الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة.
نزول الآية (59):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا.} .:
روى البخاري عن ابن عباس قال:
نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النّبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
قال الداودي: هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب، فأوقد نارا، وقال: اقتحموا، فامتنع بعض، وهمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهم:
«إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟ وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته: فإن تنازعتم في شيء، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف، فرارا من النار، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.
التفسير والبيان:
إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي
أمر عام بأداء الأمانات إلى أهلها لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده، ويتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه، أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه.
فرعاية الأمانة في حقوق الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه.
ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال: «كل شيء إلا الأمانة» والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب): الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر: خلق الله فرج الإنسان، وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها.
ورعاية الأمانة في حق النفس: ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب المرض، ويعمل بقواعد علم الصحة،
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
وقوله في الحديث الصحيح: «إن لنفسك عليك حقا» .
ورعاية الأمانة في حق الآخرين: رد الودائع والعواري، وعدم الغش في المعاملات، والجهاد والنصيحة، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم.
ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة، منها قوله تعالى:{إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} [الأحزاب 72/ 33]. ومنها: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} [المؤمنون 8/ 23] ومنها: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} [الأنفال 27/ 8].
وقال صلى الله عليه وسلم-فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» .
وأداء الأمانات واجب، ولا سيما عند طلبها من صاحبها، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة،
كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء» .
وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت، وإلا فلا تضمن.
وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس، لذا أمر الله تعالى به، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي، والعدل هو الأساس الثاني، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة.
والعدل: أساس الملك، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم، وتشيد به كل العقول، وأصل من أصول الحكم في الإسلام، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه، ولا يبغي القوي على الضعيف، ويستتب الأمن والنظام، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل، حتى تصل الحقوق لأهلها، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل، منها قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} [النحل 90/ 16] ومنها: {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى}
[الأنعام 152/ 6] ومنها: {اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [المائدة 8/ 5] ومنها:
{كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة 8/ 5] وأمر الله به داود:
{يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ} [ص 26/ 38].
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال هذه الأمة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت» .
وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ} [إبراهيم 42/ 14] ومنها: {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} [الصافات 22/ 37]. ومن أخطر أنواع الظلم: الحكم بغير ما أنزل الله، وظلم الحكام:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} [النمل 52/ 27] وظلم القضاة.
وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين، ومعرفة حكم الله، وتولية الأكفاء.
وفي قوله تعالى: {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ} إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق.
ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة، فقال:{إِنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
{إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً} يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس، فيحاسبكم ويجازيكم، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات.
ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه، وإطاعة ولاة الأمور.
ومن هم أولو الأمر؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم الحكام أو أمراء السرايا. وذهب آخرون إلى أنهم العلماء الذين يبينون للناس الأحكام الشرعية.
وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون.
والظاهر إرادة الجميع، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي: والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم.
وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب
(1)
.
ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر: أهل الحل والعقد، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء.
فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة، فيؤخذ بما يوافقهما، ويرد ما يخالفهما، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم العمل بالقياس، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله
(2)
.
(1)
أحكام القرآن: 452/ 1
(2)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.