الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شوكة الإسلام، وبقبول توبة المتسرع في القتل، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل. قال الزمخشري في تفسير {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}: أول ما دخلتم في الإسلام، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم، من غير انتظار الاطّلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم
(1)
.
ثم أكّد الله تعالى وجوب التّبيّن، فأمر أن يكونوا على بيّنة من الأمر الذي يقدمون عليه بأدلّة ظاهرة وقرائن كافية، وألا يأخذوا بالظن السريع، وإنما عليهم التدبّر، حتى يظهر الأمر، فإن الحكم بالإيمان يكفي فيه مجرد ظاهر الحال، أما القتل فلا بدّ فيه من غلبة الظّنّ الراجح على البقاء على حال الكفر، وعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكفّ عن القتل والقتال.
إن الله تعالى خبير بأعمالكم، مطّلع على أحوالكم، ونيّاتكم ومقاصدكم، وسيجازيكم عليها، وهذا تهديد ووعيد وتحذير من تكرار التّورّط في مثل هذا الخطأ، فلا تتهافتوا في القتل، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل، لخطورته، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع، فذلك ليس من شأن البشر، وإنما أمر القلوب متروك لعلاّم الغيوب، وهذا مناسب للرّواية التالية:
(1)
الكشاف: 418/ 1
المشهور في سبب نزول هذه الآية
ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريّة، فصبّحنا الحرقات
(1)
من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنّبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟» قال: قلت:
يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال:«أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟!» .
(2)
وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال:«أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.
أما الفقهاء فقالوا: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة؛ لأنه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا وخوفا من السلاح، وإن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النّبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها،
فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، ولذلك
قال لأسامة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. والمراد من
الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس» هم مشركو العرب دون اليهود والنصارى فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، فلا بدّ فيهم من إعلان الاعتراف بنبوّة النّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا من الفقه حكم عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر
(3)
.
(1)
الحرقات: موضع ببلاد جهينة.
(2)
أحكام القرآن للجصاص: 248/ 1
(3)
تفسير القرطبي: 338، 324/ 5 - 339
وإذا فسّر قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ: لَسْتَ مُؤْمِناً} بالتّحية، فلا مانع أيضا؛ لأن سلامه بتحيّة الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والتّرك. فإن قال: سلام عليكم، فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا؛ لأنه موضع إشكال. ولا يكفي في رأي مالك أن يقول: أنا مسلم أو أنا مؤمن، أو أن يصلّي، حتى يتكلّم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في
قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله»
(1)
.
أي أن الكلمة الفاصلة بعد التحية بالسّلام أو برؤيته يصلي هو أن يقول:
لا إله إلا الله. وهذا في شأن إنهاء الحرب ومنع القتل والقتال، فيكتفى بالحكم بالظاهر، وليس في قضية أن الإيمان هو الإقرار فقط، كما حاول بعضهم الاستدلال بالآية، وإنما حقيقة الإيمان: التّصديق بالقلب، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول:«لا إله إلا الله» وليسوا بمؤمنين.
وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع الله هو إعلاء كلمة الله تعالى، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية، فإن الله وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا.
(1)
المرجع السابق: 339/ 5، أحكام القرآن لابن العربي: 481/ 1 وما بعدها.