الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها
السماحة: سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل.
وهي راجعة إلى معنى الاعتدال، والعدل، والتوسط. ذلك المعنى الذي نوّه به أساطين حكمائنا الذين عنوا بتوصيف أحوال النفوس والعقول، فاضلَها ودنيَّها وانتسابَ بعضها من بعض. فقد اتفقوا على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، أي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، لأن ذينك الطرفين يدعو إليهما الهوى الذي حذّرنا الله منه في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2)، وقوله:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (3)، فإن ذلك متعلق بأهل الكتاب ابتداء، ومراد منه موعظة هذه الأمة؛ لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وسقوطَها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليهود:"لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم"(4).
(1) ص: 26.
(2)
النساء: 171، المائدة:77.
(3)
الحديد: 27.
(4)
حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم". أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وذكره ابن كثير من رواية ابن مردويه وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة: 1/ 194. الشوكاني. فتح القدير: 1/ 162.
فالتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات. وقد قال الله تعالى في وصف هذه الأمة أو وصف صدرها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1). روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الآية أن الوسط هو العدل أي بين طرفي الإفراط والتفريط (2)، وبذلك جزم المحقّقون في تفسير هذه الآية (3). وبه فسر أيضاً قوله تعالى:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (4) أي أعلمهم وأعدلهم. وقد شاع هذا المعنى في الوسط (5).
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي: "خير الأمور أوساطها". وبعضهم يرويه حديثاً، وهو مشهور على الألسنة ولكنه ضعيف الإسناد (6).
فالسماحة السهولة المحمودة فيما يظنّ الناس التشديد فيه. ومعنى كونها محمودة أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد. وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذ اقتضى"(7). وقريب منه
(1) البقرة: 143.
(2)
حديث أبي سعيد الخدري. انظر 48 كتاب تفسير القرآن، 3 باب ومن البقرة، ح 2961. تَ: 5/ 207.
(3)
راجع كلام المؤلف في تفسير الآية التحرير والتنوير: 2/ 17، 18.
(4)
القلم: 28.
(5)
[حتى قال أبو تمام:
كانت هى الوسط المحمية فاكتنفت
…
بها الحوادث حتى أصبحت طرفا]
ما أوردناه هنا مثبت ص 61 - 62. ط (1) الاستقامة. لكن المؤلف اختصره وضرب عليه في نسخته المصححة.
(6)
السخاوي. المقاصد: 205، ع 455.
(7)
يشير إلى حديث جابر ونصه: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" هكذا بدون تكرار الوصف. انظر 34 كتاب البيوع، 16 =
في رواية أبي هريرة (1).
ووصفُ الإسلام بالسماحة ثبَتَ بأدلة القرآن والسنة. فقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)، وقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3)، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (4)، وقال:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (5).
وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَحبُّ الدّين إلى الله الحنيفية السمحة". رواه ابن أبي شيبة، وأخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، وأخرجه في الأدب المفرد مسنداً (6)، أي أحبُّ الأديان إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية
= باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع. خَ: 3/ 9. والنص المذكور هو نص ابن ماجه لكنه قال: عبداً بدل رجلاً؛ انظر 12 كتاب التجارات، 28 باب السماحة في البيع، ح 2203، جَه 2/ 742.
(1)
ونصه: "إن الله يحب سَمحَ البيع، سمح الشراء، سمح القضاء". الترمذي والحاكم في كتاب البيوع عن أبي هريرة. قال الترمذي: غريب، وقال الحاكم: صحيح، أقروه. المنذري. الترغيب والترهيب، باب الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء، ح 5، 2/ 563؛ المناوي. التيسير: 1/ 271؛ فيض القدير: 2/ 294، 1885.
(2)
البقرة: 185.
(3)
الحج: 78.
(4)
المائدة: 6.
(5)
البقرة: 286.
(6)
ورد الحديث تعليقاً عند البخاري. فلم يسنده في صحيحه لأنه ليس على شرطه. انظر 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. ذكر ذلك في ترجمة الباب. خَ: 1/ 15. وأخرجه موصولاً عن ابن عباس في كتاب الأدب المفرد: باب حسن الخلق إذا فقهوا خ: 1/ 138، ح 287. ووصله =
السمحة. فقد أثبت أن السماحة هي وصف الإسلام. وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه"(1) أي كان الدين غالباً. وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"(2)، وهو ضعيف السند بهذا اللفظ، ولكنه في معنى الحديث الذي قبله.
واستقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين.
وفي الحديث الصحيح - في البخاري وغيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً ومعاذاً إلى اليمن وقال لهما: "يسِّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنّفرا"(3). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنما بعثتم مُيسّرين ولم تبعثوا معسّرين"(4). وعن عائشة: "كان رسول الله ما خير بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً"(5). والمراد من الإثم ما دلت الشريعة على تحريمه.
= أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس؛ والطبراني في الكبير. وذكره المناوي بلفظ: "الأديان" جمعاً بدل "الدين" جنساً وصححه. فيض القدير: 1/ 169 - 170، 208؛ ابن حجر. الفتح: 1/ 93 - 95.
(1)
تمام الحديث: "فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" - تقدم تخريجه: 144/ 5.
(2)
تقدم: 144/ 3.
(3)
تقدم: 144/ 6.
(4)
تقدم: 145/ 1.
(5)
ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 61 كتاب المناقب، 23 باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 18. خَ: 4/ 166؛ 78 كتاب الأدب، 80 باب قول =
قال الشاطبي في الفصل الثاني من المسألة السابعة من نوع الموانع (1)، وفي مواضع متكرّرة من كتابه:"إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع"(2)، واستدل لذلك بكثير من الأدلة التي ذكرناها آنفاً.
وأقول: إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في
= النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا". خَ: 7/ 101؛ 86 كتاب الحدود، 10 باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله. خَ: 8/ 16؛ انظر 43 كتاب الفضائل، 20 باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته. ح 77، 78. مَ: 2/ 1813؛ انظر 35 كتاب الأدب، 5 باب في التجاوز في الأمر، 4785. دَ: 5/ 142؛ انظر 47 كتاب حسن الخلق، 1 باب ما جاء في حسن الخلق. ح 2. طَ: 2/ 902، 903.
(1)
جاء في مقاصد الشريعة من كتاب الموافقات، الفصل الثاني: وينبني أيضاً على ما تقدم أنه ليس للمكلف الدخول في المشقة باختياره فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهياً عنه، وغير صحيح في التعبّدية، لأن الشارع لا يقصد الإحراج فيما أذن فيه. الشاطبي. الموافقات:(1) 2/ 80 - 81 = (2) 2/ 89 - 91 = (3) 2/ 133 - 135 = (4) 2/ 229.
(2)
ومثل ما ورد من ذلك قول الشاطبي في آخر الفصل الأول من المسألة السابعة نفسها: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا التشديد بالتبتل بقوله: "من رغب عن سنتي فليس مني". ورده التبتل عن عثمان بن مظعون بقوله: ولو أذن له لاختصينا، ورده على من نذر أن يصوم قائماً في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس، وقال: "هلك المتنطّعون". ونهيه عن التشديد شهيرٌ في الشريعة بحيث صار أصلاً فيها قطعياً". الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 79 - 80 = (2) 2/ 89 = (3) 2/ 132 - 133 = (4) 2/ 222.
النفوس سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (1). وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً. ولا يكون ذلك إلّا إذا انتفى عنها الإعنات. فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها.
وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها. فعلم أن اليسر من الفطرة، لأن في فطرة الناس حب الرفق. ولذلك كره الله من المشركين تغيير خلق الله فأسنده إلى الشيطان، إذ قال عنه:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (2). وذلك من حيث يكون التغيير خلوًا عن المصلحة. فأما إذا كان لمعنى أدخل في الفطرة لا يصير مذموماً بل يكون محموداً، مثل: الختان، وتقليم الأظفار (3)، وحلق الرأس في الحج (4).
(1) النساء: 28.
(2)
النساء: 119.
(3)
وردت في ذلك أحاديث تحثّ عليها، مثل حديث أبي هريرة:"الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب". انظر 77 كتاب اللباس، 63 باب قص الشارب. خَ: 7/ 56. ابن حجر. الفتح: 10/ 334 - 349.
(4)
لكونه نسكاً في الحج، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عمر:"حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" مرّة أو مرّتين. والحلق أفضل من التقصير فإنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والمذلة، وأدل على صدق النية. وفيه معنى التجرد. واستحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة. ابن حجر. الفتح: 3/ 562 وما بعدها.