الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية
نحن الآن أشبه بأن نكون رجعنا إلى مبحث نفوذ الشريعة واحترامها بعد أن فصل بيننا وبينه بيان الرخصة. فبنا أن نبين كيف استخدمت الشريعة بنفوذ تشريعها واحترامه في نفوس الناس أنواعَ الوازع الذي يزع النفوس عن التهاون بحدود الشريعة. فاعتمدت في ذلك ابتداءً على الوازع الجِبِلّي، فكان كافياً لها من الإطالة بالتشريع للمنافع التي تتطلبها الأنفس من ذاتها، وبالتحذير من المفاسد التي يكون للنفوس منها زاجرٌ عنها مثل منافع الاقتيات واللباس وحفظ النسل والزوجات. فلا تجد في الشريعة وصايات تحفظ الأزواج لأنه في الجبلة إذ كانت الزوجة كافية في ذلك كما قال عمرو بن كلثوم:
يَقُتن جيادَنا وَيَقُلن لستم
…
بعولتَنا إذا لم تمنعونا (1)
وقلّ في الشريعة التعرض لحفظ الأبناء لأحوال عرضت للعرب من التفريط فيه كما فعلوا في الوأد. قال الله تعالى فيها: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (2). ولذلك كانت الشريعة تعمد إلى الأمور العظيمة التي
(1) البيت الثاني والتسعون من المعلقة. وله رواية ثانية بلفظ "يقدن" بدل "يقتن". التبريزي: 27.
(2)
الإسراء: 31.
تخشى أن لا يُغنِيَ فيها الوازع الديني الغَناء المرغوبَ فتصبغها بصبغة الأمور الجبلية، كما فعلت في تحريم الصهر لتُلحق الصهر بالنسب في جعل الوازع عن الزنا فيه كالجبلي. فألحقت أبوي الزوجين بالأبوين في قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (1).
قال فخر الدين: "من تزوج امرأة، فلو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنُه، ولم تدخل على الرجل أمُّ المرأة وابنتُها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح. ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتدت أعينُ البعض إلى البعض وحصل الميلُ [والرغبة]. وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرةُ الشديدة بينهن، ولأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً وأشدُّ إيلاماً وتأثيراً، [وعند حصول النفرة الشديدة] (2) * يحصل التطليق والفراق. أما إذا حصلت المحرمية [وانحبست الشهوة] فقد انقطعت الأطماع فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزوجين سليماً من المفسدة. فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعيُ في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين"(3) اهـ.
وقد يزاد على ما ذكره الفخر أن الشارع قصد قلب ذريعة الزنا
(1) النساء: 23.
(2)
* يشير إلى قولة طرفة: [من معلقته، البيت: الخامس والسبعون].
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
اهـ. (تع ابن عاشور).
[انظر التبريزي: 115].
(3)
الرازي. التفسير الكبير، بيان المقام الأول من الحجة الرابعة: 10/ 23.
المتوقع من شدة المخالطة إلى نفرة منه باستخدام الوازع الجِبِلي بدلاً من الوازع الديني لتعذر سدِّ الذريعة في هذه المخالطة بما قرّره فخر الدين.
وليس من العسير قلبُ الوازع الديني إلى وازع جبلّي بتحذير العقاب وبث التشنيع في العادة. فإن كثيراً من الأمور التي تظهر في صورة الجبليات ما كانت إلَّا تعاليم دينية، مثل ستر العورة، ومحرمية الآباء والأبناء. وقد نجد مباحاتٍ مذمومةً يتنزَّهُ الناس عنها لمذمَّتها. فقد كان أهل الجاهلية يبيحون تزوج الابن زوجة أبيه بعد موته، ومع ذلك فهم يسمُّونه نكاح المقت. وقد قيل لأبي علي الجبائي (1): إنك ترى إباحة شرب النبيذ وأنت لا تشربه فقال: "تناولتْه الدعارةُ. فسمج في المروءة".
