الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله على ما وهب من الهَدْي إلى شرعه ومنهاجه، وألهم من استخراج مقاصده وتنسيق حِجاجه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أقام به صَرْح الإصلاح بعد ارتجاجه، وعلى أصحابه وآله نجوم سماء الإسلام وجواهر تاجه، وأئمة الدين الذين بهم أضحى أفقُ العلم إثر بزوغ فجره وانبلاجه.
هذا كتاب قصدتُ منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقِّهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظارِ وتبدل الأعصار، وتوسُّلًا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُربة لأَتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يَسْتتب بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفَيْئَة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببُلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفَصْل من القول إذا شَجَرت حجَج المذاهب، وتبارت في مناظرتها تلكم المقانب (1).
(1) المقانب: - جمع مِقْنَب -، بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون: اسم جماعة كثيرة من الفرسان. وهو هنا مستعار لجماعات العلماء كما يستعار الفارس للعالم الفائق. اهـ. تع ابن عاشور.
دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيتُ من عُسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة، إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلّة ضرورية، أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبَّهُ عليه، كما ينتهي أهلُ العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلّة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة؛ فينقطعُ بين الجميع الحجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لَجاج. ورأيت علماء الشريعة بذلك أولى، وللآخرةُ خير من الأولى.
وقد يَظنُّ ظانٌّ أن في مسائل علم أصول الفقه غُنيةً لمُتطلّب هذا الغرض، بَيْد أنه إذا تمكّن من علم الأصول، رَأَى رَأيَ اليقين أن معظم مسائله مُخْتلَف فيها بين النُظَّار، مستمرٌّ بينهم الخلاف في الفروع تبعاً للاختلاف في تلك الأصول. وإن شئت فقل: قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يُدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين (1)!. على أن جمعاً من المتفقّهين كان هزيلاً في الأصول، يَسيرُ
(1) اختلفت أقوال العلماء في تحديد نشأة علم أصول الفقه، وفي أول مَن دون هذا العلم ووضع قواعده. فنسبت ذلك جماعةٌ إلى فقهاء الصحابة مثل: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. وقالوا: نزّل الإمام علي عقوبة القذف حداً على شارب الخمر، لكون متناوله إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فاستحق عقوبة المفترين، إعمالاً منه للمآل، وسداً للذريعة في تقرير الأحكام.
وروَوْا عن ابن مسعود أن عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها وضع حملها، لقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وأنه علّل هذا بقوله: أشهد أن سورة النساء الصغرى - الطلاق - نزلت بعد سورة النساء الكبرى - البقرة -. يلمع بهذا إلى أن المتأخّر يأتي ناسخاً أو مخصِّصاً عند اختلاف الحكم.
ولا شك أن هذين الموقفين وما أشبههما كان قد تلقاها الصحابة، رضوان الله عنهم، فيما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عصر التابعين ظهرت طائفتان من =
. . . . . . . . . . . . . . . . .
= الفقهاء: الأولى بالمدينة، كسعيد بن المسيب وجماعته. والثانية بالعراق، مثل: علقمة، وإبراهيم النخعي. فكانت الأولى عند فقدان النص تُعمل المصلحة، والآخرى تُعمل القياس. أبو زهرة. أصول الفقه: 8 - 10.
وقال أهل الرأي: أول من صنف في علم الأصول فيما نعلم الإمام أبو حنيفة. فقد حدّد مناهج استنباطه الأساسية: بالكتاب، فالسنة، ففتاوى الصحابة يأخذ بما يجمعون عليه، ويتخيّر من آرائهم فيما يختلفون فيه، ولا يخرج عن ذلك. ولا يعتمد رأي التابعين. ويسير في القياس والاستحسان على منهاج بين. وأن أصحابه ينازعونه القياس. فإذا قال: أستحسن لم يلحق به أحد. أبو زهرة. أصول الفقه: 9 - 10.
وتلاه صاحباه: القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، ثم الإمام محمد بن إدريس الشافعي. انظر مقدمة أبي الوفاء الأفغاني لأصول السرخسي: 1/ 3.
وقالت طائفة أخرى: كان مالك أشار في الموطأ إلى بعض القواعد الأصولية. فاحتج بعمل أهل المدينة، واشترط شروطاً في رواية الحديث، وردّ من الآثار ما كان مخالفاً لنصوص القرآن أو لما هو مقرّر من قواعد الدين، كرده خبر:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم غسله سبعاً"، ورده خبر خيار المجلس، وخبر أداء الصدقة عن المتوفّى. انظر الحجوي: الفكر السامي: (1) 2/ 183 = (2) 1/ 404؛ أبو زهرة: 7.
ونسب أبو هلال العسكري المبادرة إلى الاشتغال بهذا الفن وتجلية بعض قواعده إلى إمام المعتزلة أبي حذيفة واصل بن عطاء في كتاب الأوائل: 2/ 119.
وذهب السيد حسن الصدر إلى أن أول من وضع أصول الفقه وفتح بابه وفتق مسائله الإمام أبو جعفر محمد الباقر، ثم من بعده ابنه أبو عبد الله جعفر الصادق. فقد أمليا على أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون. فأودعوا ذلك كتب مسائل الفقه المروية عنهما، مثل: كتاب أصول آل السيد الرسول لهاشم بن زين العابدين الخونساري =
فيها وهو راجل، وقلّ من ركب متن التفقه فدُعِيت نزال فكان أولَ نازل. لذلك لم يكن علم الأصول منتهًى ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه، وعسُرَ أو تعذَّرَ الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال.
على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعدَ تمكِّن العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تُؤذن بها تلك الألفاظُ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثاً على التشريع، فتقاسُ فروع كثيرة على مورد لفظ
= الأصفهاني، وكتاب الأصول الأصلية لعبد الله بن محمد الرضا الحسيني، وكتاب الفصول المهمة في أصول الأئمة لمحمد بن الحسن بن علي الحر العاملي. انظر الشيعة وفنون الإسلام:78.
وقال علماء الشافعية: أول من صنف في أصول الفقه بالإجماع: الإمام الشافعي المطلبي محمد بن إدريس. فهو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع. انظر الإسنوي. التمهيد: 45.
وقال الفخر الرازي: اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم هو الشافعي. وهو الذي رتّب أبوابه وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في الضعف والقوة
…
وأن نسبة الشافعي إلى علم أصول الفقه كنسبة أرسطاطاليس الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض
…
والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أنهم كلهم عالة على الشافعي في كتاب الرسالة له. الرازي. مناقب الإمام الشافعي: 153، 156 - 157.
وهذا الرأي هو الرأي الغالب المشهور. والذي عليه أكثر أهل العلم. قال الشيخ ابن عاشور: كان علم الأصول قريناً لعلم الجدل ومخلوطاً به. ألف فيه الشافعي رسالته في الأوامر والنواهي والبيان والخبر وحكم العلة والنسخ، وبيّن وجه الحاجة إلى الأدلة السمعية. فهو أول من كتب في أصول الفقه كتاباً خاصاً به، وأول من ميّز الجدل عن الأصول. أليس الصبح بقريب:203.
