الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمة مؤمنة لقوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} فلا يحل نكاح الإماء الكافرات ولو عدم الرجل مهر الحرة وخاف الوقوع في الزنى. {وَأَنْ تَصْبِرُوا} عن نكاح المملوكات {خَيْرٌ لَكُمْ} لئلا يصير الولد رقيقا.
المناسبة:
هذه الآية تابعة لما قبلها، تبيّن حكم التّزوج بالإماء وحكم عقوبتهن عند ارتكاب الفاحشة، بعد أن بيّنت الآية المتقدّمة إباحة الزواج بكل النّساء الأجنبيّات غير المحرّمات، فلما بيّن الله من لا يحل من النّساء ومن يحلّ منهنّ، بيّن لنا هنا فيمن يحلّ أنه متى يحلّ، وعلى أي وجه يحلّ؟
التفسير والبيان:
ومن لم يجد لديه زيادة في المال والسعة ليتمكن من الزواج بالحرائر، فله أن يتزوج بالإماء، وعبّر عنهنّ بالفتيات تكريما لهنّ وإرشادا لمناداة الأمة والعبد بلفظ الفتاة والفتى،
روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولنّ أحدكم عبدي أمتي، ولا يقل المملوك: ربّي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك:
سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرّب: هو الله عز وجل».
والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وشأن الحرّة الإحصان، كما أن شأن الأمة البغاء، لذا قالت هند للنّبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب: أوتزني الحرّة؟ وظاهر الآية يدلّ على أن زواج الإماء مشروط بشروط ثلاثة:
الأول-ألا يجد الزّوج صداق الحرّة.
الثاني-أن يخشى العنت أي الوقوع في الزنى.
الثالث-أن تكون الأمة المتزوّج بها مؤمنة غير كافرة.
ومهر الحرّة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، فلكلّ شخص وبيئة ما يناسبهما عرفا، فقد يقدر الرجل على مهر الحرّة، ولكن النساء تنفر منه لسوء خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بحقوق الحرّة من النفقة والمساواة بينها وبين غيرها، وليس للأمة مثل هذه الحقوق.
وقدّر الحنفية المهر بربع دينار (ثلاثة دراهم)، وقال بعضهم: عشرة دراهم. ولا أجد لهذا التحديد مستندا في الأدلة الشرعية، وإنما الثابت في السّنة
أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يريد الزواج: «التمس ولو خاتما من حديد»
(1)
. وتزوّج بعض الصحابة على تعليم امرأته شيئا من القرآن.
وإنما اشترط التشرع هذه الشروط في نكاح الإماء تفاديا لما يشتمل عليه من أضرار، أهمها صيرورة الولد رقيقا؛ لأن الولد يتبع الأم في الرّق والحرية، لذا قال الله تعالى في آخر الآية:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .
وذهب أبو حنيفة إلى جواز نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرّة، سواء أكان واجدا مهر الحرّة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، عملا بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء 3/ 4]، وقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور 32/ 24]، وقوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} [النساء 24/ 4]، وقوله:{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة 5/ 5]، وجميع ذلك يتناول الإماء والكتابيّات.
ولم يشرط فيه عدم الطّول ولا خوف العنت، وهذه الآية لا تصلح لتخصيص العمومات السابقة؛ لأنها أولا تدلّ على الشروط بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وثانيا على تقدير الحجية يكون
(1)
متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد.
مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، فيجوز أن يكون المراد ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة، ولكن الكراهة أقلّ في مخالفة العمومات فتعينت. وأما قوله تعالى:{ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح لعموم مقتضى الآيات.
وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض هذه الآية، إلا معارضة العام للخاص، والخاص مقدّم على العام. والحنفية خصصوا عموم الآيات فيمن لم يكن عنده حرّة، صونا للولد عن الإرقاق، وهذا المعنى يقتضي التخصيص أيضا بما إذا لم يكن لديه مهر الحرة، وخاف العنت. ثم إن الآية أباحت نكاح الأمة لضرورة من خشي العنت وفقد مهر الحرّة، بشرط كون الأمة مسلمة، وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.
