المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

أحسبك قد وثقت ممّا قرّرته لك آنفاً بأنّ للشريعة مقاصد من التشريع بأدلة حَصل لك العلمُ بها تَحقّق الغرض على وجه الإجمال. فتطلّعتَ الآن إلى معرفة الطرق التي نستطيع أن نبلغ بها إلى إثبات أعيان المقاصد الشرعية في مختلف التشريعات. وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصدٍ ما من تلك المقاصد استدلالًا يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقّهين سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه، فيكون ذلك باباً لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين.

فاعلم أننا لسنا بسبيل أن نستدل على إثبات المقاصد الشرعية المتنوّعة بالأدلة المتعارفة التي ألفنا الخوضَ فيها في علم أصول الفقه، وفي مسائل أدلة الفقه، وفي مسائل الخلاف، لأن وجود القطع والظن القريب منه بين تلك الأدلة مفقود أو نادر، لأن تلك الأدلة إن كانت من القرآن وهو متواتر اللفظ فمعظم أدلته ظواهر. وفي القرآن أدلة على مقاصد الشريعة قريبة من النصوص سنذكرها في تقسيمها الآتي. وإن كانت الأدلة من السنة فهي كلها أخبار آحاد، وهي لا تفيد القطع ولا الظن القريب منه (1). ولذلك قد كان القرآن بين يدي جميع المجتهدين فلم

(1) يريد بالأدلة أكثرها كما هو معلوم. وهي الأدلة على المقاصد المراد استنباطها لا على الأحكام. ومن المعلوم أن أخبار الآحاد قد اعتمدها جمهور الفقهاء، =

ص: 52

يتّفقوا على الأحكام التي استنبطوها منه، ولو مع ظهور بعضها دون الآخر. فقد قال الله تعالى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (1) قال مالك في الموطأ: "هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته"(2)، أي لأنهما اللذان يعقدان نكاح ولاياهما. وقال الشافعي:"هو الزوج"(3)

= إذا صحت، في استنباط الأحكام. وما صرّح به المؤلف في هذا المحل يؤكّده قولُه بعد: على أننا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظن. وإنما أردت أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل في تلك القواعد هو ما نسميه مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه. المقاصد: 142 - 143. ولم يقف المؤلف في الواقع عند هذا الحد الذي جارى فيه الأصوليين، بل أخذ في تحديد المقاصد الشرعية بالسنة الموافقة للقرآن والمؤكّدة له، وبالسنة المبيّنة للقرآن، وبالسنة المستقلة؛ كالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. وقد أورد من نصوص السنة في بيان المقاصد الشرعية في كتابه ما لا يحتاج إلى تنبيه أو إحالة. وكما بينت السنة مقاصد الأحكام الجزئية الواردة في القرآن، بينت مقاصد كلية مستخرجة من جملة نصوص القرآن، مثل:"لا ضرر ولا ضرار".

وقد أكد الشاطبي على هذه الحقيقة في قوله: "وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن والسنة فلم يتخلّف عنها شيء. والاستقراء يبيّن ذلك. ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصّوا عليه حسب ما تقدم عن بعضهم فيه

". الشاطبي. الموافقات: (3) 4/ 29.

(1)

البقرة: 237.

(2)

انظر: 28 كتاب النكاح، 3 باب ما جاء في الصداق والحباء، عقب ح 11 في آخر الباب. طَ: 2/ 528.

(3)

مذهب مالك في الذي بيده عقدة النكاح الأب في ابنته، والسيد في أمته كما تقدم، لأن هذين يعقدان لهما بدون إذن، كما يدل عليه قوله:"بيده"، الدال في كلام العرب على أنه مستقل به. ولا يصح أن يكون المراد به =

ص: 53

وجعل معنى كون عقدة النكاح بيده: أن بيده حلّها بالطلاق.

فعلينا أن نرسم طرائق الاستدلال على مقاصد الشريعة بما بلغنا إليه بالتأمل، وبالرجوع إلى كلام أساطين العلماء.

ويجب أن يكون الرائدُ الأعظم للفقيه في هذا المسلك هو الإنصافَ، ونبذَ التعصب لبادئ الرأي، أو لسابق الاجتهاد، أو لقول إمام، أو أستاذ. فلا يكون حال الفقيه في هذا العلم كحال صاحب ابن عرفة (1) الذي قال في حق ابن عرفة: "ما خالفته في حياته فلا

= الزوج. وحملُ العفو على التكميل بعيدٌ كما يؤذِن بذلك كلام الزمخشري. ابن عاشور. كشف المغطى: 245 - 246.

وذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى أنه الزوج، وهو المصرّح به في الجديد. ومعنى قوله: بيده عقدة النكاح، أي: بيده التصرف فيها بالإبقاء والفسخ بالطلاق. ومعنى عفوه تكميله، أي: إعطاؤه كاملاً، قاله ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 464.

وفي الجامع لأحكام القرآن شاهد لجعل ولي عقدة النكاح الزوج؛ فقد روى الدارقطني مرفوعاً من حديث قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وليُّ عقدة النكاح الزوج". وأسنده من طرق أخرى. ثم قال: واختاره أبو حنيفة. ثم قال: وكلهم لا يرى سبيلاً للولي على شيء من صداقها، للإجماع على أنَّ الوليّ لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز، فكذلك بعده. والولي لا يملك أن يهب شيئاً من مالها، والمهرُ مالُها، وإن من الأولياء من لا يجوّز عفوهم، وهم: بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب. القرطبي. الجامع: 3/ 206 - 207.

(1)

هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عَرفة. أصله من وِرْغِمَةَ بالجنوب التونسي 716 - 803 هـ. الإمام الفقيه المالكي. أخذ عن محمد بن سلامة، ومحمد بن عبد السلام، ومحمد بن هارون، والسطي، ومحمد بن الجلاب، وابن قداح، ومحمد بن حسين الزبيدي، ومحمد الأجمي، =

ص: 54

أخالفه بعد وفاته" (1)، بحيث إذا انتظم الدليلُ على إثبات مقصد شرعي وجب على المتجادلين فيه أن يستقبلوا قبلة الإنصاف، وينبذوا الاحتمالات الضعاف.

= ومحمد الواد آشي، والشريف التلمساني؛ وعنه البرزلي، والأبيّ، وابن ناجي، وابن عقاب، وأحمد ومحمد ابنا القلشاني، وابن الخطيب القسنطيني، وعيسى الغبريني، والزنديوي، وابن علوان، والزعبي، والوانوغي، وابن الشماع، وابن مرزوق الحفيد، والدماميني، وابن فرحون، وابن عمار. تولّى إمامة جامع الزيتونة بتونس سنة 756 هـ، والخطبة به سنة 772 هـ، وتولى بهذا الجامع تدريس مختلف العلوم وبخاصة التفسير والفقه. وحج، وأخذ عنه مصريون ومدنيون. وله مصنفات كثيرة منها: المختصر في الفقه ويعرف بـ المبسوط، والمختصر في أصول الدين، ومختصر في المنطق، ومختصر في الفرائض، والحدود الفقهية. وأكثرها عليه شروح من معاصريه، ومن جاء بعدهم. ومن تآليفه: نظم قراءة يعقوب، وتساعيات في الحديث، ونظم تكلمة القصد لخلف بن شريح. وتقييد في تحقيق القول في الجهة والسمت. السراج. الحلل السندسية: 1/ 561 - 577؛ مخلوف. شجرة النور الزكية: 1/ 227، 817؛ محمد النيفر. عنوان الأريب: 1/ 105؛ حسن حسني عبد الوهاب. كتاب العُمر: 1/ 2، 762، 213.

(1)

قائل هذا هو عيسى الغبريني، أحد تلامذة الشيخ محمد بن عرفة، في نازلة أخ قبض عن أخته ريعاً مشتركاً بينهما وادعى أنه دفع لها حظها منه. اهـ. تعليق ابن عاشور.

والغبريني: هذا هو أبو مهدي عيسى بن أحمد. قاضي الجماعة بتونس 813 - 815 هـ. حافظ للمذهب. أخذ عن ابن عرفة. وعنه أبو زيد الثعالبي، وابن ناجي، وأحمد وعمر القلشانيان، والبسيلي، وابن عقيقة، والزنديوي، وأبو القاسم القسنطيني، وأبو الحسن بن عصفور. القرافي. توشيح الديباج: 138، ع 135؛ السراج. الحلل السندسية: 1/ 594 - 596.

ص: 55

الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين:

أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللُها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة، فإن باستقراء العلل حصولَ العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متّحدة أمكن أن نستخلص منها حكمةً واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يُستَنتج من استقراء الجزئيات تحصيلُ مفهوم كلّي حسب قواعد المنطق.

