الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُمُ الْكافِرُونَ} به، وهو القصاص وغيره {الظّالِمُونَ} المبالغون في الظلم والجور لمخالفة شرع الله {الْفاسِقُونَ} الخارجون من الإيمان وطاعة الله، المتجاوزون أحكام الدين.
{وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ} جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم، كما قال:{وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة 87/ 2].
سبب النزول:
نزلت آية: {إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ} في اليهود الذين بدلوا حكم التوراة في الرجم، فجعلوا مكانه كما تقدم الجلد والتسخيم.
روى مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديا ويهودية، ثم قال:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} قال: نزلت كلها في الكفار
(1)
.
المناسبة:
بعد أن ندد تعالى باليهود الذين أعرضوا عن حكم التوراة بالرجم، وطلبهم الحكم الأخف والأسهل من النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ما تضمنته التوراة من هداية بني إسرائيل وبيان أحكام الدين. ففي هذه الآية نبّه الله اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من رجم الزاني والقصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين والأنبياء المبعوثين إليهم.
التفسير والبيان:
إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم، مشتملة على الهدى: بيان الأحكام والتكاليف، والنور: أصول الاعتقاد من توحيد الله وأمور النبوة والآخرة،
(1)
أسباب النزول للنيسابوري: ص 112
أنزلناها شرعا وقانونا يحكم بها النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين، الذين بعثهم الله بعد موسى في بني إسرائيل حتى عيسى عليهم السلام.
قال ابن الأنباري: الذين أسلموا: صفة للنبيين على معنى المدح، لا على معنى الصفة التي تميز الموصوف عن غيره؛ لأنه لا يحتمل أن يكون {النَّبِيُّونَ} غير مسلمين. وهذا رد على اليهود والنصارى وتقرير أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين لله منقادين لأحكامه.
للذين هادوا: أي يحكم النبيون بالتوراة لأجل اليهود وفيما بينهم، فهي شريعة خاصة بهم لا عامة، وكان داود وسليمان وعيسى يحكمون بها.
ويحكم بها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون، والمقصود بالأولين: العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ومصالحهم، والأحبار: هم العلماء المتقون الصالحون
(1)
، يحكمون بالتوراة في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، أو مع وجودهم بإذنهم، بسبب ما استحفظوا من كتاب الله، أي بسبب ما استودعوا من علمه، وقد أخذ الله العهد على العلماء حفظ كتابه من جهتين: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، وألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.
قال الطبري: والربانيون: جمع ربّاني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. والأحبار: هم العلماء جمع حبر: وهو العالم المحكم للشيء
(2)
.
{وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} أي وكان العلماء الصالحون على كتاب الله شهودا
(1)
أطلق لقب الربّاني على علي رضي الله عنه، لقوله: أنا رباني هذه الأمة، وأطلق لقب: حبر الأمة على ابن عباس.
(2)
تفسير الطبري: 161/ 6
ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف، وشاهدون أنه الحق من ربهم، مثل عبد الله بن سلام الذي شهد بحكم الرجم في التوراة، وكتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به.
ثم خاطب الله رؤساء اليهود المعاصرين لزمن الوحي القرآني الذين كتموا وبدلوا، بعد أن أقام عليهم شهودا من أنفسهم فقال:{فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي وإذا الحال كما ذكر، فلا تخافوا الناس أيها الأحبار المعاصرون، فتكتموا الحق، من صفة النبي والبشارة به، طمعا في نفع دنيوي عاجل، وخافوا الله فلا تحرفوا كتابي، خوفا من الناس والرؤساء، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم. ولما كان الخوف أشد تأثيرا من الطمع قدم الله ذكره فقال:
ثم ذكر أمر الطمع والرغبة في النفع، فقال:{وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي ولا تستبدلوا بآياتي وأحكامي منفعة عاجلة حقيرة تأخذونها من الناس من رشوة أو طمع في مال أو جاه أو رياسة كاذبة أو رضا الآخرين، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت حرام لا بقاء لها، فلا تضيعوا بها الدين والثواب الدائم، إذ كيف تأخذون القليل الزائل بالكثير الدائم؟! وكل من لم يحكم بغير ما أنزل الله، مثل جعل الجلد والتحميم بدلا من الرجم، وكتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم وتأويلها على غيره، وقضائهم في بعض القتلى بدية كاملة وفي بعضهم بنصف دية، وتركهم القصاص، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق، الظالمون الجائرون، الفاسقون الخارجون عن حدود الله، تلك أوصافهم، وصفهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة، وتمردوا بأن حكموا بغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب. فهذا وعيد شديد المقصود منه تهديد اليهود الذين
حرفوا التوراة في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، فأصبحوا كافرين غير مؤمنين لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن.
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ.} . إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفار
(1)
. قال الرازي: وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم نقل عن عكرمة: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ} إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. ثم قال الرازي: وهذا هو الجواب الصحيح، والله أعلم
(2)
.
والخلاصة: أن التكفير هو لمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله، وأنكر بالقلب حكم الله، وجحد باللسان، فهذا هو الكافر. أما من لم يحكم بما أنزل الله، وهو مخطئ ومذنب، فهو مقصر فاسق، مؤاخذ على رضاه الحكم بغير ما أنزل الله.