منها، باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مرادٌ من لفظ الشارع، وهو الوصف المسمى بالعلّة (1).
وبعبارة أقرب: تُمَكِّن تلك القواعدُ المتضلِّعَ فيها من تَأْيِيد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول، لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولةً في نفوس المزاولين لها من مقلِّدي المذاهب.
وقُصارَى ذلك كله: أنها تؤول إلى محامل ألفاظ الشارع في: انفرادها، واجتماعها، وافتراقها، حتى تقرِّب فهمَ المتضلِّع فيها من
(1) العلة: جمعها علل. وهي شرط في صحة القياس ليجمع بها بين الأصل والفرع. وقد استعمل الأصوليون ألفاظاً كثيرة بإزائها، منها: السبب، والإشارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر. وزاد بعضهم: المعنى. الزركشي. البحر المحيط: 5/ 111، 115.
واختلف العلماء في تعريفها على أقوال كثيرة. منها: أنها المعرِّف للحكم، أي: جعلت علمَاً على الحكم، إن وجد المعنى وجد الحكم؛ ومنها: أنها الموجب للحكم، على معنى: أن الشارع جعلها موجبة لذاتها. وقالت المعتزلة: إنها موجبةٌ للحكم بذاتها لا بجعل الله. واختار فخر الدين الرازي أنها الموجبة بالعادة. وقال آخرون: إنها الباعث على التشريع بمعنى: أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملاً على مصلحة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم. الزركشي 5/ 111 - 113. وفرق الجصّاص بين علل الأحكام وعلل المصالح. فالأولى وهي علل الأحكام: أوصاف في الأصل المعلول، ليست من علل المصالح في شيء، تكون علامات وأمارات للأحكام غير موجبة لها، لأنها قد توجد بدون الأحكام؛ والثانية وهي علل المصالح: إنما هي معانٍ في المتعبِّدين لا في الأصول المتعبَّد بها، أي: الحكم. وليست هي من العلل التي تقاس عليها أحكام الحوادث، ولا تدرك إلا من طريق التوقيف. الجصّاص. الفصول في الأصول: 4/ 135 - 141.
أفهام أصحاب اللسان العربي القُحّ، كمسائل مقتضيات الألفاظ وفروقها: من عموم، وإطلاق، ونصًّ، وظهور، وحقيقة، وأضداد ذلك؛ وكمسائل تعارض الأدلة الشرعية: من تخصيص، وتقييد، وتأويل، وجمع، وترجيح، ونحو ذلك. وتلك كلها في تصاريف مباحثها بمعزل عن بيان حكمة الشريعة ومقاصدها العامة والخاصة في أحكامها، فهم قَصَروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عنها الألفاظ، وهي عِلل الأحكام القياسية. وربَّما يجد المطّلِع على كتب الفقه العالية مَن ذكر مقاصد الشريعة [و] كثيراً من مهمات القواعد (1) لا يجد منه شيئاً في علم الأصول. وذلك يخصُّ مقاصد
(1) قاعدة وجمعها قواعد تقدم تعريفها في الجزء الثاني. وهي لغةً: الأساسُ والأصلُ. وفي الاصطلاح: تطلق على عدة معانٍ، ترادف: الأصل، والقانون، والمسألة، والضابط، والمقصد. كما عُرفت بأنها: أمر كلي منطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه
…
وهي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها. التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 5/ 1176 - 1177.
وعرفها الجرجاني بأنها: قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها. التعريفات: 171. وقال أبو البقاء الكفوي: هي قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها. الكليات: القسم الرابع: 48، وحددها التفتازاني بأنها: حكم كلي ينطبق على جزئياته، لتعرف أحكامها منه. التلويح على التوضيح: 1/ 20.
وتتنوع القواعد إلى فقهية، وأصولية، وتلحق بها الضوابط وهي التي يستقل بها باب أو موضوع.
والقواعد الكلية الكبرى التي اتفق الفقهاء على اعتبارها والاعتداد بها خمس، هي:"الأمور بمقاصدها"، و"اليقين لا يزول بالشك"، و"الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكّمة". وهي أعمُّ القواعد وأشملها. وهناك أخرى كثيرة، منها ما يندرج تحت هذه القواعد، ومنها ما لا يندرج. وتعرف بالقواعد الفرعية أو الجزئية. وتوجد بإزاء ذلك قواعد مذهبية =
أنواع المشروعات في طوالع الأبواب دون مقاصد التشريع العامة (1).
= تختص بمذهب دون مذهب. والقواعد الكلية الفقهية جليلة القدر، كثيرة العدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه. القرافي، الفروق: 1/ 3. ومظانُّ وجود هذه القواعد: أمهات كتب الفقه ومدوناته الواسعة في جميع المذاهب. وقد توجد مجموعة مصنّفات خاصة بها وهي كثيرة. فمنها في المذهب الحنفي: أصول الكرخي، وتأسيس النظر للدبوسي، والأشباه والنظائر لابن نجيم؛ ومنها في المذهب المالكي: الفروق للقرافي، والقواعد للمقَّرِي، وإيضاح السالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي؛ ومنها في المذهب الشافعي: قواعد الأحكام لابن عبد السلام، والأشباه والنظائر لابن الوكيل، والمجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي؛ ومنها في المذهب الحنبلي: القواعد النورانية لابن تيمية، وقواعد ابن قاضي الجبل، والقواعد لابن رجب. علي أحمد الندوي. القواعد الفقهية: 128 - 229.
(1)
من أمثلة ذلك: بيان مشروعية البيع التي ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع، واقتضتها الحكمة. وهي: أنه به تقضى الحاجات، مع المحافظة على الكرامة من جراحات ذل السؤال، وتجنب التغالب والتقاتل، لتحصيل ما تقوم به أمور الحياة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن الحرمة الثابتة بالإرضاع ترجع إلى شبهة البعضية، لما يتولد عن الرضاع من نشوز العظم وإنبات اللحم. العيني. البناية شرح الهداية: 4/ 342.
ومنها أن الوكالة إنما شرعت لأن الإنسان قد يعجز عن مباشرة التصرُّفات وعن حفظ ماله، فيحتاج إلى الاستعانة بغيره أشد الاحتياج، فتكون الوكالة مشروعة لدفع الحاجة. الزيلعي. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4/ 254.
ومن ذلك - في تحريم نكاح المتعة -: أن العقد لا يجرى فيه على مستلزمات عقد النكاح الشرعي، ولا تظهر فيه المتطلَّبات والأحكام المترتبة على العقد الصحيح المتعارف عليه والمأذون به. فنكاح المتعة لا ميراث فيه ولا طلاق ولا عدَّة. وهو ليس بنكاح، وهو سفاح. ابن عبد البر. الاستذكار: 16/ 305، ع 24589.
