الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة:
في {يُخادِعُونَ} .. {خادِعُهُمْ} وفي {شَكَرْتُمْ} .. {شاكِراً} جناس اشتقاق. وقوله:
{ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ؟} استفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم ما دمتم شكرتم نعم الله وآمنتم به.
المفردات اللغوية:
{يُخادِعُونَ اللهَ} بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر، فيدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. من الخداع: وهو إيهام غيرك خلاف حقيقة الشيء. {وَهُوَ خادِعُهُمْ} مجازيهم على خداعهم، فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. {كُسالى} جمع كسلان وهو المتثاقل المتباطئ. {يُراؤُنَ النّاسَ} بصلاتهم، أي يقصدون بعملهم الظهور للناس ليحمدوهم عليه، وهم في داخلهم غير مقتنعين بما يعملون. {وَلا يَذْكُرُونَ} أي ولا يصلون.
{إِلاّ قَلِيلاً} أي رياء. {مُذَبْذَبِينَ} مترددين. {بَيْنَ ذلِكَ} بين الكفر والإيمان. {لا إِلى هؤُلاءِ} لا منسوبين إلى الكفار. {وَلا إِلى هؤُلاءِ} ولا إلى المؤمنين. {سَبِيلاً} طريقا إلى الهدى.
{سُلْطاناً مُبِيناً} حجة قوية ظاهرة أو برهانا بيّنا على نفاقكم. {الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} الدرك: المكان، والأسفل من النار: هو قعرها. {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} مانعا من العذاب.
{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا} من النفاق. {وَأَصْلَحُوا} عملهم. {وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ} ووثقوا بالله.
{وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ} من الرياء. {أَجْراً عَظِيماً} في الآخرة وهو الجنة. {وَكانَ اللهُ شاكِراً} لأعمال المؤمنين بالإثابة عليها. {عَلِيماً} بخلقه.
المناسبة:
الآيات مكملة لما سبقها في تبيان صفات المنافقين وأحوالهم ومواقفهم.
التفسير والبيان:
إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، كما تقدم في أول سورة البقرة:{يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [9] ولا شك بأن الله لا يخادع؛ فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم
يظنون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية [المجادلة 18/ 58].
{وَهُوَ خادِعُهُمْ} أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، مثل {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [الأنفال 30/ 8]. أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} -إلى قوله- {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد 13/ 57 - 15].
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس: «من سمّع سمّع الله به، ومن رأيا رأيا الله به» قال ابن عباس: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى:{كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة 17/ 2].
{وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى} أي متباطئين متثاقلين؛ إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها. هذه صفة ظواهرهم.
ثم ذكر الله تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال:{يُراؤُنَ النّاسَ} بها،
أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يريدون أن يراهم الناس تقية لهم ومصانعة، ويقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح،
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..» الحديث.
{وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاّ قَلِيلاً} أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وإنهم في الواقع لا يصلون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا.
وهم أيضا مذبذبون مضطربون متحيرون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين حقيقة، ولا مع الكافرين حقيقة، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعصف به الشك، فتارة يميل إلى المؤمنين، وتارة يميل إلى الكافرين كاليهود، كما قال تعالى في أول سورة البقرة:{كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا} الآية [20] فإذا ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن صرفه عن طريق الهدى، بسبب أعماله ومواقفه وأخلاقه، فلن تجد له سبيلا (طريقا) إلى الخير والسداد يسلكه.
ثم حذّر الله المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين وأن يوالوا الكافرين، فقال:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصاحبونهم وتصافونهم، وتناصحونهم وتصادقونهم، وتسرون إليهم المودة، وتفشون أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ
مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران 28/ 3] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، وقال أيضا:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [المائدة 51/ 5].
أما تولي الذميين الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، فليس بمحظور، فإنهم اشتغلوا في عصر الصحابة في الدواوين، وكان أبو إسحاق الصابي وزيرا في الدولة العباسية.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً} أي أتريدون أن تجعلوا لله على أعمالكم حجة بينة في استحقاق العقاب إذا اتخذتموهم أولياء، يعني أن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا من منافق.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة المنافقين الشهيرة: وهي {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} أي إن مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال المفسرون:
النار سبع دركات: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يسمى بعضها باسم بعض. وأما الجنة فهي درجات، بعضها أعلى من بعض.
والسبب في أن عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر: هو أنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
وهذا العذاب لن يجدوا أحدا ينقذهم منه أو يخففه عنهم: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} .
ثم ذكر الله تعالى طريق الإصلاح وهو فتح باب التوبة عن النفاق، وشرط الله تعالى لقبول توبة المنافقين توبة صحيحة أربعة شروط في قوله:{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ} ، وتلك الشروط هي
الندم على الفعل السابق، والإصلاح أي الاجتهاد في فعل الأعمال الصالحة التي تغسل أدران النفاق، والاعتصام بالله أي الثقة به والتمسك بكتابه والاهتداء بهدي نبيه المصطفى، وبقصد مرضاة الله، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً} [النساء 175/ 4] والإخلاص لله بأن يدعوه العباد وحده، ويتجهوا إليه اتجاها خالصا، لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه، ولا يلجأون إلى أحد سواه لكشف ضر أو جلب نفع، كما قال تعالى:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة 5/ 1].
هذه شروط قبول توبة المنافق، أما الكافر فشرط توبته فقط هو الانتهاء عن الكفر كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال 38/ 8]. والمنافق: هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. والكافر:
من أعلن الكفر صراحة.
أولئك التائبون هم مع المؤمنين أي أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين، وفي زمرتهم يوم القيامة.
وسوف يعطي الله المؤمنين أجرا عظيما لا يعرف قدره، فيشاركونهم فيه كما قال تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة 17/ 32].
ثم بين الله تعالى سبب تعذيبهم وهو كفرهم بأنعم الله فقال مستفهما استفهاما إنكاريا: ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس؟ إنه يعذبكم لا من أجل الانتقام والثأر، ولا من أجل دفع ضر وجلب خير؛ لأن الله غني عن كل الناس، وهو الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، ولكنه أيضا عادل حكيم، لا يسوي بين الصالح والطالح، فالكافر والمنافق والعاصي لم يشكروا الله تعالى على نعمه، ولم يؤدوا واجبهم في الإيمان الحق بالله تعالى، ولم يصرفوا نعم الله في الخير. ولو