مثاله: أننا إذا علمنا علّة النهي عن المزابنة الثابتة بمسلك الإيماء في قول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع التمر بالرطب:"أينقص الرُّطَبُ إذا جفّ؟ " قال: نعم، قال:"فلا إذن"(1). فحصل لنا أنّ علة تحريم المزابنة، هي: الجهل بمقدار أحد العوضين، وهو الرُّطَب منهما المبيعُ باليابس.

وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل (2)، وعلمنا أن

(1) انظر 31 كتاب البيوع، 12 باب ما يكره من بيع التمر، ح 22 طَ: 2/ 624؛ الشافعي. الرسالة: 331 - 332، ف 7 في 17 كتاب البيوع والإجارات، 18 باب في التمر بالتمر، ح 3359. حَـ: 3/ 654؛ وفي 12 كتاب البيوع، 14 باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1225؛ تَ: 3/ 528؛ وفي 44 كتاب البيوع، 36 باب اشتراء التمر بالرطب، ح 4542. نَ: 7/ 268؛ وفي 12 كتاب التجارات، 53 باب بيع الرطب بالتمر، ح 2264؛ جَه: 2/ 761.

(2)

يعني أنه لا يجوز بيع جزاف مع مكيل في صفقة واحدة إلا أن يأتي كل منهما على أصله، كقطعة أرض جزافاً، وإردب قمح بكذا، لأن الأصل =

ص: 56

علّته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة.

وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن، وعلمنا أن علّته نفي الخديعة بين الأُمة بنصّ قول الرسول، عليه السلام، للرجل - الذي قال له: إني أخدع في البيوع -: "إذا بايعتَ فقُل لا خِلابة"(1).

إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصداً واحداً، وهو: إبطال الغرر في المعاوضات. فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن، أو مثمن أو أجل فهو تعاوض باطل.

ومثال آخر: وهو أننا نعلم النهيَ عن أن يخطب المسلم على

= في بيع الأرض الجزاف، والأصل في بيع الحب الكيل. أما بيع جزاف حب مع مكيل منه، أو جزاف أرض مع مكيل منها فلا يجوز، سواء كان من جنسه أو لا؛ لخروج أحدهما عن الأصل. الدسوقي. حاشية الشرح الكبير: 3/ 23. محمد الشيباني الشنقيطي. تبيين المسالك: 3/ 296.

(1)

انظر 31 كتاب البيوع، 46 باب جامع البيوع، ح 98 طَ: 2/ 685؛ 34 كتاب البيوع، 48 باب ما يكره في الخداع في البيع خَ: 3/ 19؛ 43 كتاب الاستقراض، 19 باب ما ينهى عن إضاعة المال، ح 1، خَ: 3/ 87؛ 44 كتاب الخصومات، 3 باب من باع على الضعيف ونحوه، ح 2، خَ: 3/ 89؛ 90 كتاب الحيل، 7 باب ما ينهى من الخداع في البيوع، خ: 7/ 61؛ 21 كتاب البيوع، 12 باب من يخدع في البيع، ح 48، مَ: 2/ 1165؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 68 باب الرجل يقول في البيع لا خلابة دَ: 3/ 765 - 767؛ 12 كتاب البيوع، 28 باب فيمن يخدع في البيع، ح 1250، تَ: 3/ 552؛ 44 كتاب البيوع، 13 باب الخديعة في البيع، 46، نَ: 7/ 252؛ 13 كتاب الأحكام، 24 باب الحجر على من يفسد ماله، ح 2354 جَه: 2/ 389؛ حَم: 2/ 72، 80، 129 - 130.

ص: 57

خِطبة مسلم آخر (1)، والنهيَ عن أن يسوم على سومه (2)، ونعلم أن

(1) تقدم 26/ 2.

(2)

34 كتاب البيوع، 58 باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك خَ: 3/ 24؛ 16 كتاب النكاح، 4 باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، ح 38، 6 باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وفيه النهي عن البيع على بيع أخيه والسوم على سومه، أحاديث أبي هريرة، ح 51، 54، 55. مَ: 2/ 1029، 1033؛ وفي 21 كتاب البيوع، 4 باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه، ح 9. مَ: 1154؛ 12 كتاب البيوع، 57 باب ما جاء في النهي عن البيع على بيع أخيه، ح 1292. تَ: 3/ 587؛ 12 كتاب التجارات، 13 باب لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يسوم على سومه، ح 2171، 2182. جَه: 2/ 733 - 734؛ حَم: 2/ 394، 411، 427، 457، 463، 487، 489، 508، 512، 516، 529.