ومنها: استثناء المساقاة من الأصول الممنوعة لضرورة الناس إلى ذلك =
ومن وراء ذلك خبايا، في بعض مسائل أصول الفقه، أو في مغمور أبوابها المهجورة عند المدارسة، أو المملولة، ترسُب في أواخر كتب الأصول، لا يصل إليها المؤلفون إلّا عن سآمة، ولا المتعلمون إلّا الذين رزقوا الصبر على الإدامة، فبقيت ضئيلة ومنسية، وهي بأن تعد في علم المقاصد حَرِيَّة. وهذه هي مباحث المناسبة والإخالة في مسالك العلة (1)،
= وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للناس عمل حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها للاستئجار من ثمنها على ذلك إن لم يكن لهم مال. فلهذه المصلحة رخص في المساقاة. ابن رشد. المقدمات: 2/ 552.
وفي كتب الشافعية أمثلة لما ألمع إليه المؤلف هنا. ففي بيان وجه الرجعة قال الشافعي: ينبغي لمن راجع أن يُشهد شاهدين عدلين على الرجعة، لما أمر الله تعالى به من الشهادة، لئلا يموت قبل أن يُقِرَّ بذلك، أو يموت قبل [أن] تعلم الرجعةَ بعد انقضاء عدتها، فلا يتوارثان إن لم تعلم الرجعةُ في العدّة، ولئلا يتجاحدا، أو يصيبها فتنزّلَ منه إصابةَ غير زوجة. الشافعي. الأم:(1) 5/ 226 - 227 (2) 11/ 350/ 19729.
ومنها: في جواز السَّلَم أن فيه رِفقا. فإن أرباب الضياع قد يحتاجون لما ينفقونه على مصالحها فيستسلفون على الغلّة، وأرباب النقود ينتفعون بالرخص، فجوّز لذلك، وإن كان فيه غرر، كالإجارة على المنافع المعدومة. محمد الرملي. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 4/ 182.
ومثل ذلك ما في كتب الحنابلة. فقد ورد في مشروعية المضاربة أن بالناس حاجة إليها. فإن الدراهم والدنانير لا تُنمَّى إلا بالتقلّب والتجارة، وليس كل من يملكها يحسن التجارة، ولا كل من يحسن التجارة له رأس مال، فاحتيج إليها من الجانبين، فشرعها الله لدفع الحاجتين. ابن قدامة. المغني:(2) 7/ 134. وفي مشروعية الإجارة: أن الحاجة داعية إليها، إذ كل أحد لا يقدر على عقار يسكنه، ولا على حيوان يركبه، ولا على صنعة يعملها. وهم لا يبذلون ذلك مجاناً، فجُوِّزَت طلباً لتحصيل الرزق. وجوز ذلك الشيخ تقي الدين للحاجة. ابن مفلح. المبدع شرح المقنع: 5/ 62.
(1)
عدّ الرازي في الطرق الدالة على علّية الوصف في الأصل عشرةٌ: النص، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والشبه، والدوران، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط. المحصول: 2/ 191.
والمناسبة المذكورة من بينها - تسمى أيضاً: الإخالة، والمصلحة، والاستدلال، ورعاية المقاصد، وتخريج المناط - وهي: أن يكون بين الوصف والحكم ملاءمة، بحيث يترتب على تشريع الحكم عنده تحقيق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم. وإنما تعددت التسميات لهذه العلة بحسب اختلاف جهة النظر إليها.
وقد تحدث الأصوليون عن المناسب، واختلفت تعريفاتهم له. قال أبو زيد الدبوسي: المناسب: هو ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، وهو يصلح حجة للناظر، دون المناظر. وقال الغزالي: المناسب ما هو على منهاج المصالح، بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم. وجعله الرازي قسمين فقال: هو عند من لا يعلل أحكام الله: الملائم لأفعال العقلاء في العادات. وهو عند من يعللها: ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً أو إبقاء. فهو الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً. وقال الَامدي: هو عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم، سواء كان ذلك الحكم نفياً أو إثباتاً، وسواء كان ذلك المقصود جلب منفعة أو دفع مفسدة
…
وهو غير خارج عن وضع اللغة، لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط. وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصحُّ لغة أن يقال: إنه مناسب له.
وقد تفرعت عن أصول التعريفات هذه تعريفاتٌ أخرى لابن الحاجب والبيضاوي والقرافي. والأمر الذي لا ينبغي أن يغفل عنه هو: أن التعريفات المتقدمة، جميعَها مُجْمِعة على أن المصلحة المترتبة على ربط الحكم بالوصف هي الميزان الذي تعرف به المناسبة. فمتى خلا ذلك الوصف عنها خرج عن دائرة المناسبة.
وكما اختلفوا في تعريف المناسبة، اختلفوا في تقسيمها. فهناك طرائق متعددة بتعدد الاعتبارات تنسب للغزالي والرازي والآمدي وابن الحاجب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وابن السبكي. فمن تقسيم المناسبة باعتبار كون المناسب حقيقياً أو إقناعياً، وهو ثلاثة أنواع: ضروري أو حاجي أو تحسيني؛ أو باعتبار المقصود الحاصل من ترتب الحكم عليه دنيوياً أو أخروياً، أو باعتبار إفضائه إلى المقصود إلى ما تفضي إليه قطعاً أو ظنًّا أو شكًّا أو وهمًا، أو ما يقطع بانتفائه في بعض الصور؛ أو باعتبار الشارع إياه معتبَراً أو ملغى أو مرسلاً.
وقد قسم ابن السبكي الوصف المناسب لهذا الاعتبار أربعة أقسام، فجعل منه: المؤثر، والملائم، والغريب، والمرسل.
فالمؤثّر هو ما ثبت بالنص أو الإجماع أنه علّة. والملائم هو ما ثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه في محل آخر، بسبب اعتبار جنسه في جنس الحكم أو في عينه، أو عينه في جنس الحكم بنص أو إجماع. والغريب هو ما لم يعلم اعتباره ودل الدليل على إلغائه. والمرسل هو: المناسب الذي لم يدل الدليل على اعتباره ولا إلغائه، وهو المعبر عنه بالمصلحة المرسلة.
وفيه الخلاف، ولئن سوّى الأصوليون بين المناسب والمخيِّل، أو بين المناسبة والإخالة، فقال إمام الحرمين في بحث تصحيح العلة: ومما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق: إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقة الأصول. وقال ابن الحاجب: المناسبة: الإخالة، وتسمى: تخريج المناط، وهي: تعيين العلّة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته، لا بنص ولا غيره. وصرح بذلك ابن السبكي في جمع الجوامع، وجرى عليه شارحه المحلي. قال: المناسبة والإِخالة؛ سمّيت مناسبة الوصف بالإخالة، لأنها بها يخال، أي: يظن أن الوصف علّة. وسُميّ استخراجها تخريج المناط.
وقد جعل الحنفية الإخالة مرتبةً فوق المناسبة، فقالوا: إن الوصف يكون علة بمجرد الطرد، بل لا بد من صلاحه وعدالته كالشاهد. ويتحقق صلاحه بمناسبته وملاءمته، أي: موافقته للعلل المنقولة عن السلف، وألا يكون نابياً عن الحكم. أما عدالته فتحققها بالتأثير. وعند الشافعية بالإخالة. محمد مصطفى شلبي. تعليل الأحكام: 239 - 260.
ومبحث المصالح المرسلة (1)، ومبحث التواتر (2)، والمعلوم بالضرورة (3)، ومبحث حمل المطلق على المقيّد إذا اتحد الموجِبُ والمُوجَبُ أو اختلفا (4).
(1) هي مناسب المرسل كما قدمنا. وهي ما لا يستند إلى أصل كلي ولا جزئي من غير أن تخالف نصًّا قطعياً في ثبوته ودلالته. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد في الاسلام: 228 - 289. وقد تعرَّض لها المؤلف هنا شارحاً ماهيتها بقوله: هي التي أرسلتها الشريعة، فلم تنط بها حكماً معيناً، ولا يلفى في الشريعة لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس عليه: 245.
(2)
يعني الخبر الذي اتصل بك من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصالاً بلا شبهة، حتى صار كالمعَايَن المسموع منه، وذلك بأن يرويه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب، لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم. ويدوم هذا الحدُّ فيكون آخره وأوسطه كطرفيه. وهو يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علماً ضرورياً. البزدوي. كنز الوصول إلى معرفة الأصول:150.
والتواتر في أحاديث الأفعال متحقق ولا ريب فيه. وأما في أحاديث الأقوال فقد قال ابن الصلاح: إنه يعزّ وجوده، بل منهم من قال: إنه لا يوجد مطلقاً. وكلاهما يقصد بذلك المتواتر بلفظه، أما المتواتر بالمعنى فكثير. والتواتر اللفظي أو المعنوي يفيد اليقين. وهو حجة فيما ورد فيه، والأخذ به محل اتفاق الفقهاء. محمد سلام مدكور: 128، الطريق الثالث في إثبات مقاصد الشريعة:63.
(3)
المعلوم من الدين بالضرورة هو: ما لا يسوغ الاجتهاد فيه، لأن مصدر تحديده وتبيانه من الشارع، وكان طريق ثبوته متواتراً. محمد سلام مدكور:344.
(4)
في المستصفى: إن التقييد اشتراط، والمطلق محمول على المقيّد إن اتحد الموجب والموجب، كما لو قال: لا نكاح إلا بولي وشهود، وقال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فيحمل المطلق على المقيّد. فلو قال في كفارة القتل: فتحرير رقبة، ثم قال فيها مرّة أخرى: فتحرير رقبة مؤمنة، فيكون هذا اشتراطاً ينزل عليه الإطلاق. وهذا صحيح، ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ. الغزالي: 2/ 185. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي القضية خلاف الشافعية والأحناف، وخلاف بين كلام الرازي وكلام ابن العربي في المحصول. انظر القرافي. نفائس الأصول: 5/ 2164 - 2176.
وتلخيص القول في تقييد المطلق وعدمه عند الأصوليين أربع صور:
1 -
إذا اتحد السبب والحكم. فإن المطلق يحمل على المقيد. ومثّل الحنفية لذلك بقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} البقرة: 196، فإن هذا مقيّد عندهم بالتتابع الوارد في قراءة ابن مسعود المشهورة. أما غيرهم فلا يرون هناك نصًّا مقيداً لهذا الإطلاق، لأن غير المتواتر عندهم كله من قبيل أخبار الآحاد، فلا يقيّد بها مطلق الكتاب.
2 -
إذا اتحد السبب واختلف الحكم. فأكثر الشافعية يحملون المطلق على المقيّد، ويرى فريق آخر من الفقهاء عدم حمل المطلق على المقيد، لاختلاف الحكم. قال تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} المائدة: 6، وفي مسح اليدين جاء في التيمم مطلقاً عن هذا القيد:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} المائدة: 6.
3 -
إذا اختلف السبب واتحد الحكم. فإذا كان التقييد مختلفاً فإن المطلق لا يحمل على المقيد لاختلاف القيد، وإلا كان ترجيحاً بلا مرجح. ككفارة الصوم، فإنها جاءت في كفارة اليمين مطلقة كما جاء قضاء رمضان مطلقاً، مع أن الصوم جاء في كفارة القتل مقيداً بالتتابع وكذا في كفارة الظهار. وجاء التقييد بالتفريق لا بالتتابع في صوم التمتع بالحج.
أما إذا كان التقييد واحداً كالرقبة في الكفارة فقد وردت مقيدة بالمؤمنة في كفارة القتل الخطأ، وجاءت مطلقة في كفارة الظِّهار وفي كفارة اليمين. فالمالكية وأكثر الشافعية يحملون المطلق على المقيد، ويشترطون في الرقبة أن تكون مؤمنة في الكل، والحنفية لا يحملون المطلق على المقيَّد.
4 -
وإذا اختلف كل من السبب والحكم فلا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً. وذلك كاليد في الوضوء والسرقة، فإنها في الوضوء جاءت مقيدة إلى المرافق، وفي السرقة جاء القطع مطلقاً؛ فيبقى المطلق على إطلاقه فيها، ويعمل بالقيد في المقيَّد، ولا تعارض في هذا. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد في الإسلام:211.
وقد وقع لإمام الحرمين رحمه الله (1) في أول كتاب البرهان اعتذار عن إدخال ما ليس بقطعي في مسائل الأصول، فقال:"فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا تُلْفَى إلا في أصول الفقه، وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القواطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط بالدليل"(2).
(1) هو الإمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، 419 بنيسابور - 478 بِبُشْتَنِقَان. سمع من أبيه أبي محمد كتباً كثيرة، والحديث من أبي بكر أحمد بن محمد الأصبهاني التميمي، ومن أبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري، ومن أبي حسان محمد بن أحمد المُزَكِّي وغيرهم. واْخذ الأصول عن أبي القاسم الإسْكَاف الإسفراييني. وقرأ القراءات على أبي عبد الله الخبازي. ودرس النحو على أبي الحسن علي بن فَضَّال المُجَاشَعِي. رحل إلى بغداد وأصبهان ..
وله مصنفات في الكلام وأصول الفقه والخلاف والجدل والفقه والتفسير والخطب والمواعظ والوصايا. ومن أشهر مؤلفاته في الأصول: البرهان، والورقات، والتلخيص. وله في الفقه: نهاية المطلب، ومختصره، وربما ألحقنا بذلك كتاب الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، وفي الكلام: الإرشاد، والشامل، والعقيدة النظامية. وفي الخلاف: الأساليب، والكافية، والدرّة المضية. وله الأربعون في الحديث. د/ عبد العظيم الديب. فقه إمام الحرمين، ومقدمة البرهان.
وقد تضمن كتاب البرهان مباحث جليلة في المقاصد في كتاب القياس: 2/ 923 - 964، الفقرات 901 - 952. وفي كتاب الاستدلال: 2/ 1123 - 1135، الفقرات: 1127 - 1157. وبنى كتابه الغياثي في بيان مسائله على مراعاة المقاصد واتباع وجوه المناسبات التي لا شاهد لعينها بالاعتبار، وإن كان يشهد لجنسها بالاعتبار مجموع أدلة وتفاريق أمارات وعلامات. وهذا يرد مفصلاً في قسمي الكتاب.
(2)
حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به. الجويني. البرهان: 1/ 86، ف:6.
وهو اعتذار واهٍ؛ لأنا لم نَرَهُمْ دونوا في أصول الفقه أصولاً قواطعَ يمكن توقيف المخالف عند جريه على خلاف مقتضاها، كما فعلوا في أصول الدين. بل لم نجد القواطعَ إلّا نادرة، مثل ذكر الكليات الضرورية: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعِرض (1). وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة.
وقد استشعر الإمام أبو عبد الله المازَريّ (2) ذلك فقال عند شرحه قول إمام الحرمين في البرهان: "وأقسامها - أي: أدلة الأحكام - نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع"(3):
(1) هي في الأصل خمسة بدون ذكر العرض. الشاطبي. الموافقات: (2) 2/ 4 = (3) 2/ 10 = (4) 1/ 20. وعليه جرى الغزالي في المستصفى، وابن الحاجب في مختصره. وعدّه بعض العلماء من الضروري كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع. وبه أخذ الحلي والطوفي وزكريا الأنصاري وابن النجار والشوكاني والشنقيطي. ولعل ذلك لما رأوه من التلازم بين الضروري وبين ما في تفويته حد. وقد ورد في الشريعة حد القذف حماية للعرض. قال الشيخ ابن عاشور في فصل أنواع المصلحة المقصودة من التشريع: وأما عدّ حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح. والصواب أنه من قبيل الحاجي. انظر: 240.
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري. نسبة إلى مازرة بصقلية 536 هـ. دخل البلاد التونسية، ونزل بالمهدية. أخذ عن اللخمي وابن الصائغ، وعنه البرجيني وابن الفرس وابن تومرت والشلبي وابن المقري وغيرهم، وعنه بالإجازة ابن أبي جمرة وابن خير وابن رشد الحفيد وعياض وجماعة. تعلم الطب. ولم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه ولا أقوم لمذهبه منه. وهو واحد الأربعة الذين اعتمد خليل ترجيحهم وأقوالهم. له شرح صحيح مسلم، وشرح البرهان لإمام الحرمين، وشرح التلقين لعبد الوهاب، وإيضاح المحصول في برهان الأصول. الحجوي. الفكر السامي:(2) 2/ 221، ع 536؛ مخلوف: 1/ 127، ع 371.
(3)
قول الجويني في البرهان: 1/ 85، ف 5.
"اختلفت عبارات الأصوليين في هذا:
فمنهم من لا يقيد هذا التقييد - أي: قيد كلمة نص -، ويذكر الكتاب والسنة - أي: يقتصر على هاتين الكلمتين، ولا يذكر كلمتي نص - والإجماعَ. فإذا قيل لهم: فالظواهر وأخبار الآحاد؟ يقولون: إنما أردنا بذلك ما تحقق اشتمال الكتاب عليه، ولم نتحقق اشتمال الكتاب على الصورة المعيّنة من صور العموم. وكذلك يقولون في أخبار الآحاد: لم نتحقق كونه سنة.
ومنهم من لا يقيد لإزالة هذا اللبس.
ومنهم من يقول: ما دلَّ على الحكم ولو على وجه مظنون فهو دليل. فهذا لا يفتقر إلى التقييد" اهـ (1).
ورأيت في شرح القرافي على المحصول، في المسألة الثانية من مسائل اللفظ في الأمر والنهي، أن الأبياري (2) قال في شرح البرهان:
(1) ما نقله الشيخ ابن عاشور هنا ساقط من بين ما سقط من أول شرح البرهان للمازري في المخط. (العاشورية: عدد 5). تبدأ النسخة بما بعد مسألة شُكر المُنعم. وهي الفقرة 15 من البرهان إثر المقدمات. والذي يظهر أن الشيخ ابن عاشور نبَّه على ما وقف عليه من أصل هذه النسخة. يوحي بذلك قوله في أول نسخته بخطه: من قطعة أمالي الامام المازري على البرهان لإمام الحرمين في أصول الفقه، أخرجها العالم الموثق الفقيه النبيه محمد بن رمضان أحد تلامذة الشيخ العلامة المفتي إسماعيل التميمي بخطه من أصل عتيق فيه خرم. وهاته السياقات هي إثر تخريم في الأصل. وقد وقفت على الأصلِ. محمد الطاهر ابن عاشور.
(2)
بالأصل ابن الأنباري. وهو تصحيف. والصحيح الأبياري كما أثبتناه. وهو شمس الدين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن عطية الصنهاجي. (557 - 618) الفقيه الأصولي الرّحلة. أحد أئمة الإسلام المحققين. أخذ عن القاضي عبد الرحمن بن سلامة وناب عنه في القضاء. وتفقّه بجماعة، =
"مسائل الأصول قطعية، ولا يكفي فيها الظن. ومُدْرَكُها قطعي، ولكنه ليس المسطورَ في الكتب، بل معنى [قول العلماء: إنها قطعية]: أن من كثُر استقراؤه واطِّلاعه على أقضية الصحابة [رضوان الله عليهم]، ومناظراتهم، [وفتاواهم]، وموارد النصوص الشرعية، [ومصادرها] حصل له القطع بقواعد الأصول، ومتى قصر عن ذلك لا يحصل له إلّا الظّن" اهـ (1).
وهذا جواب باطل، لأننا بصدد الحكم على مسائل علم أصول الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة (2).
وفي شرح القرافي على المحصول في الفصل الثاني من المقدمات [فائدة]: "إن أبا الحسين (3) قال في شرح العُمد: لا يجوز
= منهم: أبو الطاهر بن عوف. وعنه جماعة، منهم: ابن الحاجب، وعبد الكريم بن عطاء الله. له سفينة النجاة المحاكية للإحياء، وشرح التهذيب، وتكملة الكتاب الجامع بين التبصرة والجامع لابن يونس، والتعليقة للتونسي. وربما فضلوه على الإمام الفخر الرازي في الأصول، لجملة تآليفه التي من أهمها شرحه لكتاب الجويني البرهان في الأصول. مخلوف: 1/ 166، 520.
(1)
القرافي. نفائس الأصول في شرح المحصول: 3/ 1247 - 1248.
(2)
وفي هذا يكمن سر اختلاف القول في كون أصول الفقه قطعيّة. ولا يخفى أن من العلماء من بنى حكمه على موضوع علم أصول الفقه، ومنهم من قصد من أصول الفقه ما يتوصل به عن طريقها إليه من الأحكام والقواعد الشرعية. ويؤكد الشيخ ابن عاشور هذا المعنى بما ذكره بعد مؤيداً لمنزع من ينظر إلى أصول الفقه نظرة موضوعية مرجحاً بذلك رأيه واختياره. انظر ذلك في الصفحة الموالية ابتداء من قوله: "وأنا أرى
…
إلى نهاية الفقرة الأولى".
(3)
هو أبو الحسين البصري محمد بن علي بن الطيب، 436 هـ ببغداد. أحد أعلام المعتزلة. سمع من طاهر بن لبؤة وغيره. له شهرة بالذكاء والديانة =
التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهد فيه مصيباً، بل المصيب واحد [بخلاف الفقه في الأمرين]. والمخطئ فى أصول الفقه ملوم، بخلاف الفقه [فهو مأجور] ". اهـ.
وعقّبه القرافي بقوله: "إن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك، كالإجماع السكوتي، [والكلام على الحروف]، ونحو ذلك. [فإن الخلاف فيها أقوى]، والمخالف فيها لم يخالف قاطعاً بل ظناً فلا ينبغي تأثيمه، كما أنّا في أصول الدين لا نؤثّم من يقول: "العَرَض يبقى زمانين"، وينفي الخلاء، [وإثبات الملأ]، وغير ذلك من المسائل التي مقصودها ليس من قواعد الدين الأصليّة، وإنما هي من التتمّات في ذلك العلم"(1).
وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي فى المقدمة الأولى من كتاب الموافقات الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية (2)، فلم يأت بطائل (3).
= على بدعته. وله تصانيف منها: المعتمد في أصول الفقه، وتصفح الأدلة، وشرح العمد، وغرر الأدلة، والإصابة. ابن خلكان. وفيات الأعيان: 4/ 271، ع 609؛ الخطيب. تاريخ بغداد: 3/ 100، ع 1096؛ المراغي. الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/ 233.
(1)
القرافي. نفائس الأصول: 1/ 161 - 162.
(2)
الشاطبي. الموافقات: (2) 1/ 10 - 12= (3) 1/ 29 - 34= (4) 1/ 17 - 24.
(3)
وقد نبّه على هذا الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته حين قال معقباً على كلام الشاطبي: وإن تفاوتت في الرتبة فإنها قد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، بما نصه: استدلال خطابي لأنه لا يتأتى اعتبار ذلك في جميع مسائل الأصول حتى ما اتفقوا عليه منها. إنما المعتبر في كل ملة بعض القواعد العامة فقط. وكان يجدر به، وهو في مقام الاستدلال العام على قطعية مسائل الأصول ومقدماتها ألا يذكر مثل هذا الدليل. الشاطبي. الموافقات:(3) 1/ 29 - 32.
وأنا أرى: سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع هو: الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية. فهم قد أقدموا على جعلها قطعية، فلما دوَّنوها وجمعوها ألفوا القطعي فيها نادراً ندرة كادت تذهب باعتباره في عداد مسائل علم الأصول. كيف وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه؟!. فنحن إذا أردنا أن ندون أصولاً قطعية للتفقّه في الدين حقّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذَوْبها في بُوتَقَةِ التدوين، ونُعَيِّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثمّ نعيد صوغ ذلك العلم ونسمّيه "علم مقاصد الشريعة"، ونترك علم أصول الفقه على حاله نَستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير مُنْزَوٍ تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل:"علم مقاصد الشريعة"(1). فينبغي أن نقول: أصول
(1) من أجل بيان ما بين علمي أصول الفقه والمقاصد الشرعية من صلات، يحسن بنا أن نحصر مسائل كل واحد منهما وموضوعه، لإدراك مدى العلاقة بينهما. فعلم أصول الفقه عبارة عن أدلة الفقه الإجمالية وقواعده الكلية التي تستنبط منها أحكامه. وهذه وتلك إما نقلية محضة كالكتاب والسنة وقول الصحابي. وإما اجتهادية تستند في حجيتها واعتبارها إلى النقل، وتؤخذ من معقوله بوجه من الوجوه المعتبرة المبيّنة عند الأصوليين، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها. وإما اجتهادية تستند إلى أحد النوعين السابقين، فما يلزم فيهما يلزم فيه وهو الإجماع.
وعلم المقاصد: كل ما يكشف عن وجوه الإعجاز التشريعي القائمة على جلب مصالح العباد أو تكميلها، ودفع المفاسد عنهم أو تقليلها، في دينهم ودنياهم. أو يفيد بياناً أو تعليلاً لبعض الأحكام الجزئية بذكر حكمته =
الفقه يجب أن تكون قطعية، أي: من حق العلماء أن لا يدوّنوا في أصول الفقه إلّا ما هو قطعي، إما بالضرورة أو بالنظر القوي. وهذه المسألة لم تزل معترك الأنظار. ومحاولة الانفصال فيها ملأت دروس المحققين لها في أختام الحديث في شهر رمضان (1).
ولقد فاضت كلمات مباركة من بعض أئمة الدين، أمست قواعدَ قطعية للتفقّه، إلّا أن تناثرَها وانغمارَها بوقوعها في أثناء استدلال على جزئيات، يسارع ذلك إليها بإبعادها عن ذاكرة من قد ينتفع بها عند الحاجة إليها. وهذه مثل قولهم:"لا ضرر ولا ضرار"(2)، وقول
= التشريعية، أو العلة المناسبة له. وهو علم تختلف وظيفته عن وظيفة علم الأصول كما نبه على ذلك المؤلف. وهو مما يستعان به على دفع ما يظهر من التعارض أحياناً بين أدلة الكتاب والسنة، فيتولى المجتهد البصير به عن طريقه حمل النص على ما يكون أحرى من الوجوه المحتملة بتحقيق غايات الشارع ومراميه، أو على الذبِّ عن نصوص السنة الصحيحة كما ذهب إلى ذلك الشافعي بردّه طعون الطاعنين فيها، بسبب مخالفتها للأصول والقواعد. وذلك ببيان ما في تلك النصوص من الحكم والمصالح التي تجعلها أصولاً شرعية مستقلة برأسها، وبإزالة ما قد يتوهم من التعارض بينها.
(1)
إشارة إلى ما كان يقوم به كبار علماء الشريعة - من شيوخ الإسلام، والمفتين، والقضاة، وغيرهم، ممن رقى إلى رتبتهم من أهل العلم - في شهر رمضان بتونس، في عهد الدولة الحسينية ومن قبلها: من دروس في الحديث النبوي الشريف، يلقونها بالمساجد الجامعة بحضور أمير البلاد، على أقدارهم لا على قدره. وقد كانوا يتناولون فيها العويص من المسائل يتبارون في حل معاقدها واستكناه أسرارها. وهي ببلدنا سنة قديمة سبق إلى ذكرها ابن أبي دينار في كتابه المؤنس، وتوارثها الخلف عن السلف إلى أيامنا هذه. ولهذه الأختام في الحديث الشريف نظام ورسوم عرفت بها. محمد ابن الخوجة. تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد: 337 - 349.
