الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في القرآن: {نَزَّلَ} لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى:{وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} .
ثم توعد الله من كفر بعد الأمر بالإيمان فذكر:
ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله، أو اليوم الآخر، فقد ضل أي خرج عن طريق الهدى والحق، وبعد عن المطلوب كل البعد.
ومن فرّق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه ولا يعترف به لأن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل، ولو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه كما كفر بمحمد المبشر به عندهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أصول الحكم أو القضاء بين الناس على أساس من العدل، وأداء الشهادة بالحق، وأصول التدين والإيمان الصحيح بالتصديق بجميع أنبياء الله ورسله الكرام، دون تفرقة بين أحد من رسل الله.
أما الآية الأولى فهي آمرة أمرا صريحا قاطعا بشيئين:
الأول-المبالغة في إقامة العدل والتعاون فيه دون تهيب ولا انحراف ولا تردد في القضاء به؛ إذ بالعدل قامت السموات والأرض. ولقد كان السلف الصالح مضرب المثل في التزام شريعة العدل في كل الأقضية حتى مع الأعداء، ولو كان المسلمون هم المقضي عليهم، ولهم في ذلك روائع الأمثال والقصص، منها:
أن عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه، وبغضي
لكم، على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
الثاني-أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ولأنه أحق أن يتبع، ولأن الاستعلاء على مصالح النفس ومراعاة حظوظها هو أمارة الإيمان الصحيح بالله، ولأن بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب إنما يكونان ضمن دائرة الحق والمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فالشهادة ينبغي أن تكون خالصة لله أي لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه، فيقر الإنسان بالحق لأهله، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، وبهذا أدب الله عز وجل المؤمنين، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.
ولا حاجة لمراعاة غني أو فقير، فالله وحده يتولى أمورهما، وهو أولى بكل واحد منهما.
واتباع الهوى مرد أي مهلك، قال الله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص 26/ 38] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، قال الشعبي: أخذ الله عز وجل على الحكّام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.
وإن التحريف في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين، وعدم قول الحق فيها، والإعراض عن أداء الحق فيها، والظلم في القضاء، كل ذلك مدعاة إلى الجزاء والعقاب الشديد، كما وضح من التهديد المذكور في ختام الآية:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي فمجازيكم بذلك. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل.
وفي الحديث: «ليّ الواجد
يحلّ عرضه وعقوبته»
(1)
واللي: المطل، والواجد: الغني المليء، وعرضه:
شكايته، وعقوبته: حبسه.
وذكر الفقهاء بعض الأمور المتعلقة بالشهادة للوالدين أو على الوالدين فقالوا: لا خلاف في أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية ومقبولة، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما، ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً} [التحريم 6/ 66].
وأما الشهادة للوالدين أو شهادتهما للأولاد ففيها خلاف: قال الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى:{كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلّهِ} فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة وأصحابه.
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق والمزني. وأجاز الشافعي شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية، وهو معرّض للزوال، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فبقي ما عدا المخصوص على الأصل. وأجيب بأن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، وتتواصل منافع الأملاك بين الزوجين، فالتهمة قوية ظاهرة.
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت،
(1)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد.