الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الآيات السابقة إلى قبول الدين الذي دعا إليه موسى، على سبيل الإجمال، وفي المرتين الأخريين على سبيل التفصيل.
فدعاهم إلى الإيمان بالله سبحانه طريق الرشاد، ثم حذّرهم من الاغترار بالدنيا، وحثّهم على العمل للآخرة لدوامها، وقارن بين دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى طريق النجاة، وبين دعوتهم له إلى عبادة الأصنام طريق النار. ثم أخبر سبحانه عن وقايته وعصمته من السوء الذي دبّروه له، وإغراق آل فرعون، وإدخالهم في جهنم يوم القيامة.
التفسير والبيان:
{وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ} قال مؤمن آل فرعون يعظ قومه: يا قوم، اتبعوني فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، أدلكم على طريق الرشاد والخير والسداد، وهو اتباع دين الله الذي جاء به موسى.
وفيه تعريض بأن سبيل فرعون وآله سبيل الغي والضلال والفساد.
ثم حذرهم من الافتتان بنعيم الدنيا والاغترار بزخارفها، فقال:
{يا قَوْمِ، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ} أي يا قوم، ما هذه الحياة الدنيوية إلا مجرد متاع يستمتع به قليلا ثم يزول وينتهي بالموت، وإن الآخرة هي دار الاستقرار والبقاء والخلود، فهي دائمة باقية لا زوال عنها، ولا انتقال منها، والناس إما في النعيم وإما في الجحيم، ولا ثالث غيرهما، فالسعيد من سعى إلى النعيم، والشقي من سعى إلى الجحيم، لأن النعيم فيها دائم، والعذاب فيها دائم.
وهذا نعى للدنيا الزائلة الفانية عما قريب، وبشارة بالآخرة الدائمة الباقية.
ثم أبان تعالى طريق تقسيم العباد وكيفية المجازاة في الآخرة، مشيرا إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب، فقال:
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ} ، أي من ارتكب معصية من المعاصي، فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها، عدلا من الله، ومن عمل العمل الصالح وهو اتباع أمر الله واجتناب نهي الله، وكان مصدقا بالله وبرسله، فهؤلاء هم لا غيرهم أهل الجنة التي يتمتعون بنعيمها ورزقها أضعافا مضاعفة، بغير تقدير ولا تساو مع العمل، فضلا من الله ونعمة ورحمة.
وهذا دليل على أن جزاء السيئة مقصور على المثل، وجزاء الحسنة خارج عن الحساب، غير مقصور على المثل. والآية أيضا أصل كبير في أحكام الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات، فإن مقتضى الآية أن يكون المثل مشروعا، وأن الزائد عن المثل غير مشروع، أي إن الواجب في الجنايات على الأنفس والأموال هو إما المثل في المثليات كالحبوب، وإما القيمة في القيميات كالأمتعة والأثاث واللآلئ والجواهر.
ثم أكّد وكرر الرجل المؤمن دعوته إلى الله، وصرّح بإيمانه بالله وحده لا شريك له، فقال:
{وَيا قَوْمِ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ} أي ما لكم يا قوم؟ أخبروني عنكم، ما بالي أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة، بالإيمان بالله تعالى، وعبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله المبعوث إليكم من عند ربكم، وتدعونني إلى عمل أهل النار، بما تريدون مني من الشرك وعبادة الأصنام؟ ثم فسّر الدعوتين قائلا:
{تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ} أي تدعونني لأمر خطير جدا هو الكفر بالله، والإشراك به في عبادته جهلا ولم يقم أي دليل على ألوهيته، ولا علم لي من وجه صحيح بكونه شريكا لله، وأنا أدعوكم إلى الإيمان بمن اتصف بصفات الألوهية الحقة، من العزة والقدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المغفرة والتعذيب، فآمنوا به يغفر لكم ويعزّكم، فهو القوي الغالب في انتقامه ممن كفر، الغفار في عزته وكبريائه لذنب من آمن به وتاب إليه.
ثم أكّد تفنيد دعوتهم وفساد منهجهم، فقال:
{لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ} أي قد حقّ وثبت وصحّ عقلا وواقعا أن الذي تدعونني إليه من عبادة الأصنام والأنداد ليس له أي دعوة مستجابة، فلا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضرّ، كما في آية أخرى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ} [الأحقاف 5/ 46 - 6]، وقال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [غافر 14/ 40].
{وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ} أي والواقع الحتمي أن مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت ثم بالبعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بعمله، وأن المسرفين في المعاصي، المستكثرين منها، المتعدّين حدود الله، المنغمسين في الشرك والوثنية والكفر، هم أهل النار الذين يصيرون إليها، الخالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل.
ثم ختم كلامه بخاتمة لطيفة مؤثّرة فيها تذكير بالمستقبل وبعد نظر، فقال:
{فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} أي سوف تعلمون صدق قولي لكم من أمر ونهي ونصح وإيضاح وتذكير في وقت لا ينفع فيه الندم، حين ينزل بكم العذاب الشديد في الآخرة، وأتوكل على الله وأستعين به ليعصمني من كلّ سوء في مقاطعتي لكم ومباعدتكم، فإن الله بصير بعباده، خبير بهم، فيهدي من يستحق الهداية، ويضلّ من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدرة النافذة. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل، فلم يقدروا عليه.
ثم أخبر الله تعالى عن مصير هذا الرجل المؤمن الجريء الناصح الفصيح، فقال:
{فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} أي حفظه الله وحماه في الدنيا من سوء وشرّ ما أرادوا به من قتل، ونجّاه من بأس فرعون، كما نجّى موسى عليه السلام، كما نجّاه في الآخرة من النار، وأنعم عليه بالجنة، ونزل بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق جميعا في البحر، وسيعذبون في الآخرة بالنار.
ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء، فقال:
{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ويقال للملائكة:
أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد ألما وأعظم نكالا
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله ص:
«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة
فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».
وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار، بالغداة والعشي، فيقال:
هذه داركم».
وفي حديث آخر عنه تقدّم: «إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها» .
وهذه الآية والأحاديث أصل أساسي في إثبات عذاب البرزخ في القبر، وأن عذاب القبر حقّ واقع لا شكّ فيه.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله ص عن عذاب القبر، فقال:«نعم عذاب القبر حقّ» ولكن ليس في الآية دلالة على أن الأجساد في القبور تتألم مع الروح، وتتعذب معها، وإنما دلّت السنّة على ذلك،
كالحديث المتقدّم: «نعم عذاب القبر حقّ» وكذلك اقتصرت دلالة الآية على عذاب الكفار في البرزخ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب، ولكن يفهم ذلك من الأحاديث النّبوية المتقدّمة، لكن العذاب متفاوت بدليل
ما رواه ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي ص قال:
«ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى، قلنا:
يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ فقال: إن كان قد وصل رحما أو تصدّق بصدقة أو عمل حسنة، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: فما إثابته في الآخرة؟ قال ص: عذابا دون العذاب» وقرأ: