الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة، التمسها عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه، حتى وصل إلى بيت زيد فأخذوها منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن طعمة؛ لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى:{وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية المتقدمة، ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة
(1)
.
وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
.
المناسبة:
هناك تناسب واضح بين حكم السرقة وحكم الحرابة، فالحرابة كما يقول الحنفية: سرقة كبري، والأخرى: سرقة صغرى، فبعد أن بيّن الله تعالى عقوبة المحاربين الذين يفسدون في الأرض، وأمر الناس بتقوى الله حتى يبتعدوا عن الحرام والمعاصي، ذكر عقوبة اللصوص الذين يأخذون المال خفية، ومن أنواع عقاب المحاربين في آية الحرابة: قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وعقاب السرقة: قطع اليد.
التفسير والبيان:
يأمر تعالى ولاة الأمور ويحكم بقطع يد السارق والسارقة، فمن سرق من
(1)
أسباب النزول للواحدي: ص 111
(2)
أسباب النزول للسيوطي.
رجل أو امرأة، تقطع يده من الرسغ، ويبدأ بقطع اليد اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، ثم يعزر ويحبس؛
لما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى» وهذا رأي المالكية والشافعية. وقال الحنفية والحنابلة: لا يقطع أصلا بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى.
وصرح القرآن بحكم السارقة؛ لحدوث السرقة كثيرا من النساء كالرجال، مما يقتضي الزجر، وإن كان الغالب في تشريع الأحكام إدراج النساء في حكم الرجال.
والسرقة: أخذ المال خفية من حرز المثل، والحرز نوعان: حرز بنفسه:
وهو المكان كالدار والصندوق، وحرز بغيره وهو الحافظ: كالأماكن العامة المحروسة بحارس، والمتاع الذي يوجد صاحبه عنده. والحرز: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس.
ولا تقطع يد السارق إلا إذا كان بالغا عاقلا، كما هو الشأن في المطالبة بجميع التكاليف الشرعية ومنها عقوبات الحدود، لا فرق فيها بين الجماعة والفرد، وألا تكون هناك شبهة كالسرقة من المحارم والضيف من المضيف،
لحديث رواه ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وأن يؤخذ المال من الحرز إما بنفسه أو بالحافظ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلّق فقال:«.. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» .
وأن يكون المسروق بالغا مقدار النصاب الشرعي.
وللفقهاء رأيان أو ثلاثة في تقدير نصاب السرقة، فقال الحسن البصري
وداود الظاهري: يجب القطع بسرقة القليل والكثير؛ لظاهر الآية، وللحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة:«لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده» .
وقال الجمهور: تقطع يد السارق في ربع دينار أو ثلاثة دراهم فصاعدا؛ لما رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن (الجماعة) من
حديث عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» ولما
في الصحيحين عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ -ترس-ثمنه ثلاثة دارهم» وهذا قول الخلفاء الراشدين الأربعة.
ورأى الحنفية: أن نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، فلا قطع فيما دون عشرة دراهم،
لما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا قطع فيما دون عشرة دراهم» . ولولا أن هذا الحديث ضعيف لأمكن ترجيح مذهب الحنفية من قبيل الاحتياط، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولأن ثمن المجنّ الذي قطع النبي صلى الله عليه وسلم بسرقته مختلف في تقديره، فقدر بثلاثة دراهم أو بأربعة أو بخمسة أو بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر في باب الحدود أولى، درءا للشبهة.
وتثبت السرقة إما بالإقرار أو بالبينة (شاهدين) ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام الحاكم، وبملك المسروق بالهبة وغيرها، ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم في مذهب أبي حنيفة ومحمد. وبشرط كون الملك قبل رفع الأمر إلى القضاء في مذهب الجمهور،
لما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس: أن لصا سرق رداء صفوان بن أمية من تحت رأسه، حينما كان متوسدا عليه حين نام في المسجد، فاستيقظ صفوان واستاق اللص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فهلا قبل أن تأتيني به» .