وفقه هذا الحديث تحريم البيع على البيع والشراء على الشراء بإجماع. وذلك بأن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد. وفصّل ابن حجر الكلام في السوم على السوم قائلاً: وصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له: ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك: استردَّه لأشتريه منك بأكثر. ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر. فإن كان ذلك صريحاً فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهراً ففيه وجهان للشافعية. ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك. وتُعُقّب بانه لا بد من أمر مبيّن لموضع التحريم في السوم، لأن السوم في السلة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقاً. واستثنى بعض الشافعية من تحريم البيع والسوم على الآخر ما إذا لم يكن المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً. وهو قول ابن حزم. وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله. وفي القول بفساده روايتان عند المالكية والحنابلة، وبفساده جزم أهل الظاهر. ابن حجر. الفتح: 4/ 353 - 354.

ص: 58

علّة ذلك هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة، فنستخلص من ذلك مقصداً هو: دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم بعد السوم، إذا كان الخاطبُ الأول والسائمُ الأول قد أعرضا عما رغبا فيه.

النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علّة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلّة مقصدٌ مرادٌ للشارع.

مثاله: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه (1)، علته طلب رواج الطعام في الأسواق.

(1) لحديث ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه"، وحديث ابن عمر:"مَن ابتاع طعاماً فلا يَبِعه حتى يقبضه": انظر 34 كتاب البيوع، 54 باب ما يذكر في بيع الطعامَ والحكرة، ح 2، 55 باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك خَ: 3/ 22، 23؛ 21 كتاب البيوع، 8 باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح 30، 35، 36، مَ: 2/ 1160 - 1161؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 67 باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، ح3492. دَ: 3/ 760 وما بعدها؛ 44 كتاب البيوع، 56 باب النهي عما اشتري من الطعام بكيل حتى يستوفي نَ: 7/ 286؛ 12 كتاب التجارات، 37 باب النهي عن بيع الطعام قبل ما لم يقبض جَه: 2/ 749 - 750.

فلا خلاف بين الأئمة في منع بيع الطعام قبل قبضه. وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر. النووي. المجموع: 9/ 270 - 271.

وشذّ عثمان البتي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة، والحجّة المجمعة على النهي في الطعام، ومثل هذا لا يلتفت إليه.

واختلفوا في غير الطعام: فمذهب مالك جوازُ البيع قبل قبضه في غير =

ص: 59

والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئةً (1) إذا حمل على إطلاقه

= الطعام لظاهر الحديثين. ومذهب الشافعي منع بيع أي شيء قبل قبضه طعاماً كان أو غيره، فلا يختص النهي بالطعام، لقول ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ولحديث زيد بن ثابت:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه إلا في الأرض والدور. فاستثنى العقار وما لا ينقل لأنه لا يتوهم انفساخ العقد فيهما بالهلاك وهما مقدورا التسليم. وقال أحمد: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون والمعدود ونحوه. فمن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه. انظر ابن حجر. الفتح: 4/ 349 - 350؛ ابن قدامة. المغني: (2) 6/ 188 - 191؛ الموسوعة الفقهية: 9/ 123 - 137؛ الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 345.

(1)

النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة هو مقتضى حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء به التنصيص على الأصناف الستة الربوية. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل يدًا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء".

وقد فصّل الفقهاء القول في تحريم النَّساء في الطعام، وذكر ذلك الدسوقي. وقال ابن شاس: أما الجنس الأول وهو: ربا النَّساء، فعلّة تحريمه ووجوب التقابض الطعم، فتتطلب المناجزة في كل ما يطلق عليه اسم طعام، ربوياً كان أو غير ربوي. ويدخل في ذلك رطب الفواكه والخضر والبقول. وإذا تقرر تعلق الحكم بالطعام لم يعمّ بسائر ما يتطعم غذاء كان أو دواء بل يخصّ منه الغذاء دون الدواء. حاشية الشرح الكبير: 3/ 47؛ ابن شاس. عقد الجواهر الثمينة: 2/ 352؛ وجاء في التحفة قول ابن عاصم:

والبيع للطعام بالطعام

دون تناجز من الحرام

انظر التسولي. البهجة في شرح التحفة: 2/ 24. ويزيد كلام المؤلف بياناً =

ص: 60

عند الجمهور، علّتهُ أن لا يبقى الطعامُ في الذمة فيفوت رواجه.

والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً: "من احتكر طعاماً فهو خاطئ"(1)، علته إقلال الطعام من الأسواق.