ولعلماء الشريعة نسجٌ على منوالها هذا عند قصد المبالغة في سدّ الذريعة. فقد قال مالك رحمه الله بنجاسة عين الخمر، وهو يعلم أن الله إنما نهى عن شربها لا عن التلطخ بها. ولكنه حصل له من استقراء السنّة ما أفاده مراعاةَ قصدِ الشريعة الانكفاف عن شربها. وإذا كان ذلك عسِرًا لشدّة ميل النفوس إليها بكثرةِ ما نَوَّه الشاربون بمحاسن رقتها ولونها أراد تقوية الوازع الديني عن شربها بإشراب النفوس معنى قذارتها وجعلها كالنجاسات، في حين أنه لم يقل بنجاسة الخنزير الحي. وقد صار من أمثال عامة بلدنا إذا أرادوا نسبة
(1) هو أبو علي محمَّد بن عبد الوهاب الجبائي 235 - 303 بِجُبّى، قرية من قرى البصرة. من أكابر دعاة الاعتزال، وإليه تنسب الطائفة الجَبائية. درس على أبي يعقوب الشحام شيخ معتزلة البصرة. له: تفسير بلغة أهل بلده، والرد على الراوندي، وكتاب الأصول. وهو الذي استهدفه الأشعري بردوده بعد انصرافه عن الاعتزال. محمَّد يوسف موسى. الجبائي، دائرة المعارف الإِسلامية: 6/ 270؛ الزركلي: 6/ 256.
قول لأحد في ذم شيء أن يقولوا: "قال فيه ما قال مالك في الخمر". وفي الحديث الصحيح: "ليس لنا مثل السوْء: العائد في صدقته كالكلب العائد في قيئه"(1).
ولكن معظم الوصايا الشرعية منوطٌ تنفيذُها بالوازع الديني، وهو وازعُ الإيمان الصحيح المتفرع إلى الرجاء والخوف. فلذلك كان تنفيذ الأوامر والنواهي موكولاً إلى دين المخاطَبين بها. قال الله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2)، وقال:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} (3)، وقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (4)، وغير ذلك من الآيات والآثار النبوية، وفي استقرائها كثرةٌ.
فمتى ضعف الوازع الديني، في زمن أو قوم أو في أحوال يُظَنُّ أن الدافع إلى مخالفة الشرع في مثلها أقوى على أكثر النفوس من الوازع الديني، هنالك يُصار إلى الوازع السلطاني، فيناطُ التنفيذُ بالوازع السلطاني. كما قال عثمان بن عفان:"يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(5). ولذلك قال ابن عطية (6) * "والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن دفعه إلى السلطان، وثبوت الرشد عنده، لما
(1) انظر أعلاه: 113/ 1. 175/ 3.
(2)
البقرة: 228.
(3)
البقرة: 235.
(4)
البقرة: 235.
(5)
انظر أعلاه: 354/ 1.
(6)
* هو القاضي عبد الحق بن عطية الغرناطي، ولد سنة 481 هـ وتوفي سنة 546 هـ. له: تفسير القرآن المسمى المحرر الوجيز. وهو تفسير ممتع. اهـ. تع ابن عاشور.
حُفظ من تواطئ الأوصياء على أن يرشد الموصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله من ذلك الوقت" (1). ولم يرهم مصداق أمانة الشريعة في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2). واستحسن قولَه فقهاءُ المالكية بعده.
وقال ابن العربي (3) *: "لا تصدق المرأة في دعواها انقضاء عدتها في مدّة أقلَّ من خمسة وأربعين يوماً"(4) لضعف الديانة، مع أن القرآن وَكَلَ ذلك إلى أمانتهن، إذ قال:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (5). وبقول ابن العربي جرت الفتوى والقضاء عند علماء المالكية، كما نظمه صاحب العمليات العَامَة (6).
(1) انظر: المحرر الوجيز: 3/ 500.
(2)
النساء: 6.
(3)
* هو القاضي أبو بكر محمَّد [بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن أحمد] بن العربي [المعافري] الأشبيلي. ولد سنة 468 هـ[بأشبيليه] وتوفي سنة 543 هـ[بمراكش ودفن بفاس. تولى القضاء ببلده. ومن تلاميذه القاضي عياض]. له: التآليف الجمة [في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ]. منها: أحكام القرآن [وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك، والقبس على الموطأ، وعارضة الأحوذي، والعواصم من القواصم، وغيرها]. اهـ. تع ابن عاشور. [ابن خلكان. الوفيات: 1/ 489؛ الزركلي. الأعلام: 6/ 230].
