الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن استقصى الله تعالى الكلام مع اليهود وفنّد حججهم، وعدد قبائحهم، شرع هنا في الكلام عن النصارى، وبيّن فساد عقيدتهم في ادعاء ألوهية المسيح عليه السلام، وأنه ولد إلها، أي أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، وهذا في الأصل قول اليعقوبية، ثم ساد بين النصارى. ثم حكى تعالى قول المسيح، ليقيم الحجة القاطعة على فساد قول أتباعه.
التفسير والبيان:
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنّسطورية القدامى، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجدد: تالله لقد كفر الذين ادّعوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وضلوا ضلالا بعيدا، فقالوا: إن الله مركب من ثلاثة أصول (أو أقانيم) وهي الأب والابن والروح القدس، فالله هو الأب، والمسيح هو الابن، وقد حل الله الأب في المسيح الابن واتحد به، فكوّن روح القدس، وكل واحد من هؤلاء عين الآخر، وخلاصة قولهم: الله هو المسيح.
مع أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو صغير في المهد هي: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} ثم دعا الناس إلى رسالته فقال: يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربي وربكم، أي توجهوا بالعبادة إلى الله تعالى وحده. وفي قوله هذا دليل قاطع على فساد قول النصارى؛ لأنه لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل حدوثه وخلقه مثل غيره من الناس.
وأتبع دعوته بالتحذير من الشرك والوعيد عليه فقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ.} . أي إن كل من يتخذ شريكا لله من ملك أو بشر أو كوكب أو صنم أو غيره، فقد حرم الله عليه الجنة في علمه السابق القديم، وفي شرعه لرسله، أي حرمه دخولها، ومنعه منها، ومقره في الآخرة نار جهنم، وليس للظالمين أنفسهم
باتخاذ الشركاء من نصير أو معين ينصرهم، أي لا ينصرهم أحد فيما تقوّلوا على عيسى ولا يساعدهم عليه، لاستحالته وبعده عن المعقول، ولا ينصرهم أيضا ناصر في الآخرة من عذاب الله.
وكذلك كفر القائلون: إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما ثالث آلهة ثلاثة، وهو قول النصارى: المسيح ابن الله، أو الله واحد من ثلاثة أقانيم: أب هو الله، وابن هو المسيح، وزوجة هي مريم، أي إن كل فرق النصارى كفار، سواء من قال: إن المسيح ثالث ثلاثة، أو إن المسيح ابن الله، أو إن الله هو المسيح ابن مريم. ومتأخرو النصارى يقولون بالتثليث، أي إن الآلهة ثلاثة، وبالتوحيد أي إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخر.
وردّ الله على الجميع بقوله: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ} أي ما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد أحد لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، فهو المتصف بالوحدانية، وليس فيه شيء من صفات البشر، فلا تركيب في ذاته ولا في صفاته، وليس هناك تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أنواع، ولا تعدد أجزاء:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى 11/ 42]. وهذه الآية مثل قوله تعالى في آخر السورة: {وَإِذْ قالَ اللهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ، قالَ: سُبْحانَكَ} [المائدة 116/ 5] يعني أن الآيتين لنفي تعدد الآلهة.
ثم توعدهم الله وأنذر على قولهم فقال: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ..} .
أي إن لم يتجنبوا ويتركوا ما يقولون من هذا الافتراء والكذب وادعاء التثليث، ويعودوا إلى القول بالتوحيد، ليصيبنهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب كفرهم. وفي هذا دلالة على أن إصابة العذاب للذين كفروا خاصة لا الذين تابوا من عقيدة التثليث.
ثم كان من كرم الله تعالى وجوده ولطفه ورحمته مع هذا الكذب والافتراء أنه يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، بأن يتوبوا من شركهم، ويستغفروا الله من عقيدة التثليث، والله غفور للتائبين رحيم بهم.
أما المسيح في الحقيقة فهو مجرد رسول، كأمثاله من الرسل المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله كما قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ} [الزخرف 59/ 43] وهو كغيره من الرسل مؤيد بالمعجزات الخارقة للعادة: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء 171/ 4].
وأمه صدّيقة، أي مؤمنة به مصدقة له، لها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين، وليست بنبية
(1)
ولا لها صفة الألوهية، كما قال تعالى:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} [التحريم 12/ 66].
وكل من المسيح وأمه من جنس البشر ونوعهم، بدليل أنهما يأكلان الطعام للحفاظ على معيشتهما وحياتهما، ويقضيان حاجتهما من البول والغائط، ومن صدر منه مثل ذلك، واتصف بالتركيب والضعف والحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة، لا يمكن أن يكون إلها، ولا أن يتصف بأي صفة من صفات الألوهية والربوبية.
فانظر أيها العاقل كيف نبين للنصارى الجهلة الدلائل القاطعة الواضحة على بطلان ما يدّعون، ثم انظر بعد هذا البيان والإيضاح كيف يصرفون عن التأمل بهذه الأدلة، وأين يذهبون، وبأي قول يتمسكون.
(1)
ليست مريم نبية، كما زعم ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استذلالا بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.