وأما معنى قوله: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فهو أنكم أيها المؤمنون مكلّفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر، فاعملوا على الظاهر في الإيمان، والإيمان الظاهر في الأمة كاف، ولا يشترط العلم بالإيمان يقينا؛ إذ لا سبيل لكم إليه. وأنتم مع الإماء إما من جنس واحد وهو البشرية والرجوع إلى أصل واحد وهو آدم، وإما أنكم مشتركون مع الإماء في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل فلا تأنفوا نكاح الإماء عند الضرورة. وهذا رفع من شأن الإماء وتسوية بينهن وبين الحرائر.
ثم أعاد الله تعالى الأمر بنكاح الإماء لزيادة الترغيب، وجعل نكاحهن مثل الحرائر بكونه بإذن أي رضا أهلهنّ، والأهل: المولى، أو المالك لهن؛ لأن الإيمان رفع من قدرهن.
واتفق الفقهاء على أن نكاح الأمة والعبد مشروط بإذن السيّد، لهذه الآية
ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» .
فإذا لم يتوافر الإذن، كان النكاح في رأي الشافعي باطلا غير صحيح، وموقوفا غير نافذ كعقد الفضولي في رأي الفقهاء الآخرين.
والأمة كالحرة أيضا في وجوب المهر لها، لقوله تعالى:{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي أدّوا إليهنّ مهورهنّ بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.
ومهر الأمة عند الجمهور (أكثر الأئمة) للسيّد؛ لأنه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيّد، وهو الذي أباحها للزوج بالنكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأن الرّقيق لا يملك شيئا أصلا؛ لقوله تعالى:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ} [النحل 75/ 16]، و
قوله صلى الله عليه وسلم: «العبد وما في يده لمولاه» .
وقال الإمام مالك: المهر حق للزّوجة على الزّوج، ومهر الأمة لها، عملا بظاهر الآية. ورد الجمهور بأن المراد بالآية: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، أو أن المراد: وآتوا أهلهن مهورهن. وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر.
لكن شرط استحقاق الإماء المهور أن يكنّ عفائف متزوجات منكن، لا مستأجرات للبغاء جهرا وهنّ المسافحات، ولا سرّا وهنّ متخذات الأخدان.
وهكذا كان عرف الجاهلية في قسمة الزنى نوعين: علني وهو السّفاح، وسرّي وهو اتّخاذ الأخدان. وقد حرّم الله النّوعين بقوله:{وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأنعام 151/ 6]، وقوله:{قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأعراف 33/ 7].
فالمراد بالمحصنات هنا: العفائف، والمرأة المسافحة: هي التي تؤاجر نفسها
مع أي رجل أرادها، والتي تتخذ الخدن: هي التي تتخذ صاحبا معينا.
والسبب في اشتراط كون الأمة محصنة مصونة في السرّ والجهر إذا أراد الحرّ التزوّج بها: هو أن الزّنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء، وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن، حتى إن عبد الله بن أبيّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن، فنزل في ذلك:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [النور 33/ 24].
ثم أبان الله تعالى عقوبة الحدّ على الزّانية الأمة، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرّة، وذلك بقوله:{فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ..} . أي أن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزّواج، فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وإذا كان حدّ الحرّة مائة جلدة بقوله تعالى:{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} فحدّ الأمة هو خمسون جلدة. هذا ما دلّ عليه القرآن، فلا رجم للإماء؛ لأن الرّجم لا يتنصف، ودلّت السّنّة على حدّ الأمة غير المزوجة،
روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال:
«اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» .
والسبب في تصدير الآية بقوله: {فَإِذا أُحْصِنَّ} هو دفع توهم أن التزوّج يزيد في حدهنّ، فهو قيد لم يجر مجرى الشرط، فلا مفهوم له.
ثم ذكر الله تعالى بقوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} شرطا آخر لإباحة نكاح الإماء وهو الخوف من الزنى، وهذا ما أخذ به الشافعي رضي الله عنه، أما أبو حنيفة فلم يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح.
ثم أوصى الله تعالى في نكاح الإماء بوصية أدبيّة خلقية عامة فقال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي أن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنّ، وإن أبيح