(2)
هذه القاعدة العامة وردت بها أحاديث كثيرة، منها: حديث أبي سعيد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار في ديننا" وهو بمعنى النهي. حديث حسن، رواه جَه مسنداً عن ابن عباس في: 13 كتاب الأحكام، 17 باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/ 784، ع:234. ورواه بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً عن عبادة بن الصامت. والدارقطني عن أبي سعيد، وعن عائشة، وعن ابن عباس، 4/ 227 - 228، ع: 85، 83، 84.
وأخرجه الحاكم في المستدرك عنه في كتاب البيوع بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه". وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2/ 58.
وكذلك هو في كتاب آداب القاضي، باب ما لا يحتمل القسمة 10/ 133. وأخرج أحمد الحديث عن ابن عباس بلفظ:"لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره". حَم: 1/ 313. وعن عبادة بن الصامت من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه حَم: 5/ 327. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه. ورواه مالك مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأسقط أبا سعيد، في 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق طَ: 2/ 745، ع 31. وله طرق يقوّي بعضها بعضاً.
قال ابن عبد البر: لم يُختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا يسند من وجه صحيح. وقال أبو عمرو بن الصلاح: مجموع روايات هذا الحديث يقوّيه ويحسنه. وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به. وقال أبو داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها. انظر ابن رجب. جامع العلوم والحكم، الحديث: 32: 285 - 293. كما تشهد لهذا الحديث الأصول من حيث الجملة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لبادٍ. وقال: "دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض". كما نهى عن تلقّي الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق، ترجيحاً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ومن هذا القبيل تضمين الصناع. الشاطبي. الاعتصام: 2/ 119.
عمر بن عبد العزيز: "تحدُث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"(1) وقول مالك في الموطأ: "ودين الله يُسْرٌ"(2). وقوله أيضاً في ما جاء في الخطبة: "وتفسير قول رسول الله: "لا يخطب أحدكم على خِطبة أخيه" (3): أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه [ويتفقان على صداق
(1) انظر ابن أبي زيد. متن الرسالة: 83، باب في الأقضية والشهادات 245؛ الآبي. الثمر الداني: 605؛ ابن رشد. المقدمات: 2/ 309. وفي تغيّر الأحكام بتغير الأحوال أيضاً مقالة زياد بن أبيه لأهل البصرة: "قد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة". الحجوي. الفكر السامي (1) الربع الأول: 11= (2): 1/ 15.
(2)
مالك: 18 كتاب الصيام، 15 باب ما يفعل المريض في صيامه، 41. طَ: 1/ 302. وترجم خ لأحاديث في 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. وسيأتي في بقية الحديث عن التيسير والترغيب فيه: 190/ 6.
(3)
مالك: ما حدَّث به أبو هريرة وعبد الله بن عمر: 28 كتاب النكاح، باب ما جاء في الخطبة، ح 1. 2 طَ: 2/ 523؛ خ: 67 كتاب النكاح، 45 باب لا يخطب على خطبة أخيه خَ: 6/ 136. الشافعي. الرسالة: 307، ف 847، 848؛ الحديثان بصيغ مختلفة عند مسلم. باب كتاب النكاح، 6 باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، ح 49، 55، 51، 52، 54، 55، 56. مَ: 2/ 1032؛ انظر 6 كتاب النكاح، 18 باب في كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، ح 2080، 2081. دَ: 2/ 564 - 565؛ ورواه ت: 9 كتاب النكاح، 38 باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ح 1134. 3/ 440؛ جَه: 9 كتاب النكاح، 10 باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. 1/ 600؛ دَي: 11 كتاب النكاح، 7 باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، ح 2181 - 1282. 2/ 459 - 460.
وقد اختلف الفقهاء في محمل النهي: فبعضهم حمله على الحرمة وهم الأغلب، والبعض حمله على الكراهة. وقال العيني: النهي منسوخ بخطبة الشارع لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبي الجهم، وفقهاء =
واحد معلوم، وقد تراضيا. فهي تشترط عليه لنفسها. فتلك التي نهى أن يخطبها الرجلُ على خطبة أخيه]. ولم يعنِ بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمرُه [ولم تركن إليه] أن لا يخطبها أحد. فهذا باب فساد يدخل على الناس" (1).
ولَحِق بأولئك أفذاذ، أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع، مثل: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام المصري الشافعي في قواعده (2)، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المصري المالكي
= الأمصار على عدم النسخ. وفصّل ابن قدامة فيه القول تبعاً لاختلاف حال المخطوبة إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تسكن إلى الخاطب لها فتجيبه أو تأذن لوليِّها في إجابته. فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتُها لصريح الحديث، ولأن في ذلك إفساداً على الخاطب الأول وإيقاعاً للعداوة بين الناس. فوجب درء الفساد وهو المقصد الشرعي من المنع. ابن عاشور. كشف المغطى:245. ولا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم إلا أن قوماً حملوا النهي على الكراهة، والقول بالحرمة أولى.
والقسم الثاني: أن تردَّه أو لا تركنَ إليه. فهذه يجوز خِطبتها، لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس لأسامة بن زيد على خطبتي معاوية وأبي الجهم، أو لا يعلم موقفها من الخاطب الأول، كخطبة عمر بن الخطاب على خطبة جرير بن عبد الله ومروان بن الحكم، وعبد الله بن عمر الواحد تلو الآخر.
والقسم الثالث: أن يوجد من المرأة ما يدل على الرضا والسكون تعريضاً لا تصريحاً، وحكمه حكم القسم الأول. ومذهب الشافعي في الجديد إباحة خطبتها في هذه الحالة. ابن قدامة. المغني:(2) 9/ 567 - 569.
(1)
ط: 28 كتاب النكاح، 1 باب ما جاء في الخطبةح 2. 2/ 523 - 524.
(2)
هو أبو محمد العز عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السُّلَمي. سلطان العلماء 577 أو 578 - 660 هـ. أخذ عن الخُشوعي وعبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي والقاسم ابن عساكر وابن طبرزد وابن الحرستاني وغيرهم. وعنه ابن دقيق العيد والدمياطي واليونيني. تفقه بفخر =
في كتابه الفروق (1)؛ فلقد حاولا غير مرة تأسيس المقاصد الشرعية.
= الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول والعربية، ودرّس وأفتى وصنف. خرج له الدمياطي أربعين حديثاً من العوالي. له الغاية في اختصار النهاية في الفقه. والقواعد الكبرى وهو قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تكلم فيه على المصالح والمفاسد ووجوه المناسبات وما يقدم منها وما يؤخر عند التزاحم والتعارض، وجعل جماع القواعد الشرعية في جلب المصالح ودرء المفاسد. وله أيضاً: القواعد الصغرى، ومقاصد الرعاية. الكتبي. فوات الوفيات: 2/ 350، ع 287؛ السبكي. الطبقات: 8/ 209 - 255، 1183؛ ابن كثير. البداية والنهاية: 13/ 235 - 236؛ السيوطي. حُسن المحاضرة: 1/ 314 - 316؛ الذهبي. العبر: 5/ 260؛ أبو الفدا. المختصر: 3/ 215؛ ابن تغري بردي. النجوم الزاهرة: 7/ 208.
