الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات اللغوية:
{وَبَعَثْنا} أقمنا {مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم، والنقيب: كبير القوم الذي يعنى بشؤونهم وهو الضامن {إِنِّي مَعَكُمْ} بالعون والنصرة {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} نصرتموهم {وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} بالإنفاق في سبيله ببذل المال فوق الواجب، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس {بَعْدَ ذلِكَ} بعد الميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط، و {سَواءَ السَّبِيلِ}: وسطه.
{لَعَنّاهُمْ} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا {قاسِيَةً} شديدة جامدة لا تلين لقبول الحق والخير والإيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} التحريف: إمالة الشيء عن موضعه إلى جانب آخر، فاليهود يحرفون الكلام الذي في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وغيره عن مواضعه التي وضعه الله عليها، أي يبدلونه. {وَنَسُوا} تركوا {حَظًّا} نصيبا {مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} أمروا به في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتطلع: تظهر {عَلى خائِنَةٍ} أي خيانة {مِنْهُمْ} بنقض العهد وغيره {إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} ممن أسلم. {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنّا نَصارى} :
متعلق بقوله: {أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ} أي أخذنا الميثاق من النصارى، كما أخذناه من بني إسرائيل اليهود {فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} في الإنجيل من الإيمان وغيره، ونقضوا الميثاق {فَأَغْرَيْنا} أوقعنا بينهم العداوة والبغضاء بتفرقهم واختلاف أهوائهم، فكل فرقة تكفّر الأخرى {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ} في الآخرة {بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} فيجازيهم عليه.
المناسبة:
موضوع الآيات كالتي قبلها تذكير بالمواثيق، فبعد أن ذكّرنا الله بميثاقه على السمع والطاعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بالوفاء بالعهد، من إحلال الحلال وتحريم الحرام، وذكّرنا بنعمه الداعية للوفاء، بيّن لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، وعقابهم على ذلك في الدنيا والآخرة، ليتعظ المسلمون بمن تقدمهم من الأمم.
التفسير والبيان:
لقد أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن
بالتوراة التي فيها شريعتهم التي اختارها لهم، وليقبلنها بجد ونشاط:{خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة 63/ 2 و 93] ولا يزال هذا العهد في التوراة الحالية، وأمرناه أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، يتولون أمور الأسباط (كالقبائل في العرب) ويرعونهم، والنقباء: زعماء أو عرفاء أسباطهم الاثني عشر، والنقيب: كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها، وعن مصالحهم فيها، وبعثهم: إرسالهم لمقاتلة الجبارين في بيت المقدس.
وتاريخ ذلك كما روى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس، التي كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني جعلتها لكم وطنا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم، ولما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، أمره الله أن يختار اثني عشر نقيبا منهم، ويأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ففعل، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يستطلعون الأخبار، فرأوا أجساما قوية، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك، فنقضوا العهد إلا نقيبين، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما:{قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا، اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ}
(1)
[المائدة 23/ 5].
{وَقالَ اللهُ: إِنِّي مَعَكُمْ} أي وقال الله لموسى الذي بلغ الوحي إلى بني إسرائيل: إني معكم، أي ناصركم وحافظكم ومعينكم، ومطلع عليكم، ومجازيكم على أعمالكم.
وعاهدهم الله بالعهد الإلهي الشامل ومضمونه: لئن أقمتم الصلاة، وأديتموها على الوجه الأكمل، وأعطيتم زكاة أموالكم التي تزكو بها نفوسكم وتطهر، وآمنتم
(1)
التفسير الكبير للرازي: 184/ 11، تفسير ابن كثير: 32/ 2
برسلي التي سترسل لكم بعد موسى، أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وعزرتموهم: أي نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ومنعتموهم من الأعداء، وأقرضتم الله قرضا حسنا أي أنفقتم في سبيله وابتغاء مرضاته، زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة، لئن فعلتم كل هذا، لأكفرن عنكم سيئاتكم، أي أستر ذنوبكم وأمحوها ولا أؤاخذكم بها، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي أدفع عنكم المحذور واحصل لكم المقصود.
فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به، وخالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده، فقد أخطأ الطريق الواضح المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لكم، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
ثم بيّن تعالى أنهم نقضوا هذا العهد، فجازاهم على فعلهم فقال:{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ورحمة الله، وأنزلنا عليهم المقت والغضب والسخط، وجعلنا قلوبهم غليظة قاسية شديدة، لا تقبل الحق، ولا تتعظ بموعظة:{خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} [البقرة 7/ 2].
