الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعرض وظلّ على كفره، فلا تعجب يا محمد من موقف قومك، فهذه حال الأمم مع أنبيائهم. وفي هذا تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلم، ليشتد صبره على أذى قومه، ولا ييأس من إيمانهم. وفي رأي القرطبي: أن الضمير في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} يعني بالنّبي صلى الله عليه وسلم. {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم، وقيل: يرجع إلى الكتاب.
وإن لم يصبهم عذاب في الدنيا، فكفاهم عذاب جهنم في النار المسعّرة الشديدة اللظى، وبئس المصير، ولكن ذلك بسبب اتّباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1 -
المنع من تزكية الإنسان نفسه: فإن المزكّي نفسه بلسانه يغضّ من قدر نفسه، ولا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وقد نهى الله صراحة عن ذلك بقوله:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} [النجم 32/ 53]. وكذلك نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
جاء في صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيت ابنتي برّة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت برّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم» فقالوا: بم نسمّيها؟ فقال: «سمّوها زينب» .
وكذلك نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن الإفراط في مدح الرجل بما ليس فيه، فيدخله بسببه الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل.
ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة أنّ رجلا ذكر عند النّبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال
النّبي صلى الله عليه وسلم: «ويحك قطعت عنق صاحبك-يقوله مرارا-إن كان أحدكم مادحا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكّي على الله أحدا» .
وفي حديث آخر: «قطعتم ظهر الرجل» حين وصفوه بما ليس فيه.
وعلى هذا تأوّل العلماء
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «احثوا التراب في وجوه المدّاحين» : أن المراد بهم المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يفتنون به الممدوح.
أما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود، ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمدّاح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النّيّات، وقال الله تعالى:{وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة 220/ 2]. وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجوه المدّاحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسّان له في شعرهما، ومدح كعب بن زهير.
ومدح هو أيضا أصحابه
فقال: «إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» .
وأما
قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله» فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات، تلتمسون بذلك مدحي، كما وصف النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلّوا.
وهذا يقتضي أن المبالغ بالمدح آثم.
2 -
ترفع الله عن الظلم: لقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} والفتيل:
الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وهو كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، ومثله قوله تعالى:
{وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء 124/ 4] وهي النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة.
3 -
افتراء اليهود الكذب على الله: في قولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} [المائدة 18/ 5]، وقيل: تزكيتهم لأنفسهم،
وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. ومن المتفق عليه أن المراد بالآية: {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} : اليهود. والافتراء: الاختلاق.
4 -
الخلط في عقيدة اليهود: بالرغم من أن اليهود يؤمنون بالإله وعندهم كتاب سماوي، يؤمنون أيضا بالجبت والطاغوت أي بالأصنام والأوثان. وهذا ما أعلنه بعض عظمائهم: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، بدليل:
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ} [النساء 60/ 4] ويقولون لكفار قريش:
أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد، كما تقدّم في سبب النزول.
5 -
زوال الملك والسلطة عن اليهود: أنكر الله تعالى وجود السلطة والملك على اليهود في ذلك الزمان، فقال:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟} أي ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا، لبخلهم وحسدهم.
6 -
البخل والحسد أسوأ أخلاق اليهود: أخبر الله تعالى عن اليهود بهاتين الصفتين الذميمتين وهما البخل والحسد: الأول في قوله سبحانه: {فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
النّاسَ نَقِيراً} أي يمنعون الحقوق، وهو خبر من الله عز وجل بما يعلمه منهم.
والنقير: النكتة في ظهر النواة.
وأخبر عز وجل أيضا عنهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والمراد بالناس في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما: النّبي صلى الله عليه وسلم، حسدوه على النّبوة، كما حسدوا أصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: الناس: العرب، حسدتهم اليهود على النّبوة. وقال الضّحّاك: حسدت اليهود قريشا؛ لأن النّبوة فيهم. والأقوال كلها متقاربة.
والحسد مذموم، وصاحبه مغموم،
وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما رواه ابن ماجه عن أنس عن النّبي صلى الله عليه وسلم.
7 -
نعم الله وأفضاله على آل إبراهيم: أخبر الله تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيّدوا بالملائكة. وقيل عن ابن عباس: يعني ملك سليمان، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان أكثر من ذلك.
واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء.
والمراد تكذيب اليهود والرّدّ عليهم في قولهم: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النّساء، ولشغلته النّبوة عن ذلك؛ فأخبر تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة،
فقال لهم النّبي صلى الله عليه وسلم: «ألف امرأة؟!» ، قالوا: نعم، ثلاثمائة مهريّة، وسبعمائة سرّية
(1)
، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النّبي صلى الله عليه وسلم:«ألف عند رجل، ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟» فسكتوا.
(1)
السّرّية: الأمة التي بوأتها بيتا، وهي فعليّة منسوبة إلى السّر وهو الإخفاء لسترها عن الحرّة عادة.