الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب.
فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر الدائم، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله، وحماية الشرع، وديار الإسلام، وتخليص المستضعفين، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد، ويعلموا كيف يردّون عليهم، فذلك أثبت لهم، لذا قال لهم:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب.
ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله، بل هو مقام عين التوكل؛ لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتّباع سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد أسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل: من قال: إن التّوكل يكون بترك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول:{فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال 69/ 8]، فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} [الأنفال 12/ 8]، فهذا عمل.
وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف»
(1)
. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السرية
(2)
.
(1)
رواه الحكيم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر، لكنه حديث ضعيف.
(2)
تفسير القرطبي: 273/ 5، 189/ 4، أحكام القرآن للجصاص: 215/ 2، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سمّوا بذلك؛ لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.
وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر، أو يمنع من القدر شيئا؛ ولكنّا مطالبون بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة،
وورد في الحديث:
«اعقلها وتوكل»
(1)
والقدر جار على ما قضى الله، ويفعل الله ما يشاء، ويكون أخذ الحذر من القدر، كما أوضحت في تفسير الآيات.
ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته، واحتمالات تطور المعركة.
ويقال للقوم الذين ينفرون: النفير.
وبناء على هذا، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى:{اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً} [التوبة 41/ 9]، وقوله:{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة 39/ 9]، وقوله:{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة 122/ 9]؛ لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون، والتبطئة والإبطاء: التأخر، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون: إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة، يقول المنافق الواحد منهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.
(1)
رواه الترمذي عن أنس، وهو ضعيف.
وإن أصيبت الأمة بمصيبة من قتل وهزيمة، فرح وقال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا. فهؤلاء المنافقون يجب الحذر منهم أشدّ الحذر، وهم مروجو الإشاعات المغرضة: إشاعة الضعف والهزيمة وعدم تكافؤ القوى في عصرنا الحاضر.
وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عز وجل مقابل الحصول على ثواب الآخرة.
وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان.
وظاهر قوله تعالى: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، فللشهيد أجر، وللغانم أجر، بدليل
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة» . ومعنى الجملة الأخيرة: يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد.
أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة، ويبقى له الثلث، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي: 277/ 5 - 278
وخامسا-بيّنت الآية بعض أحوال مشروعية القتال مع الحضّ على الجهاد وهي ما يلي:
1 -
القتال في سبيل الله: يفسره
الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله، وإقرار العدل والحقّ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر.
2 -
استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو: وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام
فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى: «فكّوا العاني» أي الأسير. وكذلك قال العلماء: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون
بقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» ، وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال: المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى