الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا خطر على قلب بشر {عَذاباً أَلِيماً} مؤلما هو عذاب النار {مِنْ دُونِ اللهِ} أي غيره {وَلِيًّا} يدفعه عنهم {وَلا نَصِيراً} يمنعهم منه.
المناسبة:
لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الطريق الأقوم، أردف ذلك بمحاجة النصارى، وألزمهم الرأي الحق في عيسى ابن مريم.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، فإن النصارى تجاوزوا الحد في عيسى حتى ألّهوه، فنقلوه من منزلة النبوة إلى اتخاذه إلها من دون الله، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا. وكذلك اليهود غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به. والمطلوب هو التوسط بين الأمرين، فلا إفراط بتعظيم عيسى وتقديسه، ولا تفريط بتحقيره.
يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا حدود الله بالزيادة أو النقص في الدين، ولا تعتقدوا إلا بالحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهان عقلي قاطع، وإياكم ما زعمتم من دعوى الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه، وتحتقروه وتهينوه، كما فعلت اليهود، ولا تتغالوا في تعظيم عيسى وتقديسه، حتى تجعلوه إلها أو ابن الله، كما زعمت النصارى.
إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة القديسة، رسول الله إلى بني إسرائيل، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والتثليث، وحثهم على التقوى، وزهّدهم في الدنيا، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين، كما حكى القرآن عنه:{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف 6/ 61].
وهو مكون بكلمة {لكِنْ} التكوينية من غير أب: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82/ 36]{إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 47/ 3]. فكما أن الله قادر على أن يخلق بشرا من غير أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، أو من غير أم وإنما من أب فقط وهو حواء، أو بسبب ظاهر معتاد من أب وأم، قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب وهو عيسى عليه السلام:{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 59/ 3] وأخبر الله تعالى عن بشرية عيسى وعبوديته لله تعالى فقال: {إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ} [الزخرف 59/ 43] والمادة أو الطبيعة بنفسها مخلوقة عاجزة عن خلق غيرها، فإن الأصل الأول للأشياء المخلوقة كلها هو الله تعالى.
وهو مؤيد أيضا بروح كائنة من الله تعالى، لا جزءا ولا بعضا منه، كما فهم المسيحيون، وإلا لكان كل بشر مخلوق بنفخ الروح من الله من طريق الملك بعضا من الله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} أي من الله [الجاثية 13/ 45]. وتأييده بالروح الأمين ثابت بقوله تعالى: {وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة 253، 87/ 2] ووصف الله المؤمنين أيضا بتأييدهم بروح من الله فقال: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة 22/ 58].
قال مجاهد: {رُوحٌ مِنْهُ} أي ورسول منه، أي أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:{هذِهِ ناقَةُ اللهِ} [الأعراف 73/ 7] وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ} [الحج 26/ 22]
وكما روي في الحديث الصحيح: «فأدخل على ربي في داره» أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد.
وإذا كان الخلق الحقيقي لله تعالى لعيسى وغيره، فآمنوا بالله الواحد الأحد، وصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن
عيسى عبد الله ورسوله، وآمنوا إيمانا لائقا بكل الرسل دون تفرقة وهو أنهم عبيد الله لهم مهام فوضهم الله بها، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، ولا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ففي هذا ترك للتوحيد الخالص الذي جاءت به المسيحية في أصلها الصحيح، وهو المبدأ الذي دعا إليه عيسى ومن قبله إبراهيم وسائر الأنبياء، ولا يعقل الجمع بين التثليث والتوحيد، فهو تناقض ترفضه بداءة العقول، لذا ندد الله تعالى بالقائلين بالتثليث فقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ} [المائدة 73/ 5] وقال في آخر المائدة: {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} [116/ 5] وقال في أول المائدة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [17/ 7].
{اِنْتَهُوا} أيها النصارى عن القول بالتثليث، وقولوا قولا آخر يكن خيرا لكم منه وهو التوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى.
{إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ} بالذات، منزه عن التعدد، ليس له أجزاء أو أقانيم، ولا هو مركب من أجزاء، سبحانه، أي أنه منزه عن أن يكون له ولد أو شريك، كما قلتم في المسيح: إنه ابنه أو هو عينه، فإن أردتم الابن الحقيقي فهذا محال على الله تعالى؛ لأنه يقتضي كونه أبا أو زوجا، وإن أردتم الابن المجازي فلا يختص ذلك بعيسى.
ليس لله ولد حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض، أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، والمسيح من جملة مخلوقاته، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد؛ لأن الملكية تنافي البنوة، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاّ
آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [مريم 93/ 19] وقال: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام 101/ 6].
{وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} أي شهيدا على ذلك، وقال الرازي: والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات، وفي حفظ المحدثات، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر
(1)
.
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ} ، أي لن يتكبر أو يأنف المسيح عن عبادة الله وحده، أو عن أن يكون عبدا لله، لعلمه بعظمة الله وما يستحقه من العبودية والشكر، وكذلك الملائكة المقربون لن يترفعوا عن أن يكون أحدهم عبدا لله.
ومن يستنكف أو يترفع عن عبادته تعالى وحده، ويدعي الإشراك أو التثليث، فسيحشرهم إليه جميعا للجزاء، ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم، أي فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا حيف.
فأما المؤمنون بالله الذين يعملون الأعمال الصالحة، فيعطيهم أجورهم وثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة، أي يعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.
وأما الذين استنكفوا وتكبروا أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته فيعذبهم عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة حسبما يستحقون، ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا مناصرا ينصرهم من بأس الله ويرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر 60/ 40] أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
(1)
تفسير الرازي: 117/ 11