الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ.} . أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد، وذلك عام الحديبية، على أن تتعدوا حكم الله، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد
(1)
.
{وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} : وهو كل خير أمر به الشرع أو نهى عنه من المنكرات، أو اطمأن إليه القلب، ولا تتعاونوا على الإثم وهو الذنب والمعصية:
وهي كل ما منعه الشرع، أو حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولا تتعاونوا على التعدي على حقوق الغير. والإثم والعدوان يشمل كل الجرائم التي يأثم فاعلها، ومجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم. واتقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه. {إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} لمن عصى وخالف. وإظهار اسم الجلالة هنا في موضع الإضمار لإدخال الروعة والخوف وتربية المهابة في القلوب.
وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل خير وشر ومعروف ومنكر مع رقابة الله في السر والعلن.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان الآيتان تضمنت أصول الإسلام في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، وفيهما من الفصاحة وكثرة المعاني مع قلة الألفاظ ما لا يخفى على أحد.
والآية الأولى تضمنت خمسة أحكام:
1 -
الأمر بالوفاء بالعقود التي يتعاقد بها الناس، ووجوب الوفاء بالتكاليف
(1)
وورد تعبير مماثل في آية أخرى هي: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا، اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 8/ 5] أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، والعدل: به قامت السموات والأرض، والعدل أقرب للتقوى.
الإسلامية، فيلزم دفع أثمان المبيعات ومهور النساء ونفقاتهن، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها إلى أصحابها سالمة، وحفظ مال المستأمن ونفسه، وصون حرمة المعاهد وأسرته وماله.
وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأثبت الشافعي وأحمد هذا الخيار للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد، فلهما الإمضاء والفسخ، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال:«البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ آخر للبخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» وهذا صريح في إثبات خيار المجلس عقب عقد البيع، ما دام المتعاقدان في المجلس، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
أما النذر الواجب الوفاء به فهو نذر الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام ونحوها، وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع الأمة.
2 -
تحليل بهيمة الأنعام بالأكل من طريق الذبح الشرعي.
3 -
استثناء المحرمات الآتية بعد في الآية (3) ونحوها، وكذا الثابت في السنة مثل
نهيه عليه الصلاة والسلام عن «كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس.
4 -
استثناء حالة الإحرام فيما يصاد. ومثله صيد الحرمين.
5 -
إباحة الصيد لمن ليس بمحرم في غير الحرمين.
ثم قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، فالله يحكم على وفق مشيئته وحسبما يرى من الحكمة
والمصلحة: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} يشرّع ما يشاء كما يشاء.
ودلت الآية الثانية على تحريم التعرض لمناسك الحج، وتجاوز حدود الله فيما شرع، فلا يجوز التعدي على معالم دينه.
وتلك المعالم هي شعائر الله أي البدن التي تهدى للحرم، وإشعارها: أن يجزّ شيء من سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعلم أنها هدي. وقال عطاء:
شعائر الله: جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن البصري: دين الله كله، كقوله تعالى:{ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج 32/ 22] أي دين الله.
وقد أجاز الجمهور الإشعار، ويكون-في رأي الشافعي وأحمد وأبي ثور-في الجانب الأيمن لما
ثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن. وقال مالك: يكون في الجانب الأيسر. وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء.
ومنعه أبو حنيفة، وقال: إنه تعذيب للحيوان أي أنه مكروه كما صرح الحنفية، والحديث يؤوّل بأن الإشعار يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك.
وقال الصاحبان: ليس بمكروه ولا سنة، بل هو مباح.
ومن المعالم: حرمة الشهر الحرام وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، وهي «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» فلا تستحل للقتال ولا للغارة ولا تبدّل، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء. ثم نسخ تحريم القتال فيها بقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} والمراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض، ويفكرون في أمر الإسلام، وليس المراد بها أشهر الحج أو الأشهر الحرم بالمعنى السابق.
ومن المعالم: الهدي والقلائد، فلا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم. وإحلالها: هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى. والهدي: ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة. وهو في رأي الجمهور عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. وأخذ العلماء من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم، إلا هدي التطوع والقران والتمتع، فإنه يجوز الأكل منها لصاحبها وللأغنياء؛ لأنه دم نسك يقدم شكرا لله تعالى على ما أنعم به من التوفيق للعبادة، فيجوز الأكل منه، ولأنه قد صح
أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هدي القران والتمتع، وحسا من المرقة، فيبقى غيرها على عدم الجواز؛ لأنها دم مخالفات وعقوبات وكفارات، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها.
والقلائد: المراد بها الهدايا التي تقلد، وهي التي كانت للتطوع أو النذر أو القران أو التمتع. أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. وهي على حذف مضاف، أي لا تحلوا ذوات القلائد: وهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا وأعناقها، علامة أنها لله سبحانه.
والتقليد أي وضع القلادة سنة إبراهيمية أقرها الإسلام، وهي عند الشافعي وأحمد سنة في البقر والغنم،
قالت عائشة رضي الله عنها: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلّدها
(1)
. وأنكره مالك والحنفية، وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لتفرد الأسود به عن عائشة.
واتفقوا فيمن قلّد بدنة على نية الإحرام، وساقها: أنه يصير محرما، قال الله:{لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ} إلى أن قال: {فَاصْطادُوا} ولم يذكر الإحرام، لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام.
(1)
أخرجه البخاري ومسلم.
فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه، لم يكن محرما، وهو مذهب الجمهور؛
لحديث البخاري عن عائشة قالت: «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ: ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي» .
وقال الحنفية: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وهو-فيما رواه البخاري-رأي ابن عباس.
ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلّد أو أشعر؛ لأنه قد وجب. وإن مات موجبه لم يورث عنه ويذبح في الحرم، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول؛ فإن أوجبها بالقول قبل الذبح، فقال:
«جعلت هذه الشاة أضحية» تعينت. وعليه إن تلفت ثم وجدها أن يذبحها.
وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلّت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب.
ولا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام، أي لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة. وهذا كله منسوخ بآية السيف:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة 5/ 9] وقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا} [التوبة 28/ 9] فلا يمكّن المشرك من الحج، ولا يؤمّن في الأشهر الحرم، وإن أهدى وقلّد وحج.
ودل قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً} على جواز ابتغاء الفضل أي الأرباح في التجارة.
ودل قوله عز وجل: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} على إباحة صيد غير الحرم بعد الانتهاء من أعمال الحج، فهو أمر إباحة بإجماع الناس، لرفع ما كان محظورا بالإحرام. وقال المالكية: الأمر على أصله من الوجوب، وإنما فهمت الإباحة