ويجب رد المسروق بعينه إن كان قائما، وبقيمته إن كان مستهلكا عند الشافعية والحنفية
لما رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن سمرة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . ولا يجب ردّ القيمة حال الاستهلاك عند الحنفية؛ إذ لا يجتمع حد وضمان،
لما أخرجه النسائي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» لكنه حديث مرسل. وتوسط المالكية فقالوا: إن كان السارق موسرا عند الحد، وجب عليه القطع والغرم، تغليظا عليه، وإن كان معسرا لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم، تخفيفا عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة.
ثم علل سبحانه وتعالى حكم حد السرقة، فقال:{جَزاءً بِما كَسَبا، نَكالاً مِنَ اللهِ} أي أن قطع يد السارق والسارقة جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء، نكالا أي إهانة وتحقيرا ومنعا من العودة للسرقة، وعبرة لغيرهما. وهذه العقوبة وإن نفر منها بعض الناس، لكنها العقوبة المناسبة التي هي الأشد تأثيرا ومنعا للسرقة، وتوفيرا لأمن الناس على أموالهم وأنفسهم، ولا يدرك أحد ما للسرقة من مخاطر نفسية وعصبية، وما لها من أثر في إحداث القلق والرعب في النفوس، لا سيما في الليالي الظلماء، إلا من تعرض للسرقة، فهي فضلا عن كونها خسارة ماحقة، تجعل الشخص معدوما يائسا بائسا يحتاج إلى الاقتراض ليؤمن قوته وقوت أسرته، ويتمنى أن يعثر على السارق ليقضي عليه، هي مثيرة للقلق والهلع، فيصبح الحي الذي تعرض لسرقة فأكثر مهددا كله بالأخطار، فلا يكاد ينام إنسان وهو مطمئن، وإذا اقتحم اللص منزلا في الليل أو في النهار، أوقع السكان في الذعر، وربما حدث القتل وإطلاق النار، وفي ذلك ضرر وأذى لا يمكن حصر حدوده أو التنبؤ بنتائجه، فكم من إنسان شاب شعره، وكم من امرأة وطفل فقدا أعصابهما، وكم من مخاوف أقضت مضاجع الناس في بيوتهم، حتى إن القتل لا يكاد في رأيي يعادل السرقة أحيانا؛ لأنه حادث فردي ينتهي أثره
فورا بالنسبة لغير أسرة القتيل، وهو ينحصر بما يكون من علاقة خاصة بين القاتل والمقتول، أما السرقة فإن تأثيرها جماعي ودائم، تبعد بنحو دائم أصحاب الأموال والمتاجر والمزارع والمصانع من الطمأنينة والثقة، وتهدد ثرواتهم بالضياع والخسارة.
ثم أكد الله تعالى ضرورة حد السارق فقال: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء، قوي في انتقامه من السّراق، حكيم في صنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه المصلحة والحكمة، ويضع الحدود والعقوبات بما يراه الأنسب والأقطع لدابر الجريمة، واستئصال شأفة المجرمين، وزجر أمثالهم من التفكير في مثل جريمتهم، وكأنه يقول: لا تتساهلوا في شأن السراق واشتدوا في تطبيق حدهم، ففي ذلك الخير كله وعينه، وإن كره الحاقدون وانتقد الجاهلون.
ثم بيّن الله تعالى حكم التائبين الذين ندموا على ما فعلوا وأصلحوا أحوالهم فقال: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ.} . أي فمن تاب من بعد سرقته، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، ورد أموال الناس أو بدلها إليهم، وأصلح نفسه وزكاها بأعمال التقوى والبر، وكانت توبته بنية صادقة مع العزم على ترك العود، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة.
وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند جمهور الفقهاء، وتسقطه في رأي الحنابلة، وهو الأولى؛ لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة وهي القطع.
وأكد الله تعالى عدالة حد السرقة وأنه جاء على وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ.} . أي ألم تعلم أيها الرسول وكل مبلّغ حكم الله أن الله هو المالك لجميع من في السموات والأرض، وهو المدبر له، والحاكم فيه الذي