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} أي فسدت أفهامهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وبدلوه وغيروه أي أن التحريف نوعان:
تحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقص.
وتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.
وقد أخبر الله عن تحريفهم وتأويلاتهم في مواضع كثيرة منها:
{وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء 46/ 4].
ومن المعروف تاريخيا وباعتراف اليهود والنصارى أنفسهم: أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكتبها وأمر بحفظها وكانت نسخة واحدة، قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبي البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها، ولم يحفظوها، بسبب إحراق البابليين هيكلهم وتخريب عاصمتهم وسبي أحيائهم.
أما الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى التي فيها أخبار عن موته وحياته، وأنه لم يقم بعده أحد مثله، فإنها كتبت بعده بزمن طويل، وبعد بضعة قرون، كتبها عزرا الكاهن بما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل، وبعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وكذلك الإنجيل كتب باعتراف النصارى بعد عيسى بحوالي قرن فأكثر.
{وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي وتركوا العمل به، رغبة عنه، ونسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: نسوا الكتاب أي طائفة من أصل الكتاب، وتركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن البصري: تركوا عرا دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها، وقال غيره: تركوا العمل، فصاروا إلى حال رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة.
وهذا كله لتظل معجزة القرآن الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم باقية دائمة، فقد أخبر عن ذلك بعد عدة قرون من موت موسى عليه السلام.
{وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} يعني مكرهم وغدرهم وخيانتهم لك
ولأصحابك، قال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخائنة: الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة. وقال بعضهم:
معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر، كقولهم: هو راوية للشعر، ورجل علامة
(1)
.
قال الطبري: والصواب من القول أن الله عنى بهذه الآية يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله على ما قد هموا به
(2)
.
{إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي ما تزال تطلع على خياناتهم المتكررة الصادرة منهم إلا قليلا منهم وهو من آمن وحسن إيمانه، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلموا، فلا تخف منهم خيانة.
فاعف عما بدر منهم، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان، إن الله يحب المحسنين الذين أحسنوا العفو والصفح عن المسيء، ويثيبهم على إحسانهم، وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف:«ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه» وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم
(3)
.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل طوائف اليهود الثلاث حول المدينة (وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة) أحسن معاملة في بدء الأمر وأثنائه ونهايته، ففي البداية بعد الهجرة إلى المدينة عقد معهم صلحا معروفا هو وثيقة المدينة، ووادعهم وعاهدهم على المسالمة وألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوا له، وأنهم آمنون
(1)
تفسير الطبري: 101/ 6
(2)
المرجع والمكان السابق.
(3)
تفسير ابن كثير: 33/ 2
على أنفسهم وأموالهم، ويتمتعون بالحرية الكاملة. وفي أثناء الحياة القائمة على التعايش السلمي نقضوا العهد وخانوا النبي وانضموا إلى معسكر قريش واشتركوا مع العرب في حرب المسلمين، فاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بطردهم من جواره. وفي نهاية الأمر لم يعاقب النبي اليهود على خيانتهم وغدرهم، ولكنه أوصى بإجلائهم من جزيرة العرب ومنها الحجاز.
ثم ذكر الله تعالى ميثاقه مع النصارى، فقال:{وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنّا نَصارى.} . أي وكذلك أخذنا العهد والميثاق على النصارى على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى الناس، ففعلوا كما فعل اليهود، بدلوا دينهم، وخالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، لهذا قال تعالى:
{فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَأَغْرَيْنا.} . أي تركوا العمل بأصول دينهم رغبة عنه، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، فإن طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا. وسينبئهم الله يوم القيامة بما صنعوا في الدنيا، وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى ما نسبوه إلى الرب عز وجل من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون حتما في الآخرة.
والمعروف تاريخيا حتى عند النصارى أنفسهم كما أوضحت أن المسيح لم يكتب مواعظه وتعاليمه، ثم توفي، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب، وقد اضطهد اليهود أتباعه وشردوهم وقتلوا أكثرهم، وعلى التخصيص الحواريين الذين كانوا صيادين. وعند ما دخل قسطنطين الملك في الديانة المسيحية، وهدأت الحملة ضد النصارى، أخذوا يكتبون الأناجيل، وهي كثيرة ومختلفة ومتباينة، ولم تظهر