الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النّارِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي واذكر أيها الرسول لقومك قريش حال الكفار يوم القيامة ليرتدعوا وينزجروا حين يساقون جميعا إلى النار بعنف، بعد إيقاف أولهم ليلحق بهم آخرهم كيلا يتفرقوا، وليتلاحقوا ويجتمعوا، فتجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم 86/ 19].
وأعداء الله تعالى: كل من كذب رسله واستكبر عن عبادته. وفي الآية إشارة إلى جموع الكفار وكثرتهم وإهانتهم في سوقهم.
{حَتّى إِذا ما جاؤُها، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي يوزعون إلى أن يصلوا إلى النار ويقفوا عليها، فيسألون عما أجرموا، فإذا أنكروا تشهد عليهم جوارحهم بما اقترفت من الشرك والمعاصي وما عملوا في الدنيا، بأن ينطقها الله بما كتمت الألسن كما أنطق الشجرة، بأن يخلق فيها كلاما، والجلود: هي جلودهم المعروفة، وقيل: المراد بالجلود: الجوارح (الأعضاء) وشهادة الجلود: بالملامسة للحرام وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. واقتصر من الحواس الخمس على ثلاث منها وهي السمع والبصر واللمس، فإن آلة اللمس: هي الجلد، باعتبارها وسائل قوية للعصيان. أما الذوق فهو داخل في اللمس، وأما الشم فهو حسّ ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي. وقوله {سَمْعُهُمْ} مفرد مضاف فيعم، ويصبح نظير جمع الأبصار والجلود.
فيحدث التعجب من الإنسان، كما حكى تعالى:
{وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا: أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي يقول هؤلاء على جهة اللوم والمؤاخذة لأعضائهم وجلودهم حين شهدوا
عليهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا} ؟ فتجيبهم الأعضاء معتذرين: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا، فكذلك أنطقنا في الآخرة، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [يس 65/ 36].
{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي من قدر على خلقكم وإنشائكم في ابتداء الأمر، قدر على إعادتكم ورجوعكم إليه، فإليه المصير بعد الموت، فيحاسب ويجازي كل نفس بما كسبت. وهذا إما تتمة كلام الجلود، أو من كلام الله تعالى.
أخرج مسلم في صحيحة والبزار وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله ص، فضحك، فقال: هل تدرون ممّا أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول-أي العبد لربه-: ألم تجرني من الظلم
(1)
؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه (فمه) فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل».
{وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} هذا إما من كلام الجلود أو من كلام الله سبحانه كسابقه أو من كلام الملائكة، أي ما كنتم تتسترون وتستخفون حين فعل الأعمال القبيحة ومباشرتكم الفواحش، حذرا أو مخافة من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي.
(1)
هذه رواية مسلم، ورواية البزار:«يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني» ؟.
ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية، كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، خوفا من هذه الشهادة.
{وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ} أي ولكنكم ظننتم ظنا مخطئا أن الله حال ارتكابكم المعاصي لا يعلم كثيرا مما تعملون من المعاصي، فاجترأتم على فعلها.
وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يفكر دائما بوجود رقيب عليه.
{وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي إن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وهو ظن فاسد، جرّأكم على المعصية، فتسارعتم فيها، وذلك أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الخاسرين، إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة.
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى:{وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} .
{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، أو لم يصبروا، هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، فهي مأواهم ومحل استقرارهم، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا عن ذنوبهم، فما لهم أعذار، ولا يقبل منهم الاعتذار والاسترضاء، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل والتكليف،
قال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ابن الأثير وغيره عن ابن عباس: «ولا بعد الموت من مستعتب» أي ليس بعد الموت من معذرة أو استرضاء، لأن الآخرة دار جزاء، لا دار عمل.
ثم أبان الله تعالى سبب بقائهم في الكفر، فقال: