الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين.
ولا مانع من تعدد سبب النزول، وهي تتناول كل من اتصف بصفة المحاربة، سواء أكان كافرا أم مسلما، فإن كانت الآية قد نزلت في الكفار، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خطورة جريمة القتل وأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وما رتب عليه من تشريع القصاص، ذكر هنا عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويرتكبون القتل غالبا، حتى لا يجرأ أحد على المحاربة.
التفسير والبيان:
هذه آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة الشاملة لجريمة الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل والإفساد في الأرض، وبما أن هذه الجريمة تمس أمن المجتمع كله وتهز كيانه وتنشر الرعب والقلق والخوف في أوساط الناس الآمنين، شدد الله تعالى في عقوبة المحاربين: وهم الذين لهم قوة ومنعة وشوكة، ويتعرضون للمارة من المسلمين أو أهل الذمة، ويعتدون على الأرواح والأموال والأعراض.
وعقابهم أو جزاؤهم على سبيل الترتيب والتوزيع على حسب جناياتهم، وتكون {أَوْ} للتنويع، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا، نفي من الأرض. وهذا رأي أكثر العلماء وأئمة المذاهب.
وقال المالكية: الآية تدل على التخيير بين الجزاءات، عملا بما تقتضيه {أَوْ} فيخير الإمام بين تطبيق إحدى هذه العقوبات حسبما يرى من المصلحة،
وإن لم يأخذ المحاربون مالا ولم يقتلوا نفسا، أي أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم إما بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، عملا بظاهر الآية.
وقصر الإمام أبو حنيفة التخيير على محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فيخير الإمام بين هذه العقوبات الأربع: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه فقط، وإن شاء قتله فقط، ولا يفرد القطع في هذه الحالة، بل لا بد من انضمام القتل أو الصلب إليه؛ لأن الجناية قتل وأخذ مال، وقال الصاحبان في هذه الحالة: يصلب ويقتل ولا يقطع. واتفق الإمام مع صاحبيه على أن المحاربين إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الطريق فقط ينفون من الأرض.
دليل المالكية: أن كلمة {أَوْ} موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيعمل بحقيقة هذا الحرف، ما لم يقم دليل على خلافه، ولم يوجد، فيبقى التخيير.
ودليل الجمهور: 1 - أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، زيادة ونقصا، بدليل إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، لا يكون جزاؤهم النفي فقط.
2 -
أن التخيير يعمل به إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا اختلف السبب، فإنه لا يعمل بظاهر التخيير، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه.
وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف 86/ 18] والمعنى: إما أن تعذب من جحد وظلم، وإما
أن تحسن إلى من آمن وعمل صالحا، فليس المراد التخيير؛ لأن اختلاف السبب يؤدي إلى اختلاف الحكم لكل نوع.
ودليل أبي حنيفة: أن الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الجزاءات الثلاثة، وذلك في محارب خاص لا في مطلق المحارب، والمحارب الخاص: هو الذي قتل وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى؛ لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبما هو المعقول.
وسمي فعل المحاربين محاربة لله ورسوله للتهويل والتشنيع، وبيان خطورة هذه الجريمة على الحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، كما قال تعالى في أكلة الربا:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة 279/ 2] فليست محاربة الله على سبيل الحقيقة؛ لأن الله منزه عن الكون في جهة ومكان، والمحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين متواجهين، وإنما هذا مجاز عن المخالفة وإغضاب الله، أو المعنى يحاربون أولياء الله ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب 57/ 33].
ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط:
1 -
أن يكون لهم قوة وشوكة ومنعة، ليمتازوا عن السرّاق، وأن يعتدوا على المارة بسلاح أو غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، سواء أكانوا جماعة أم واحدا، وسواء أخذوا المال من مسلم أم من ذمي.
2 -
أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، وأن يكون في رأي أبي حنيفة خارج المصر بين حدود البلاد أو في الصحراء؛ لأنه يمكن للمعتدى عليه في داخل المصر الاستغاثة بالآخرين. ولم يفرق الجمهور بين داخل المصر وخارجه، فيمكن
حدوث جريمة المحاربة فيهما على حد سواء، وقد أثبت الواقع صحة هذا الرأي؛ لأن عصابات المجرمين يتعرضون للناس بعد منتصف الليل في الشوارع العامة، وفي الأحياء السكنية.
3 -
أن يأخذوا المال مجاهرة، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، يعاقبون بحد السرقة وهو قطع اليد فقط. وإن اختطفوا شخصا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وإن استلبوا شيئا من قافلة أو اغتصبوه لا يحدون حد السرقة ولا حد الحرابة.
والسعي في الأرض بالفساد: هو إخافة الطريق بحمل السلاح وإزعاج الناس، سواء صحبه قتل وأخذ مال أو لا.
أما عقوبات المحاربين فهي في الآية دنيوية وأخروية.
والعقوبات الدنيوية أربعة:
1 -
التقتيل حدا من غير صلب إن قتلوا فقط، ولا يسقط القتل بعفو الأولياء، والتعبير بصيغة التفعيل؛ لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء. فيجب على الحاكم إنزال هذه العقوبة بالمحاربين، ولا يملك العفو عنها أو إسقاطها، وعلى المسلمين التعاون معه على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين.
2 -
القتل مع الصلب: إن قتلوا وأخذوا المال.
3 -
قطع اليد والرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال، لا غير.
4 -
النفي من الأرض إن أخافوا الطريق فقط، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.
والصلب: يكون على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميع الشخص بها، بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وتربط يداه على خشبة عريضة من الأعلى. ويحدث في الأصح من مذهب الحنفية والراجح لدى المالكية في حال الحياة لمدة ثلاثة أيام، ثم يطعن بحربة ويقتل؛ لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة، وليس صلبه من قبيل المثلة المنهي عنها؛ لأن المثلة قطع بعض الأعضاء.
وقال الشافعية والحنابلة: الصلب يكون بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به،
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان (أي ما له روح) فقال فيما رواه الجماعة عن شداد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره.
وأما النفي: فمعناه عند الحنفية الحبس؛ لأن فيه نفيا عن وجه الأرض التي يحيا فيها الناس عادة بحرية وطمأنينة. وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتعريض للكفر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب.
ورأى المالكية أن النفي هو إخراجه من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر بينهما مسافة القصر (89 كم) ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. فيكون رأي الجمهور بالنفي هو الحبس.
وذهب الحنابلة إلى أن النفي: أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد، عملا بما روي عن الحسن والزهري.
وأما عقوبة المحاربين الأخروية: فهي المذكورة في قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي ذلك العقاب المذكور هو ذل لهم وفضيحة في الدنيا، لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وليكونوا عبرة لغيرهم، ولهم
في الآخرة عذاب عظيم جدا بسبب ما ارتكبوا من جريمة هزت أركان المجتمع، وأدت إلى تعطيل التجارة.
ثم استثنى الله تعالى من العقاب التائبين فقال:
{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أي أن من تاب قبل أن يقع في قبضة السلطة، أو قبل أن يتمكن الحاكم من القبض عليه، فيسقط عنه العقاب، إذا كانت التوبة صادقة خالصة لله عز وجل، لا تحايلا وتهربا من العقوبة؛ لأن الهدف قد تحقق وهو ترك الإفساد ومحاربة أولياء الله ورسوله، بدليل قوله تعالى:
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي أن الله غفور لذنوبهم، رحيم بهم بإسقاط العقوبة عنهم؛ لأنه لا تهمة حينئذ، وتكون التوبة نافعة.
وهذه التوبة تسقط ما هو من حقوق الله تعالى فقط وهو الحد، أما حقوق العباد من القصاص وضمان الأموال فتبقى، ويكون للأولياء الحق في المطالبة بالقصاص من القاتل، واسترداد المال المأخوذ، وولي القتيل مخير بين القصاص والدية والعفو، ولا تصح التوبة إلا برد الأموال المسلوبة إلى أصحابها، وإذا أعفاه الحاكم من حق مالي وجب ضمانه من بيت المال (خزانة الدولة). ومن تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه؛ لأنه متهم بالكذب في توبته والتصنع فيها إذا نالته يد الإمام.
أما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.