الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يو - سد الذرائع
(1)
هذا المركب لقب في اصطلاح الفقهاء لإبطال الأعمال التي تؤول إلى فساد معتبر، وهي في ذاتها لا مفسدة فيها. قال المازري (2) في شرح التلقين لعبد الوهاب (3):"سدّ الذريعة: منع ما يجوز لئلا يُتَطرَّق به إلى ما لا يجوز"(4) *.
(1) الذرائع: جمع ذريعة. وهي في الأصل: دابة تشد في موضع ليأوي إليها البعير الشارد، لأنه كان يألفها قبل شروده. فإذا رآها اقترب منها فأمسكوه. اهـ. تع ابن عاشور.
(2)
تقدم: ص 19/ 1.
(3)
هو القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي. الحافظ الحجة النظار 363 - 421. أخذ عن الأبهري، وتفقه بابن القصار وابن الجلاب والباقلاني وعبد الملك المرواني. وتفقه به ابن عمروس وعبد الحق بن هارون وابن الشماع والمازري. له: المختصر لمذهب مالك، والمعونة، وشرح الرسالة، والممهد، والتلقين، وشرح المدونة، والإشراف. وهو من عناه المعري بقوله عند زيارته للمعرة:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
…
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً
…
وينشر الملك الضليلَ إن شعرا
مخلوف: 1/ 103 - 104، ع 266.
(4)
* في طالع باب بيوع الآجال. اهـ. تع ابن عاشور.
[وعبارة المازري: فالجواب عن السؤال الأول أن يقال إن حقيقة الذريعة عند الفقهاء أنها منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز
…
وقال =
ولهذا المبحث تعلق قوي بمبحث التحيّل، إلَّا أن التحيّل يُراد منه أعمال يأتيها بعض الناس في خاصة أحواله، للتخلّص من حقّ شرعي عليه بصورة هي أيضاً معتبرةٌ شرعاً حتى يظن أنه جارٍ على حكم الشرع. وأما الذرائع فهي ما يفضي إلى فساد سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا، وذلك في الأحوال العامة.
فحصل الفرق بين الذرائع وبين الحيل من جهتين: جهة العموم والخصوص، وجهة القصد وعدمه.
وأيضاً الحيلُ المبحوث عنها لا تكون إلَّا مُبطلةً لمقصد شرعي، والذرائع قد تكون مبطلة لمقصد الشارع من الصلاح، وقد لا تكون مبطلة كما سنبيّنه في تقسيمها. فهذا فرق ثالث.
واعلم أن إفضاء الأمور الصالحة إلى مفاسد شيء شائع في كثير من الأعمال، بل ربما كان ذلك الإفضاء إلى الفساد غير حاصل إلَّا عند كمال الأمور الصالحة. مثل النار فإن حالة كمالها، وهو اشتعالها الذي به صلاح الموقدين، هي حالة إفضائها إلى مفسدة الإحراق. فاعتبار الشريعة بسد الذرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدة المآل على مصلحة الأصل. فهذه هي الذريعة الواجب سدُّها.
وقد قسم شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع والتسعين والمائة ذريعةَ الفساد إلى ثلاثة أقسام:
- مُجمَع على عدم سدّه، مثل زراعة العنب خشية ما يعتصر منه من الخمر، ومثل التجاور في البيوت خشية الزنا.
= بعده: وهي حماية الذريعة إلى أن يتطرق بالحلال إلى الحرام. مخط. الوزير المدينة: 2/ 373 - 374].
- ومجمعٌ على سدّه، كحفر الآبار في طريق المارة دون سياج.
- ومختلف فيه، مثل بيوع الآجال (1).
ولم يبحث عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض. وما هو عندي إلَّا التوازنُ بين ما في الفعل - الذي هو ذريعةٌ - من المصلحة وما في مآله من المفسدة، فترجع إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد. وقد قدمناها في مبحث المقصد العام من التشريع (2). فما وقع منعُه من الذرائع قد عظم فيه فساد مآله على صلاح أصله، مثل حفر الآبار في الطرقات. وما لم يقع منه قد غَلَب صلاح أصله على فساد مآله كزراعة العنب، على أن في احتياج الأمة إلى تلك الذريعة بقطع النظر عن مآلها، وفي إمكان حصول مآلها بوسيلة أخرى، وعدم إمكانه، أثراً قوياً في سدّ بعض الذرائع وعدم سد بعضها. ولا يظنّ أن المراد باحتياج الأمة إلى الذريعة اضطرارُها إلى وجودها، بل المراد به أنه لو أبطل ذلك الفعل الذي هو ذريعة لحق جمهوراً من الناس حرجٌ. فإن العنب تستطيع الأمة أن تستغني عنه إلا أن في تكليفها ذلك حرماناً لا يناسب سماحة الشريعة. فكانت إباحة زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجحَ مما تؤول إليه من اعتصار نتائجها خمراً، بخلاف التجاور في البيوت فإنه لو مُنع لكان منعه حرجاً عظيماً يقرب مما لا يطاق. فهو حاجي قوي للأمة، على أن ما يؤول إليه من الزنا مثال بعيد، وإن كانت مفسدته أشدَّ من تناول الخمر.
