الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو أنهم عملوا من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير بما في التوراة والإنجيل المنزّلين من عند الله بأصل التوحيد، المبشّرين بالنبي من ولد إسماعيل، وعملوا بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، لوسّع الله عليهم رزقهم، وأنزل عليهم من خيرات السماء، وأخرج لهم من بركات الأرض، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف 96/ 7] قال ابن عباس: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني يخرج من الأرض بركاتها.
ثم ذكر تعالى أن أهل الكتاب ليسوا سواء في اعتقادهم وأفعالهم فقال:
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} أي جماعة معتدلة في أمر الدين كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأمثاله من النصارى، وكثير غالب منهم فاسقون خارجون عن أصول الدين، وبئس العمل عملهم.
وهناك نظائر لهذه الآية التي تشهد لبعض أهل الكتاب بالاعتدال مثل قوله تعالى عن بعض اليهود: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف 159/ 7] وقوله تعالى عن أتباع عيسى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} [الحديد 27/ 57].
فقه الحياة أو الأحكام:
غريب أمر اليهود وطبعهم، فإنهم ما تركوا فعل فاحشة أو منكر إلا اقترفوه، ولم يسلم منهم الأنبياء فقتلوهم، بل امتد أذاهم وخزيهم إلى الله عز وجل، فقال بعضهم: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء.
لكن غلت أيديهم في الآخرة، وحجبهم الله عن الخير والبر ولعنهم وطردهم من رحمته في الدنيا بدعائه عليهم بقوله:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} .
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا فهو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، على وفق الإرادة والحكمة كما يشاء، ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى.
وو الله ليزيدن اليهود بسبب فظائعهم ومخازيهم طغيانا وكفرا، أي تجاوزا للحد في بغض النبي صلى الله عليه وسلم وعداوته، وكفرا بما جاء به، وإذا نزل شيء من القرآن فكفروا، ازداد كفرهم.
وألقى الله بين طوائف اليهود العداوة والبغضاء، كما قال:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} فهم متباغضون غير متفقين؛ فهم أبغض خلق الله إلى الناس.
وكلما أوقعوا الفتنة وجمّعوا وأعدّوا، شتت الله جمعهم وبدد شملهم. وأما تجمعهم في فلسطين فذلك أمر موقوت، وتنبيه لنا أن نعود إلى ديننا، ونوحد صفوفنا، وليتم تدبير الله في هزيمتهم هزيمة منكرة لا تقوم لهم بعدها قائمة، فهم إن عاجلا أو آجلا إلى زوال. قيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله:
التوراة، أرسل الله عليهم بختنصّر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين؛ فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله، وكلما أوقدوا نارا، أي أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم أطفأها الله، وقهرهم ووهّن أمرهم، ويسعون في الأرض فسادا، أي في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد.
ومع كل هذه المخازي والمعايب فتح الله أمام أهل الكتاب باب التوبة، ليصلحوا ما أفسدوا، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ} . وهذا دليل على عظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، ونفذوا ما فيهما من تعليمات وأحكام ودعوة إلى الإيمان برسالة الإسلام، لوسع الله عليهم الرزق وزادهم من النعم، وأفاض
عليهم من أنواع الخيرات، ونظير هذه الآية. {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق 2/ 65 - 3]. {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} [الجن 16/ 72]. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف 96/ 7] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق، كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم 7/ 14].
وفي هذا دلالة واضحة على أن ما أصابهم من ضنك وضيق إنما هو بسبب جناياتهم، لا من قصور في فيض الله تعالى.
وأخبر تعالى أن منهم أمة مقتصدة معتدلة مؤمنة بكل ما أنزل الله إليهم وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام، اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما. والاقتصاد:
الاعتدال في العمل.
فالعبرة في الأديان: هو العمل بها والاهتداء بهديها، لا التعصب الجنسي لها أو ضدها، وإحداث صراع حاد بين أهلها، فمن آمن بحق بدين آمن تلقائيا ومباشرة بكل دين أنزله الله ورضيه لعباده، والدين دين الله، وليس حكرا على أحد، ولا دين بشر أحدثه للناس.
لذا كان واقع الناس غريبا عن حقيقة الدين، وأصبح الكثير منهم خارجا عن حدود الدين:{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} أي بئس شيء عملوه، كذبوا الرسل، وحرّفوا الكتب، وأكلوا السحت.
وهكذا لا تخلو أمة أو زمن من المعتدلين، ولا يخفت صوت الحق مهما حاول الفسقة كبته وخنقه، وإذا كثر أهل السوء، وقل الصالحون هلكت الأمم.