فبهذا الاستقراء يحصل العلمُ بأن رواج الطعام وتيسيرَ تناوله مقصد من مقاصد الشريعة. فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلالَ إنما يكون بصور من المعاوضات، إذ الناس لا يتركون التبايع. فما عدا المعاوضات لا يُخشى معه عدم رواج الطعام. ولذلك قلنا: تجوز الشركة والتولية والإقالة في الطعام قبل قبضه. ومن هذا القبيل كثرة الأمر بعتق الرقاب الذي دلَّنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية.

= لعلّة تحريم بيع الطعام بالطعام نسيئة عند الجمهور قولُ ابن القيم: وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها، لأنها أقوات العالم وما يصلحها. فمن رعاية مصالح العباد أن مُنعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف

وسر ذلك - والله أعلم - أنه لو جوّز بيع بعضها ببعض نَساءً لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتدّ ضرره

فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان. ابن القيم. إعلام الموقعين: (4) 2/ 157. ط. ابن شقرون. إبريل 1968.

(1)

أي آثم. اهـ. تعليق ابن عاشور. وقد ورد الحديث بلفظ: "من احتكر - أي: الطعام - فهو خاطئ - أي: آثم - ولا يحتكر إلا خاطئ". انظر 22 كتاب المساقاة، 26 باب تحريم الاحتكار في الأقوات، 129، 130. مَ: 2/ 1227.

ص: 61

الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحةُ الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يَشُك في المراد منها إلّا من شاء أن يُدخِل على نفسه شكًّا لا يعتدّ به. ألا ترى أنا نجزم بأن معنى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (1): أن الله أوجبه. ولو قال أحد: إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأً من القول. فالقرآن لكونه متواترَ اللفظ قطعيَّهُ يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكونه ظنّيّ الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثانٍ إليها.

فإذا انضمَّ إلى قطعيّة المتن قوّة ظَنّ الدلالة تَسَنّى لنا أخذُ مقصد شرعي منه يرفع الخلافَ عند الجدل في الفقه، مثل ما يؤخذ من قوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2)، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3)، وقوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4)، وقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (5)، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (7). ففي كلّ آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد.

(1) البقرة: 183.

(2)

البقرة: 205.

(3)

النساء: 29.

(4)

الأنعام: 164؛ الإسراء: 15، فاطر:18.

(5)

المائدة: 91.

(6)

البقرة: 185.

(7)

الحج: 78.

ص: 62

الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلّا في حالين:

الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملًا من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسمُ المعلوم من الدين بالضرورة، وقسمُ العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، لمثل مشروعية الصدقة الجارية المعبَّر عن بعضها بالحُبُس. وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحُبُس، ويقول أن لا حَبس عن فرائض الله. فقال مالك:"رحم الله شريحاً تكلّم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يَرِد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدَهم وما حبَّسوا من أموالهم [لا يطعن فيها طاعن]، وهذه صدقات رسول الله سبعةُ حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً"(1) اهـ. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة.

الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً. ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: "كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلي وخلّى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس.

(1) ابن رشد. المقدمات: 2/ 417 - 418.

ص: 63

فأقبل فقال: ما عنّفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إن منزلي متراخٍ، فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلي إلى الليل. وذكر أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره" (1). فمشاهدته أفعال رسول الله عليه السلام المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير. فرأى أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشّم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً. فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظناً قريباً من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره - الذين يَرْوي إليهم خبرهُ - مقصد محتمل، لأنه يُتلقّى منه على وجه التقليد وحسن الظن به.

ولقد جاء الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار (2) قال: "بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصوداً له؟ والجواب: أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يُعَرِّفُنا به. وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.

(1) انظر 31 كتاب العمل في الصلاة، 11 باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة. ح 1. خَ: 2/ 61 - 62.

(2)

انظر ص 247 - [251] ج 2 من الموافقات، طبع بتونس. اهـ. تع ابن عاشور فصل بيان الجهات التي تعرف بها مقاصد الشارع على الحد الأوسط. الشاطبي. (2) 2/ 273 - 279 = (3) 2/ 391 - 397 = (4) 3/ 132.

ص: 64

الثاني: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمرٌ آخرُ وراءه. ويطّرد ذلك في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية.

الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمَّه أكثر العلماء.

فنقول: إن مقصد الشارع يعرف من جهات:

إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي. فإن الأمر كان أمراً لاقتضائه الفعلَ، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف.

الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع.

الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استُقرئ من المنصوص. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع". انتهى حاصل كلامه.

ص: 65