الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
إن الله لا يغفر الشرك بالله أصلا، ولا لمن يشرك به أحدا سواه، ولكنه قد يغفر ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ومن يشرك بالله شيئا، فقد ضل وبعد عن سبيل الرشاد ضلالا بعيدا في مهاوي الغواية، وسلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته السعادة فيهما؛ لأن الشرك ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح، ويكون المشرك عبدا للأوهام والخرافات. فالشرك: هو منتهى فساد الروح وضلال العقول، ووكر الخرافات والأباطيل، قال الله تعالى:{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ} [البقرة 165/ 2].
وقد تقدم إيراد هذه الآية، وأعيدت هنا تأكيدا لاقتلاع آثار الشرك من النفوس المريضة، ودحض الشرك وهدم طقوسه من مقاصد الإسلام الأساسية، فهو الواجهة المضادة أصلا لعقيدة الإسلام: عقيدة التوحيد. ولا عيب في هذا التكرار للتأكد من غرس الإيمان بالله، والتحذير من مغبة الشرك وخطره وخروجه عن أساس الفطرة ومقتضيات العقل السليم.
روى الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ثم قال الترمذي: هذا حسن غريب.
ومغفرة ما دون الشرك من الذنوب بسبب بقاء نور الإيمان، وهو مشروط بمشيئة الله، فهو يغفر لمن يشاء من عباده، كما يغفر بالتوبة والإنابة إليه، فذلك سبيل محو الذنوب.
وأما أولئك المشركون فهم لا يعبدون أو لا يتوجهون بقضاء حوائجهم إلا إلى
الأموات أو الموتى التي لا تضر ولا تنفع، أو إلى الأصنام الإناث
(1)
كاللات والعزى ومناة، فقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه: أنثى بني فلان، أو إلى الملائكة الذين يقول عنهم المشركون بنات الله:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [الزخرف 19/ 43].
وهم في الواقع ما يعبدون إلا شيطانا عاتيا مرد على الإيذاء وتمرن على الخبائث؛ إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، فكانت طاعتهم له عبادة.
{لَعَنَهُ اللهُ} أي طرده وأبعده من رحمته وفضله مع الذل والهوان، فإنه داعية الشر والفساد والباطل بما يوسوس في صدر الإنسان.
ومن غلو الشيطان ودعوته إلى الفساد أنه أقسم: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي لأجعلن تلامذة لي جزءا معينا مقدرا معلوما من الناس، مثل قوله تعالى حكاية عنه:{وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر 39/ 15 - 40].
ولأضلّنهم، أي أصرفنهم عن الحق، وعن الاعتقاد الصحيح.
ولأمنينّهم، أي أزين لهم اللذات وترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغريهم من أنفسهم.
ولآمرنهن بالضلال فليقطّعن آذان الأنعام، أي تشقيقها ووسمها وجعلها متميزة خالصة للأصنام، كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها، والسائبة الناقة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضعيف، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا، فيقولون: وصلت
(1)
قال الحسن: الإناث: كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس.
أخاها، فلا يذبحون أخاها من أجلها، ولا تشرب لبنها النساء، وكان للرجال، وجرت مجرى السائبة.
ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله بخصي الدواب، والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه، ثبت في الصحيح عند أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود أنه قال:«لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل» ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر 7/ 59].
وقال جماعة من المفسرين: تغيير خلق الله معناه دين الله عز وجل، كقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم 30/ 30] وكما ثبت في الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء»
(1)
.
ومن يتخذ الشيطان وليا يتولى أمره وإماما يقتدي به، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة، بل إنه خسرهما في الواقع، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها، وأي خسران أعظم من ترك هدي القرآن واتباع أساليب الشيطان؟! الشيطان يعد أولياءه الباطل، ويمنيهم بما هو كاذب، يعدهم بالفقر والمرض والتخلف عن ركب التقدم إذا أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، ويعدهم الغنى والثروة بالقمار مثلا، ويمنيهم بأنهم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك.
(1)
الجمعاء: السليمة الأعضاء، والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة.
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغترون به، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء كالزنى والقمار وشرب الخمر، وهي مشتملة على كثير من المضار والشرور والآلام، كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم القيامة:{وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم 22/ 14].
أولئك المستحسنون لما وعدهم الشيطان ومنّاهم مصيرهم ومآلهم جهنم يوم القيامة، ولا يجدون عنها مهربا يفرون إليه، أي ليس لهم مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، يتهافتون فيها تهافت الفراش على النار.
ثم ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال:
والذين آمنوا: صدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ورضوا بقضائه، وعملوا الصالحات، أي الأعمال الطيبة وما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات، سيدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار بما اشتملت عليه من ألوان النعيم المقيم، ويصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، وهم ماكثون مقيمون فيها على الدوام، بلا زوال ولا انتقال، وذلك هو الفوز العظيم الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.
وهو وعد حق لا شك فيه، أي هذا وعد من الله، ووعد الله واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله «حقا» فهو القادر على كل شيء، وهو الواسع الكرم والرحمة والفضل، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور.
ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} أي لا أحد أصدق منه قولا، أي خبرا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته فيما رواه الترمذي وغيره: «إن أصدق