الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرضون عن الحق بعدم إيمانهم برسالة الإسلام، بيّن ما كفر به النصارى بنحو خاص.
التفسير والبيان:
كانت فرقة اليعقوبية من النصارى هي القائلة بألوهية المسيح عليه السلام، ثم ساد مذهبهم بين طوائف المسيحيين الثلاث المشهورة وهي الكاثوليك والأرثوذكس، والبروتستانت الذين نشأ مذهبهم منذ أربعة قرون على يد الراهب المصلح (مارتن لوثر) الذي خلص المسيحيين من كثير من التقاليد والخرافات، وانتشر مذهبه في أمريكا وإنجلترا وألمانيا، ولكنه ظل قائلا بالتثليث ويعد الموحد غير مسيحي، ولكن يؤول الأمر في النهاية إلى وصف المسيح بأنه الرب والإله، كما هو مكتوب على أول صفحة في الإنجيل:(كتاب العهد الجديد لربنا ومخلصنا يسوع المسيح).
فجميع فرق النصارى اليوم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم وإن المسيح هو الله، وعمدتهم عبارة في إنجيل يوحنا وهي:(في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله هو الكلمة) والكلمة في تفسيرهم هي المسيح.
وهذا ما وصفهم به القرآن بأنهم يؤلهون المسيح، لذا فقد كفر القائلون بأن الله هو المسيح، ورد الله هذا الزعم الباطل، فقال: يا أيها النبي قل لهؤلاء النصارى: من يقدر على رفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعا، إن أراد أن يهلكهم؟ لا أحد يقدر على هذا، فالله قادر على إهلاك الناس قاطبة، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد فوق مشيئته وإرادته. وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك، فكيف يكون هو الله؟! الله في الحقيقة هو صاحب الملك المطلق والتصرف الشامل في السموات
والأرض وما بينهما من عالمي الإنس والجن، وجميع الموجودات ملكه وخلقه.
والله هو الذي يخلق الأشياء من العدم حسبما يشاء، وعلى وفق حكمته وإرادته، فقد يخلق من تراب من غير أب ولا أم مثل خلق أبينا آدم عليه السلام وخلق أصول أنواع الحيوان، وقد يخلق من أب فقط دون أم كخلق حواء، وقد يخلق من أم بلا أب مثل خلق عيسى عليه السلام. وهذا رد على شبهة النصارى الذين زعموا أن المسيح بشر وإله، له طبيعة بشرية وطبيعة ناسوتية إلهية وهي الغالبة، لكونه خلق على نحو غير معتاد من أم فقط، ولأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، وصدرت عنه أعمال عجيبة لا تصدر من بشر. وهي في الحقيقة معجزات خارقة للعادة يجريها الله على يد الأنبياء قاطبة، وهي تحدث بإذن الله ومحض إرادته، لتكون دليلا مؤيدا على صدق النبوات، وصدور تلك المزايا من عيسى وغيره لا تجعل المخلوق خالقا؛ لأنها بمشيئة الخالق.
فقد أيد الله موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء؛ لأن السحر كان سائدا في عصره، وأيد الله عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ لأن الطب كان متقدما في زمنه، وأيد الله محمدا صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة كانشقاق القمر، وكانت معجزته الخالدة القرآن في أرقى مستوى من البلاغة والفصاحة؛ لأنه بعث بين العرب الذين امتازوا بفصاحة القول نثرا وخطابة وشعرا، فليس إحياء عيسى للموتى-وكان ذلك في حوادث فردية معدودة-سببا للتأليه، فقد أقر بأنه عبد الله ورسوله، وأنه يحيي الموتى بإذن الله، أي بتوفيقه وإرادته وحكمته.
والله هو القادر على كل شيء، وهو خالق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم رد الله تعالى على ادعاء اليهود والنصارى القائلين: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن منتسبون إلى أنبيائه، وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يحبنا، ونقلوا عن
كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: (أنت ابني بكري) وقال عيسى في الإنجيل للنصارى: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) يعني ربي وربكم، وجاء في إنجيل متّى في وعظ المسيح على الجبل واصفا الملائكة والمؤمنين الصالحين:(طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء الله يدعون) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية: (لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله) فابن الله في كتبهم بمعنى حبيب الله، وحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، ورد عليهم عقلاؤهم الذين أسلموا بأن هذا يطلق على التشريف والإكرام.
ومن المعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما أدعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لدى الله، وحظوتهم عنده، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
فرد الله عليهم عن طريق نبيه: قل لهم: إذا كان الأمر كما زعمتم، فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا، كتخريب الوثنيين مسجدكم الأكبر وبلدكم بيت المقدس، وإزالة ملككم من الأرض، وفي الآخرة التي أعد لكم فيها نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذن أبناء الله ولا أحباؤه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق، ولا يحابي أحدا من عباده، وإنما يغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، وهم العصاة، وهو فعال لما يريد، لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فهذا لا ينفعكم، وإنما الذي ينفعكم الإيمان الصحيح، ومنه الإيمان برسالة الإسلام، وصالح الأعمال.
والله المالك المطلق والمتصرف المطلق في السموات والأرض وما بينهما، وجميع المخلوقات عبيد له، وهم ملكه وتحت قهره وسلطانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [مريم 93/ 19] وإنما قال: {وَما بَيْنَهُما} بعد ذكر السموات والأرض، ولم يقل: بينهن، إشارة إلى الصنفين والنوعين. وإليه المصير أي إلى الله تعالى المرجع والمآب، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، وهذا إنذار لهم بأنه سيعذبهم في الآخرة على كفرهم ودعاويهم الباطلة.
وقد كرر تعالى جملة: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} للرد على كل من النصارى الذين ادعوا ألوهية المسيح، والله مالكه وقادر على إهلاكه، وعلى اليهود والنصارى أيضا، لبيان قدرته على المغفرة لمن يشاء وتعذيب من يشاء وإبطال دعاويهم الزلفى والحظوة عند الله، فإن ميزان القربى من الله هو الإيمان والعمل الصالح، لا الوراثة ولا الامتياز العنصري أو الجنسي، فليس صحيحا أن اليهود شعب الله المختار، وليس لشعب مزية على آخر.
ثم خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول، بل هو المصدق لما معهم والمعقب لجميعهم، وهو الذي بشّرتم به في كتبكم، وأخبركم به أنبياؤكم، جاءكم يبين لكم على فترة من الرسل، أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي، وبعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، يبين لكم ما أنتم بحاجة إليه من أحكام دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها الوثنية، وأخلاق أفسدها الإفراط في المادية، وعبادات أفرغتم محتواها وصارت مجرد طقوس لا معنى لها ولا روح فيها، ويبين لكم أيضا ما أشكل عليكم من أمر دينكم. ومن المعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة، وبين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وتسع وستون سنة.