فمقصد سد الذرائع مقصد تشريعي عظيم استفيد من استقراء
(1) القرافي. الفرق 194 بين قاعدة ما يسدّ من الذرائع وقاعدة ما لا يسدّ منها. الفروق: 3/ 266؛ وانظر 2/ 32.
(2)
تقدم: 243 - 255.
تصرّفات الشريعة في تشاريع أحكامها، وفي سياسة تصرّفاتها مع الأمم، وفي تنفيذ مقاصدها. فله في الشريعة ثلاثة مظاهر.
وقد تأمّلنا فوجدنا الذريعة على قسمين:
قسم لا يفارقه كونه ذريعة إلى فساد بحيث يكون مآله إلى الفساد مطرداً، أي بحيث يكون الفساد من خاصة ماهيته، وهذا القسم من أصول التشريع في الشريعة. وعليه بنيت أحكام كثيرة منصوصة، مثل تحريم الخمر.
وقسم قد يتخلّف مآله إلى فساد تخلفاً قليلاً أو كثيراً. وهذا القسم بعضه كان سبباً للتشريع المنصوص، مثل منع بيع الطعام قبل قبضه، وبعضه لم يحدث موجبه في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت أنظار الفقهاء فيه من بعده متخالفة. فربّما اتفقوا على حكمه، وربّما اختلفوا، وذلك تابع لمقدار اتضاح الإفضاء إلى المفسدة وخفائه، وكثرته وقلّته، ووجود معارض ما يقتضي إلغاء المفسدة وعدم المعارض، وتوقيت ذلك الإفضاء ودوامه.
والقسم الأول أصل القياس في هذا الباب. والقسم الثاني يتجلَّى فيه القياس ويخفى، بحسب ما يرى الفقيه من قربه من الأصل المقيس عليه وبعده. فيرجع مراعاة هذه الذرائع إلى حفظ المصالح ودرء المفاسد، مثاله بيوع الآجال التي لها صور كثيرة. قال مالك بمنعها لتذرعّ الناس بها كثيراً إلى إحلال معاملات الربا التي هي مفسدة (1). فرأى مالك أن قصد الناس إلى ذلك أفضى إلى
(1) قال القاضي عبد الوهاب: وقد دلت السنة على أن تحريم ما صيّر إلى الحرام كتحريم قصده. وفي حديث ابن رشد عن سد الذرائع مقارنة بين المذاهب في اعتماد هذه القاعدة وإعمالها. قال: وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة =
شيوعها وانتشارها، فحصلت بها المفسدة التي لأجلها حرّم الربا. فذلك هو وجه اعتداد مالك بالتهمة فيها، إذ ليس لقصد الناس تأثير في التشريع، لولا أن ذلك إذا فشا صار القصد - مآل الفعل - هو مقصوداً للناس فاستحلوا به ما منع عليهم.
ولم أر من فهم هذا المعنى من نكت مالك، حتى أن بعض حذاق الفقهاء يقول: إذا كان المنع منها لأجل التهمة كان حقاً أن لا يمنع ما صدر منها عن أهل الدين والفضل. كما أشار إليه القرافي في الفرق الرابع والتسعين والمائة (1)، وليس كما ظن. فإن المقاصد لا تأثير لها في اختلاف التشريع، وإنما جعلت علامةً على التمالي على إحلال المفسدة الممنوعة. ألا ترى أن المقصد لا يؤثر في غير هذه الأحوال. فإن كانت عادته المعاملة بالربا في الجاهلية فأسلم فحوّل معاملته إلى السَّلَم لم يكن في فعله منع، لأنه وإن كان قد استبدل أرباحه من الربا بأرباحه من السَّلَم قد سلِمت معاملتُه من المفسدة التي تشتمل عليها معاملات الربا وحرمت لأجلها، واشتملت معاملته على المصلحة التي لأجلها أبيح السَّلَم. وليست الشريعة نكاية
= وأصحابهما. والصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ومن قال بقوله، لأن ما صيّر إلى الحرام وتطرّق به إليه حرام مثله. المقدمات: 2/ 524.
وفي مقدمة الذخيرة: وثالثها - يعني القسم الثالث من الذرائع - مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا، وحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا. القرافي. الذخيرة:(1) 1/ 145 = (2) 1/ 152 - 153؛ التنقيح: 448 - 449؛ الفروق: 2/ 32 وما بعدها.
