الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن ذكر تعالى بعض قبائح اليهود ومخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ونحو ذلك من جمع المال من حلال أو حرام، ذكر هنا أقبح مخازيهم وصفاتهم وسيئاتهم، بجرأتهم على ربهم، ووصفه بالبخل، مما لا يقول به عاقل، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
التفسير والبيان:
وصفوا الله تعالى بأنه فقير وهم أغنياء، ووصفوه بالبخل بقولهم:{يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} أي قال بعض اليهود-لما أصيب بأزمة مالية بسبب تكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم، ونسب إلى الأمة لتكافلها فيما بينها-: إن الله بخيل. وغل اليد: مجاز عن البخل، ويد الله مغلولة: بخيلة وبسطها: كناية عن الجود والكرم.
فهم لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده من موارد الرزق بخلا، قال تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء 29/ 17] يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله.
ورد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه، ودعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته، فقال:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} وهو دعاء عليهم بالبخل والنكد والإمساك عن الخير، فكانوا أبخل خلق الله وأنكدهم.
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم.
وأثبت الله تعالى في رده عكس ما يقولون فقال: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ 1 يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} أي بل هو الجواد الواسع الفضل، الجزيل العطاء الذي ما من
(1)
نؤمن باليد من غير تشبيه ولا تجسيم، والظاهر هنا إرادة الإنعام على الجملة (تفسير ابن عطية 512، 509/ 4).
شيء إلا عنده خزائنه، وما من نعمة بخلقه فمنه وحده، لا شريك له، كما قال تعالى:{وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} [إبراهيم 34/ 14].
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار
(1)
، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه-قال: وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى الفيض-أو القبض-يرفع ويخفض. وقال: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك».
وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد يعطي بكلتا يديه.
والعقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى، وأنه ليس بجسم ولا جارحة، كما قال ابن عطية.
أما تقتير الرزق على بعض الناس فلا ينافي سعة الجود، فإن له حكمة وإرادة ومشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق كما قال سبحانه:{وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى 27/ 42]{اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد 26/ 13].
ثم بيّن الله تعالى مدى تأثير القرآن فيهم فقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً.} . أي تالله ليزيدن ما أنزل إليك من الآيات البينات طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفرا أي تكذيبا، أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا وكفرا، كما قال تعالى:{قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ،}
(1)
قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما؛ النصب على الظرف، والرفع على الفاعل، أي فاعل يغيضها. والسح: الصب الكثير، ويغيض: ينقص.
{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} [فصلت 44/ 41] وقال تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً} [الإسراء 82/ 17].
روى الطبري عن قتادة قال في آية: {وَلَيَزِيدَنَّ.} .: حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم
(1)
. وكان من جزاء الله لهم على نكدهم ما قاله: {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ.} . أي وألقينا بين فئات اليهود والنصارى العداوة والبغضاء، فكل فرقة منهم تخالف الأخرى كما قال تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} [الحشر 14/ 59] والتاريخ القديم والحديث يثبت ذلك بوقائع الحروب العنصرية والدينية والاستعمارية الكثيرة الوقوع. ولا يغترن أحد بتوافق اليهود في فلسطين، فذلك أمر وقتي.
وكلما هموا بالكيد للرسول والمؤمنين الصادقين وإثارة الفتن والحروب بين الأمم في الداخل والخارج، خذلهم الله، ورد كيدهم عليهم، فإما أن يخيب مسعاهم، أو ينصر المؤمنين عليهم.
وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا، أي من سجيتهم أنهم دائما يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والله لا يحب من كانت هذه صفته، بل يبغضه ويعاقبه ويسخط عليه.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل والتوبة أمامهم فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا.} . أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم، لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، ولأدخلناهم جنات النعيم التي ينعمون بها، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود.
(1)
تفسير الطبري: 195/ 6