ولما جعل اليهود دية النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به أي يقتص منه، مخالفين حكم التوراة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه، نزلت هذه الآية لبيان تشريع القصاص:{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها.} ..
أي فرضنا في التوراة التماثل والمساواة في القصاص، فتقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويجدع الأنف بالأنف، وتقطع الأذن بالأذن، ويقلع السن بالسن، ويجري القصاص في الجروح، أي يعتبر فيها المساواة بقدر الاستطاعة.
فالآية تدل على جريان القصاص في كل ما ذكر، وقد أخذ أبو حنيفة: أن
(1)
تفسير الطبري: 163/ 6
(2)
تفسير الرازي: 6/ 12
المسلم يقتل بالذمي. وقال الجمهور: لا يقتل المسلم بالذمي، لأن الآية شرع من قبلنا، وهو ليس شرعا لنا في رأي الشافعية،
ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» . والمراد من قوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، دون تعد عليه، فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى، وإن رضي المقتص منه. وذلك حال التعمد، أما في حال الخطأ ففي العين الواحدة نصف الدية، وفي العينين دية كاملة.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح، فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي؛ أخذا بعموم قوله تعالى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنه أسلم عند الله تعالى. وقال مالك: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية كاملة (دية عين الأعور) لأن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه.
وقال أحمد: لا قود عليه وعليه الدية كاملة؛ لأن في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة.
وكذلك يقتص من الأنف والأذن والسن إذا كانت الجناية عمدا، كالقصاص من سائر الأعضاء. أما اللسان: فقال أكثر أهل العلم: فيه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه من ثمانية وعشرين حرفا، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية.
ولسان الأخرس فيه حكومة عدل.
وأما الجروح فكل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا: وهي التي توضح العظم أي تكشفه، فإن لم يمكن القصاص كرض في لحم أو كسر في عظم كعظم الصدر ففيه حكومة عدل أي تعويض يقدره القاضي. بمعرفة الخبراء.
هذا كله في حال التعدي والعمد، أما في حال الخطأ فتجب الدية أو بعضها أو التعويض المقدر قضاء.
ثم أشار الله تعالى إلى العامل الإنساني وهو العفو والصفح والتسامح، فقال:
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ} أي تصدق بحقه في القصاص وعفا عن الجاني، فالتصدق كفارة له، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [البقرة 237/ 2]. و
روى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق بشيء من جسده أعطي بقدر ما تصدق» وهو حديث حسن.
ومن أعرض عما أنزل الله من القصاص القائم على العدل والمساواة بين الأشخاص، فهو من الظالمين الجائرين الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم، ويتعدون حدود الله، ويضعون الشيء في غير موضعه.
وهنا تساؤل: أي فائدة في ذكر الظلم بعد الكفر، والكفر أعظم من الظلم، والظلم أخف منه؟ والجواب: أن الكفر تقصير في حق الخالق سبحانه، والظلم تقصير في حق النفس
(1)
.
ثم بين تعالى أن التوراة شريعة أنبياء بني إسرائيل، فقال: وأتبعنا على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فهو آخر نبي لليهود، مصدقا للتوراة التي تقدمته قولا وعملا أي مقرا بأنه كتاب من عند الله وأنه كان حقا واجب العمل به، يعمل بها فيما لم يغاير الإنجيل، قال عيسى عليه السلام:«ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) ولكن لأكمل أو لأتمم» أي لأزيد عليها بعض الأحكام والمواعظ.
(1)
تفسير الرازي: 8/ 12
لذا قال تعالى آمرا النصارى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ} [المائدة 47/ 5] وقال هنا: {وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} أي وأعطيناه الإنجيل فيه الهداية للأحكام العملية والضياء لأصول العقيدة، كالتوحيد ونبذ الشرك والوثنية، والإنجيل كالقرآن مصدق للتوراة، والله جعل الإنجيل هاديا وواعظا المتقين، لأنهم الذين ينتفعون به.
ويلاحظ أن تكرار جملة {وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} لمعنيين مختلفين، الأول: أن المسيح يصدق التوراة، والثاني: أن الإنجيل يصدق التوراة.
وأما تكرار كلمة {هُدىً} فالمراد بها أولا: بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور: بيان التوحيد والنبوة والمعاد، وأما المقصود بها ثانيا: فهو أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو سبب لاهتداء الناس إلى رسالة الإسلام؛ لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأخير «البارقليط» الأعظم.
وأما كون الإنجيل مختصا بعظة المتقين فلاشتماله على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله تعالى عن القرآن {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
(1)
[2 لبقرة 2/ 2].
وبعد بيان خصائص الإنجيل أمر تعالى بالعمل به فقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ} أي وقلنا: ليعمل النصارى بالأحكام التي أنزلها الله فيه، كما قال تعالى في أهل التوراة:{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها} . والمقصود من الأمر بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن: هو زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثلما فعل اليهود بإخفاء أحكام التوراة.
(1)
المرجع السابق: 9/ 12