(1)
القرافي. التنبيه الذي ذيل به الفرق بين قاعدة ما يسدّ من الذرائع وقاعدة ما لا يسدّ منها، الفروق: 3/ 268.
كما قدمناه حتى تحرمه من ربحه الجاري على الطريقة المشروعة لأجل مقصده. فيظهر لنا أن سَد الذرائع قابل للتضييق والتوسع في اعتباره بحسب ضعف الوازع في الناس وقوته، كما سيأتي في مبحث الوازع (1).
ولولا أن لقب سدَّ الذرائع قد جعل لقباً لخصوص سدّ ذرائع الفساد كما علمت آنفاً، لقلنا: إنّ الشريعة كما سدّت الذرائعَ فتحت ذرائعَ أخرى، كما قال شهاب الدين القرافي في كتاب تنقيح الفصول (2).
فأما وقد درجنا على أن اصطلاحهم في سدّ الذرائع أنه لقب خاص بذرائع الفساد فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها، بأن جعلت لها حُكْمَ الوجوب، وإن كانت صورتُها مقتضيةً المنعَ أو الإباحة. وهذه المسألة هي الملقَّبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلَّا به هو واجب. وهي الملقّبة في الفقه بالاحتياط. ألا ترى أن الجهاد في صورته مفسدةُ إتلاف النفوس والأموال، وهو آيل إلى حماية البيضة وحفظ سلامة الأمة وبقائها في أمن. فكان من أعظم الواجبات، إذ لو تركوه لأعقبهم تركه تلفاً أعظم بكثير مما يُتْلِفُهم الجهاد. وهذه جزئية من جزئيات قاعدة تقسيم الأعمال إلى وسائل ومقاصد. وسنذكرها في القسم الثالث (3)، فلا ينبغي أن يختلط المبحثان على الناظر.
وممّا يجب التنبّه له في التفقّه والاجتهاد التفرقةُ بين الغلو في
(1) انظر: 362 وما بعدها.
(2)
انظر التنقيح: 448 - 449.
(3)
انظر: 399 وما بعدها.
الدين وبين سدّ الذريعة، وهي تفرقةٌ دقيقة. فسدُّ الذريعة موقعُه وجودُ المفسدة، والغلوُّ موقعُه المبالغة والإغراق في إلحاق مباح بمأمور أو منهي شرعي، أو في إتيان عمل شرعي بأشدَّ مما أراد به الشارع، بدعوى خَشية التقصير عن مراد الشارع. وهو المسمى في السّنة بالتّعمق والتنطّع (1). وفيه مراتب، منها: ما يدخل في الورع (2) * في خاصة النفس الذي بعضُه إحراجٌ لها، أو الورع في حمل الناس على
(1) هما بمعنى المغالاة في الكلام والتكلم بأقصى الحلق. وفي زبدة شرح الشفاء: وصف للخائضين فيما لا يعني، وقيل: هم المتكلفون للبحث عن مذاهب أهل الكلام الخائضون فيما لا يبلغ عقولهم. ونعى الطيبي في شرح المشكاة على أهل اللسان ما يرومونه من سبي قلوب الرجال بسبك الكلام. وفي الحديث: "لن تزالوا بخير ما عجلتم الفطر، ولم تنطّعوا تنطّع أهل العراق"، أي تتكلفوا القول والفعل. ومنه:"إياكم والتنطع والاختلاف" أراد النهي عن الملاحاة في القراءات المختلفة. وقال النووي في شرح مسلم: نطع: أي بسط. محمد طاهر الصديقي الجراتي. مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، مادة نطع: 4/ 724 اللسان.
(2)
* الورع: يرجع إلى طلب حصول اليقين مما نحن مكلفون فيه بالظن، مثل التحري في رسم القبلة بالقواعد الفلكية التي لم نُكَلَّف بها، واستمرار الإمساك في رمضان حصة بعد الغروب لتقوية التحقق للغروب، وكذلك ابتداء الإمساك فيه زماناً قبل الفجر، وأعظم منه تجنب السواك للصائم. وصوم يوم الفطر إذا ثبت الشهر برؤية الهلال عند الغروب إذا كان قد رأوه صباحاً وقت الفجر.
ومنه ما يدخل في الوسوسة مثل المبالغة في صب الماء عند الغسل والوضوء. ومنه إلحاق مباح بمأمور ومنهي. فذلك من عمل بعض المجتهدين نادراً مثل القول ببطلان صلاة من مرّ حمار بين يديه، ومثال إتيان عمل شرعي بأشد مما أراده الشارع، كصوم المريض المتعب. اهـ. تع ابن عاشور.
الحرجِ، ومنها ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة.
ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنّبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة، وما يُسنُّ لها من ذلك. وهو موقف عظيم.