(1)
القرافي المصري الصنهاجي المالكي 626 - 682 أو 684 هـ بالقاهرة. وهو الفقيه الأصولي ذو الدراية بالعلوم العقلية والمعرفة بالتفسير. أخذ عن العز بن عبد السلام والشريف الكركي وأبي بكر المقدسي، وتخرج به جمع من الفضلاء، ودرس في الصالحية.
وله نفائس الكتب. منها: نفائس الأصول في شرح المحصول للرازي. والفروق والقواعد، وشرح التهذيب، وشرح الجلاب، والتعليقات على المنتخب، والأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على أهل الكتاب. والأمنية في درك النية، والاستغناء في أحكام الاستثناء. والإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام. واليواقيت في أحكام المواقيت. وشرح الأربعين في أصول الدين للرازي. والعقد المنظوم في الخصوص والعموم، والاعتماد في الانتقاد وغير ذلك.
وقد بث في ثنايا كتبه وخاصة في الفروق جملة لا بأس بها من مباحث المقاصد، وكان كثير الإشارة إلى وجوه المصالح والمفاسد يعتمدها في الترجيح بين ما قد يرى من القواعد والضوابط والمسائل متعارضاً، وكذلك في الكشف عن وجوه الجوامع والفوارق بينها. الصفدي. الوافي: 6/ 233، ع 2708؛ ابن فرحون. الديباج:(2) 1/ 236، ع 124.
والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي (1)، إذ عني بإبراز القسم الثاني من كتابه المسمى عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه (2)، وعنون ذلك القسم بـ كتاب المقاصد. ولكنه تطوَّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جِد الإفادة. فأنا أقتفي آثاره، ولا أهمل مهمّاتِه، ولكن لا أقصد نقله ولا اختصاره.
وإنّي قصدت في هذا الكتاب خصوصَ البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب، التي أرى أنها الجديرة بأن تخصَّ باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وتراجيحها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية، لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع (3).
(1) هو الإمام الشاطبي الغرناطي الأندلسي 790 هـ. أصولي مفسر وفقيه محدث، ونحوي لغوي. أخذ عن ابن الفخار الألبيري، وأبي القاسم السبتي، والشريف التلمساني، وأبي عبد الله المقري، وأبي سعيد بن لب، وابن مرزوق الجد، ومنصور الزواوي، وأبي عبد الله البلنسي، وأبي جعفر الشقوري، وأبي العباس القباب، وأبي عبد الله الحفار، وغيرهم. باحث القباب وابن عرفة. وعنه أبو يحيى بن عاصم، وأخوه أبو بكر، وأبو عبد الله البياني.
له المصنفات النفيسة منها: الموافقات، والاعتصام، والمجالس في شرح كتاب البيوع في صحيح البخاري، والمقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية. وعنوان الاتفاق في علم الاشتقاق. وأصل النحو، والإفادات والإنشادات وفتاوى كثيرة. التنبكتي. نيل الابتهاج على هامش الديباج لابن فرحون:(1) 46 - 50.
(2)
هو كتاب الموافقات.
(3)
وقد تعددت مناهج الأئمة في تتبع ذلك مع تفصيلهم القول في المقاصد، =
فمصطلحي إذا أَطلقتُ لفظ التشريع: أني أريد به ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادين لي.
كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة، ولها أسرار أخرى تتعلق بسياسة النفس وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع. لذلك قد اصطلحنا على تسميتها بنظام المجتمع الإسلامي، وقد خصصتها بتأليف سميته: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.
وفي هذا التخصيص نلاقي بعض الضيق في الاستعانة بمباحث الأئمة المتقدمين، لنضوب المنابع النابعة من كلام أئمة الفقه وأصوله
= وتمييزهم بين المقصد الكلي العام والمقصد الخاص لما شُرعت له بعض الأحكام، وبين المقصد الأصلي والمقصد التابع له الذي لا يستقل بنفسه، وبين المقصد القطعي والمقصد المظنون. وهي كلها مستنبطة من نصوص الشرع وإيماءاته وأماراته وتنبيهاته ووجوه المناسبات المعتبرة التي روعيت في الأحكام الجزئية.
وقد نبّه إلى ذلك علماء المقاصد كالعز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي، وعلماء الأصول كالآمدي في الإحكام، والغزالي في شفاء الغليل، والمستصفى، والفقهاء في مدوّناتهم في أكثر الأبواب عند بيانهم الأحكام الشرعية ووجوهها وذكرِ عللها. كما ذهبت طائفة أخرى من الدعاة وعلماء الأمة إلى تفصيل القول في حِكَم الأحكام، وأسرارها، وغاياتها، ومصالحها، وأغراضها، ومراميها، ومحاسن التشريع. وذلك ما نجده في مثل إحياء علوم الدين للغزالي وكتبه ورسائله الوعظية، وفي مجالس وعظ ابن الجوزي. ومحاسن الإسلام وشرائعه لمحمد بن عبد الرحمن البخاري، وكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكتاب تفصيل النشأتين ومحصل السعادتين للراغب الأصبهاني. ومفتاح دار السعادة، وقسم كبير من إعلام الموقعين لابن القيم. =
والجدل، إذ قد فرضوا جَمهرة جدلهم واستدلالهم وتعليلهم خاصةً بمسائل العبادات وبعض مسائل الحلال والحرام في البيوع. وتلك الأبواب غيرُ مجدية للباحث عن أسرار التشريع في أحكام المعاملات. فإنها وإن صلُحت للأصولي في تمثيل قواعده، وللجدلي في تركيب مناظراته، وللفقيه في مقدمات الأبواب الأولى من تأليفه حين يظهر عليه نشاط الإقبال، وقبل أن تعترضه السآمة والملال، فهي لا تصلح لصاحب فقه المعاملات. ولهذا تجَشّمتُ إيجاد أمثلة من المعاملات ونحوها، مما علق بذهني واعترضني في مطالعاتي. وقد أُضطَرُّ إلى الاستعانة بمُثُل من مسائل الديانة والعبادات، لما في تلك المثل من إيماء إلى مقصد عام للشارع أو إلى أفهام أئمة الشريعة في مراده.
وقد قسَّمت هذا الكتاب ثلاثةَ أقسام:
القسم الأول: في إثبات مقاصد الشريعة، واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها.
القسم الثاني: في المقاصد العامة من التشريع.
القسم الثالث: في المقاصد الخاصة بأنواع المعاملات المعبَّر عنها بأبواب فقه المعاملات.
مثال مما حذفه الإمام الأكبر من الطبعة الأولى بخطه وبقلمه قبل تقديم الكتاب إلى الطبع ثانية
مثال لما أضافه بخطه وبقلمه إلى نص كتابه في الطبعة الأولى