(4)
أشار المؤلف بهذا إلى رأي أبان بن عثمان المتقدم. ونص كلام القاضي في إبطاله في أول المسألة السابعة قال: وقال في كتاب محمَّد: لا تصدق في شهر ولا في شهر ونصف، وكذلك إن طوّلت. ابن العربي: 1/ 187.
(5)
البقرة: 228.
(6)
قال أبو عبد الله الفُلالي السجلماسي: =
وعلى هذا الاعتبار يصحّ كلّما حصل التردّدُ في أمانة من وَكَلَت الشريعة حقًا إلى أمانته أن نكِل تنفيذ ذلك الحق إلى السلطان. كما قال مالك في جمع الأختين من ملك اليمين: "إن السيد إذا تسرّى إحداهما حرمت عليه الأخرى، وتحريمُها موكولٌ إلى أمانته. فإن أراد الانتقال من تلك الأخت إلى تسري الأخرى وجب عليه قبل ذلك أن يُحرِّم عليه التي كانت سرية له بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق أو تزويج وذلك أيضاً موكولٌ فعله إليه. فإن تعجل فتسرى الأخت قبل أن يحرم على نفسه الأولى كما وصفنا وقفه القاضي عنهما معًا حتى يحرم الأولى ولم يبق ذلك موكولاً إلى أمانته لأنه متهم"(1) *.
وعليه، فللفقهاء تعيينُ المواضع التي تسلب فيها أمانة تنفيذ
= وصُدِّقت ذات القروء في انقضا
…
مدّتها دون يمين تُقتضى
من بعد خمسة وأربعينَ
…
لا قبل. وابن العربي الفطينا
يرى انتفا التصديق في أقلّ
…
من أشهر ثلاثة إذ قلّا
دين الرجال، كيف بالنسوان
…
لا سيما في هذه الأزمان
العمليات العامة: 82 - 83.
(1)
* نقله الشيخ ابن عطية في تفسيره عند قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في سورة النساء. اهـ. تع ابن عاشور.
[ونصه عند ابن عطية: ومذهب مالك رحمه الله: إذا كان أختان عند رجل بالملك، فله أن يطأ أيتهما شاء. والكف عن الأخرى موكول لأمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما. ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى. ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهماً إذ كان لم يطأ إلا واحدة
…
المحرر الوجيز: 3/ 556].
أحكام الشريعة من المؤتمنين عليها عند تحقق ضعف الوازع أو رقة الديانة أو تفشي الجهالة. وفي نصوص الشريعة ما يسمح بذلك، لأن معظم الخطاب القرآني في مثل هذه الأمور ورد بضمائر الجمع الصالحة لاعتبار التوزيع أو لاعتبار مخاطبة جماعة المسلمين، أي أولياء أمورهم. فنجعل هذا الأسلوب في الخطاب إيماء إلى إعداد الجماعة للإشراف على تلك الحقوق. ولهذا أحدث عمر بن الخطاب ولاية الحِسبة (1) وجعلها غير ولاية القضاء، لأن من الحقوق ما قصدت الشريعةُ حفظَه، وليس في تفريطه تضرُّرُ شخصٍ معين حتى يقوم لدى القاضي أو يكون المتضرَّر من تفريطه ضعيفاً عن القيام بحقه.
واعلم أن الوازع الديني ملحوظٌ في جميع أحوال الاعتماد على نوعي الوازع. فإن الوازع السلطاني تنفيذ للوازع الديني، والوازع الجبلي تمهيد للوازع الديني. فالمهم في نظر الشريعة هو الوازع الديني اختيارياً كان أم جبرياً. ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال، فإن خيف إهمالُه أو سوءُ استعماله وجب عليهم تنفيذُه بالوازع السلطاني.
(1) الحسبة من أعظم الخطط الدينية. وهي - بين خطة القضاء وخطة الشرطة - جامعة بين نظر شرعي ديني وزجر سياسي سلطاني. ولعموم مصلحتها وعظيم منفعتها تولى أمرها الخلفاء الراشدون والأمراء المهتدون. ثم أوكل عمر بن الخطاب أمرها إلى ابنه عبد الله ولم يلبث أن عزله لما أخبر أنه فيه شفقة. وولي بعده هذه الخطة من المحتسبين أو أصحاب السوق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن أبي عبيد مسعود الهذلي 98 هـ مفتي المدينة واحد الفقهاء السبعة. الصنهاجي: 1/ 89؛ الزركلي: 7/ 195.