الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنكم بأن ثبّطناهم عنكم، وألقينا في قلوبهم الرعب والخوف، فأحجموا عن قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم.
والسبب في تسمية ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا: هو تعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين؛ لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دني، ولمظة من الدنيا يصيبونها، كما قال الزمخشري
(1)
.
ثم حسم الله الموقف بين المؤمنين والمنافقين فقال: فالله يحكم بينكم أيها المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون، يوم القيامة، فيجازي كلا على عمله، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل المنافقين النار.
ثم قطع الله تعالى أي أمل يتعلق به الواهمون المنافقون فقال: ولن يمكّن الله الكافرين من استئصال شأفة المؤمنين بالكلية ما داموا متمسكين بشرع الله ودينه، وإن حصل لهم ظفر أحيانا فهو نصر موقوت؛ لأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة:{وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم 47/ 30]{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} [محمد 7/ 47].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1 -
إذا آمن الكافر غفر له كفره السابق، فإذا رجع فكفر، لم يغفر له الكفر الأول، لما
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أمّا من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية
(1)
الكشاف: 431/ 1
والإسلام»
وفي رواية: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» والإساءة هنا بمعنى الكفر؛ إذ لا يصح أن يراد هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله، إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلى حين موته، وذلك باطل بالإجماع
(1)
.
2 -
في هذه الآية {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} رد على أهل القدر؛ فإن الله تعالى بيّن أنه لا يهدي الكافرين طريق خير، ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا.
3 -
تضمنت الآية أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} حكم المرتدين، وأن الردة تحبط الأعمال.
4 -
العذاب الأليم مستحق للمنافقين لا محالة بإخبار الله تعالى، وخبر الله لا يتغير.
5 -
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.} . فيه دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق؛ لأنه لا يتولى الكفار.
وتضمنت الآية المنع من موالاة الكفار، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له:«ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» .
(2)
6 -
العزة أي الغلبة والقوة الحقيقية التامة لله عز وجل.
7 -
يحرم الجلوس في مجالس الكفرة الذين يستهزئون بآيات الله (القرآن)
(1)
دليل الإجماع قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال 38/ 8] والحديث الذي رواه مسلم عن عمرو بن العاص بلفظ «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» .
(2)
رواه أحمد وأبو داود عن عائشة بلفظ: «إنا لا نستعين بمشرك» .
والخطاب في قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.} . عام لجميع من أظهر الإيمان من محقّ ومنافق؛ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن.
ودل قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} -أي غير الكفر- {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل:{إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي، فتجنب أهل البدع والأهواء أولى.
8 -
موقف المنافقين موقف ضعيف يستدعي العجب والسخرية والطرد من الجانبين: فإنهم كانوا يطمعون في غنائم المسلمين متذرعين بأنهم مظاهرون لهم ومؤيدون جهادهم. وكذلك كانوا يطمعون في غنائم الكفار متذرعين بأنهم دافعوا عنهم وخذلوا عنهم المسلمين، حتى هابهم المسلمون.
والآية: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.} . تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين، ولهذا قالوا:{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ؟. وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة، ولذا طالبوها وقالوا:{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ؟ ويحتمل أن يريدوا بقولهم: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} الامتنان على المسلمين، أي كنا نعلمكم بأخبارهم، وكنا أنصارا لكم
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي: 419/ 5
9 -
قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ذكر ابن العربي وتابعه القرطبي
(1)
في تأويله خمسة أوجه:
منها: أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل، ولا تتناهوا عن المنكر، وتتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدوّ من قبلكم. قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة. ومنها: أن هذا يوم القيامة وقد رجحه الطبري، وضعفه ابن العربي لعدم فائدة الخبر فيه.
ومنها-الذي رجحته وهو أن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما جاء
في صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «
…
ودعوت ربي ألاّ يسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم» أي ساحتهم.
قال الجصاص في قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} :
ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج؛ لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته، وتأديبها، ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، كما قال تعالى:{الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ} فاقتضى قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ..} . وقوع الفرقة بردة الزوج، وزوال سبيله عليها؛ لأنه ما دام النكاح باقيا، فحقوقه ثابتة، وسبيله باق عليها
(2)
.
(1)
المرجع السابق، أحكام القرآن لابن العربي: 509/ 1 وما بعدها.
(2)
أحكام القرآن: 290/ 1