الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات التنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من أهل الكتاب والمشركين الذين يهزؤون بشرائع الإسلام المطهرة، ويتخذونها نوعا من اللعب.
يا أيها المؤمنون لا تتخذوا الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الذين يهزؤون بدينكم، ويتخذون شعائره وشرائعه لونا من اللعب، لا تتخذوهم أولياء أي حلفاء وأنصارا، فإن الهازئ بالشيء معاند له وساخر به وغير مؤمن به وعدوّ له ولأهله، وإن تظاهروا بالمودة، كما قال تعالى:{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} [البقرة 14/ 2].
واتقوا الله وخافوا عذابه ووعيده أيها المؤمنون إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، أو كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا.
وكذلك إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان، اتخذوها أيضا هزوا ولعبا؛ لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر حتى لا يسمع التأذين.
ثم ناقشهم الحق تعالى فقال: قل يا محمد لهؤلاء أهل الكتاب الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا: هل تنكرون أو تعيبون علينا إلا إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب قبل على الرسل، وما هذا بعيب ولا مذمة؟ فيكون الاستثناء منقطعا، كما في قوله تعالى:{وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج 8/ 85] وقوله: {وَما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة 74/ 9].
ولأن أكثركم فاسقون، أي متمردون خارجون عن حقيقة الدين، وليس لكم من الدين إلا التعصب والمظاهر والتقاليد الجوفاء.
وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} معطوف على {آمَنّا} بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين الحكم عليكم بتمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم، حيث دخلنا في دين الإسلام، وأنتم خارجون منه.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون.
ويمكن عطفه على المجرور، أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون.
وعبر بالأكثر؛ لأن بعض أهل الكتاب ما يزالون متمسكين بأصول الدين من توحيد الإله وعبادته، والتزام الحق والعدل، وحب الخير.
ثم أجابهم تعالى عن استهزائهم بقوله: قل لهم يا محمد، هل أنبئكم أي أخبركم أيها المستهزئون بديننا الذين تقولون:«لا نعلم شرا من دينكم» وأعلمكم بما هو شر من أهل ذلك، أو من دين من لعنه الله، بتقدير مضاف محذوف قبل كلمة {ذلِكَ}. واستدعى ذلك سؤالا آخر منهم عن الذي هو شر: ما هو؟ فأجاب تعالى: والذي هو شر من ذلك: {مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ} أي هل أخبركم بشر مما تقولون وتظنونه بنا هو جزاء من لعنه الله. كقوله تعالى: {قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ: النّارُ} [الحج 772/ 22]. وفي هذا انتقال من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، وهو التذكير بسوء حال أسلافهم مع أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم.
ومن لعنه الله، أي أبعده وطرده من رحمته، واللعنة تلزم الغضب الإلهي، وهو يستلزم اللعنة؛ إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.
وغضب عليه، أي غضبا لا يرضى عنه أبدا.
وجعل منهم القردة والخنازير غضبا منه عليهم وسخطا، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى المتقدم:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [البقرة 65/ 2] وقوله فيما يأتي: {فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [الأعراف 166/ 7] والجمهور على أنهم مسخوا حقيقة، فكانوا قردة وخنازير وانقرضوا، والقردة:
أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى، وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت؛ لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.
والدليل على انقراضهم
ما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال:«إن الله لم يهلك قوما-أو قال: لم يمسخ قوما-فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» .
ونقل الطبري عن مجاهد وغيره في قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} أي أذلة صاغرين
(1)
.
وعبد الطاغوت، أي جعل منهم من صير الطاغوت معبودا من دون الله، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، كالأصنام والشيطان والعجل، فكانت عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فصارت عبادتهم له عبادة للشيطان.
أولئك المتصفون بما ذكر من المخازي والمعايب شر مكانا مما تظنون بنا؛ إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد الطريق الوسط المعتدل وهو
(1)
تفسير الطبري: 264/ 1
الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي {بِشَرٍّ}
…
و {أَضَلُّ} ليس للمفاضلة؛ لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم، كقوله عز وجل:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان 24/ 25].
ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين، فقال:{وَإِذا جاؤُكُمْ.} . أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا: آمنا بالرسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء، لم يتحولوا عن كفرهم، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم: أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ودأبهم الخداع والمكر، كما قال تعالى:{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ؟} [البقرة 76/ 2].
وهم جميعا أغبياء؛ لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وحين خروجهم:{وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة 41/ 5].
فهم بهذا شذاذ؛ لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم بوعي وأدب، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه.
ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر، فقال تعالى:{وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ..} . أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل،