى منه، ولا أشد انتقاما منه، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله ص.
والخلاصة: إن الآية وعد للمؤمنين، وعيد لكفار قريش وأمثالهم.