الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كد - واجب الاجتهاد
من أجل هذا كانت الأمة الإِسلامية بحاجة إلى علماء أهلِ نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكّن من معرفة مقاصدها، وخبرةٍ بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرةٍ على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها.
ولقد هدانا الله إلى هذا بما أمر به من الاعتبار في أدلة الشريعة، وبذل الجهد في استجلاء مراده. حصل لنا ذلك من استقراء آيات كثيرة من الكتاب، وأخبار صحيحة من السنة. وقد ذمَّ أمماً في وقوفهم عند الظواهر وإعراضهم عن النظر والاستنباط. كما في قوله تعالى في توبيخ بني إسرائيل:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (1).
فدلّت على أنهم لم يؤخذ عليهم الميثاق أن لا يأخذوا الفدية من أسرى قومهم، لأن ذلك لا يتصوّر وقوعُه مباشرة، وإنّما أخذ عليهم أن لا يخرجوهم من ديارهم لأن ذلك قد تدعو إليه المغاضبة
(1) البقرة: 84 - 85.
والمعاقبة. فلمَّا عصَوا الأمر وأخرجوا بعضَ قومهم، ثم عاملوهم معاملة الأمم العدوة، فحاربوهم وأسروهم ولم يطلقوهم إلَّا بعد أن أخذوا عليهم الفداء، نعى عليهم ذلك لأن المفاداة تقتضي أنهم اعتبروهم غرباء في أوطانهم، أرقاء عندهم، حتى يفدوا أنفسهم فيقروهم.
وذم أيضاً الذين أخذوا يسألون التوقيف في حكم كل مسألة كما جاء في قصّة البقرة. وقد بيناه في مبحث تجنب التحديد والتفريع من هذا الكتاب (1).
فالاجتهاد فرض كفاية على الأمة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها. وقد أثِمت الأمة بالتفريط فيه مع الاستطاعة ومِكْنة الأسباب والآلات (2) *. وقد اتفق العلماء على أنه مما يشمله الأمر في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)، وقوله:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (4). وشهاب الدين القرافي يقول في كتاب التنقيح في باب الإجماع: "لو لم يبق مجتهد واحد والعياذ بالله"(5) *.
(1) انظر أعلاه: 385.
(2)
* يعد آثماً في ذلك العلماء المتمكنون من الانقطاع إلى خدمة التفقه الشرعي للعمل في خاصة أنفسهم. ويعد آثماً العامة في سكوتهم عن المطالبة بذلك، بل وفي إعراضهم عمّن يدعوهم إليه إذا شهد له أهل العلم، ويعد آثماً الأمراء والخلفاء في إضاعة الاهتمام يحمل أهل الكفاءة عليه. اهـ. تع ابن عاشور.
(3)
التغابن: 16.
(4)
الحشر: 2.
(5)
* انظر: الفصل الرابع من باب الإجماع من التنقيح [341 - 343]. اهـ. تع ابن عاشور.
والتقصير في إيجاد الاجتهاد يظهر أثرهُ في الأحوال التي ظهرت متغيّرة عن الأحوال التي كانت في العصور التي كان فيها المجتهدون، والأحوال التي طرأت ولم يكن نظيرها معروفاً في تلك العصور، والأحوال التي ظهرت حاجة المسلمين فيها إلى العمل بعمل واحد لا يناسبه ما هم عليه من اختلاف المذاهب، فهم بحاجة في الأقل إلى علماء يُرجِّحون لهم العمل يقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين ليصدر المسلمون عن عمل واحد. وفي كل هذه الأحوال قد اشتدّت الحاجة إلى إعمال النظر الشرعي والاستنباط والبحث عمَّا هو مقصد أصلي للشارع وما هو تبع، وما يقبل التغيّرَ من أقوال المجتهدين وما لا يقبله.
ونستعرض هنا أمثلة إجمالية. منها مسائل بيع الطعام، ومسائل المقاصّة، ومسائل بيوع الآجال، ومسألة كراء الأرض بما يخرج منها، ومسألة الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة، ففي كثير منها تضييق.
وإن أقلّ ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي هو أن يسعَوا إلى جمع مجمع علمي يَحْضُرُهُ من أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاقٍ فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعلموا أقطار الإِسلام بمقرراتهم؛ فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتباعهم (1)
(1) لعل في إنشاء مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي وفي تأسيس غيره من المجامع الفقهية في كثير من البلاد في هذا العصر تحقيقاً، بإذن الله، لهذا القصد.
ويعيّنوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد أو قاربوا.
وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعَهم علماً وأصدَقهم نظراً في فهم الشريعة. فيشهدوا لهم بالتأهّل للاجتهاد في الشريعة. ويتعيّن أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاة، ولا تتطرّق إليهم الريبة في النصح للأمة (1).
(1) هذه إيماءات لبعض صفات المجتهدين ولشروط الاجتهاد.