الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا - ليست الشريعة بنكاية
لقد تأصَّل مما أفضنا به القول في مبحث سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها ما فيه مَقنع من اليقين بأن الشريعة لا تشتمل على نكاية بالأمة. فإن من خصائص شريعة الإسلام أنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد. فلذلك كان الأهمُّ في نظرها إمكانَ تحصيل مقاصدها، ولا يتم إلا بسلوك طريقة التيسير والرفق. وأحسب أن انتفاء النكاية عن التشريع هو من خصائص شريعة الإسلام لما دل عليه القرآن من أنه قد أوقع النكاية ببعض الأمم في تشريع لها. قال الله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (1). فدلَّ على أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل كان عقاباً لهم على ما صدر منهم من التوغّل في مخالفة الشريعة.
فالإسلام إذا رخّص وسهّل فقد جاء على الظاهر من سماحته، وإذا شدَّد أو نسخ حكماً من إباحة إلى تحريم أو نحو ذلك فلرَعْيِ صالح الأمة والتدرج بها إلى مدارج الإصلاح مع الرفق. فتحريم الخمر مقصود للإسلام من أول البعثة. وأما السكوت عليه مدة حتى بقي مباحاً ثم تحريمُه في وقت الصلاة فذلك تمهيد لتحريمه الباتّ (2).
(1) النساء: 160 - 161.
(2)
يدرك هذا من التدرج في تحريمه بعد أن كان مباحاً بقوله سبحانه: =
ولذلك لم يجز أن تكون الزواجرُ والعقوباتُ والحدودُ إلَّا إصلاحاً لحال الناس بما هو اللّازم في نفعهم دون ما دونه ودون ما فوقه، لأنه لو أصلحهم ما دونه لما تجاوزته الشريعةُ إلى ما فوقه، ولأنه لو كان العقابُ فوق اللازم للنفع لكان قد خرج إلى النكاية دون مجرد الإصلاح. ولهذا كان معظم العقوبات أذًى في الأبدان لأنه الأذى الذي لا يختلف إحساس البشر في التألم منه، بخلاف العقوبة بالمال فإنها لم تَجِئْ في الشريعة، وإنما جاء غرم الضرر (1). فلو نزلت الجنايات التي لم يثبت لها عقاب في الشريعة وكان الباعث عليها حب الاستكثار من المال لم يكن بعيداً في نظر المجتهد أن يعاقب عليها بمصادرة مالية، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عقاب رويشد الثقفي الذي كان اتخذ بيته حانة يجمع إليها الشِّرب لمعاقرة الخمر. فقد أمر عمر بحرق ذلك البيت (2)، وقد روى يحيى عن مالك أن تحرق بيت
= {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} النساء: 43، ثم قوله جل وعلا:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة: 90.
(1)
يرجع غرم الضرر إلى القاعدة الفقهية العامة: (الضرر يزال). انظر: الصور التطبيقية لذلك. أحمد الزرقا. شرح القواعد الفقهية: 125، المادة: 20، القاعدة الثانية. السبكي. الأشباه والنظائر: 1/ 41؛ الأتاسي. شرح المجلة، المادة 20:53.
(2)
الأصل في الإحراق: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار وإحراقه لما كان تفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين. انظر ابن تيمية. الحسبة في الإسلام: 55؛ ابن القيم. الطرق الحكمية: 250 - 258؛ زاد المعاد: 3/ 572؛ ابن فرحون. التبصرة: 2/ 203؛ عبد العزيز عامر. التعزير في الشريعة الإسلامية: 345.
الخمار (1). ووقع في الواضحة عن مالك أنه رأى أن تُباع الدارُ التي تُجعل مأوى لأهل الفسوق (2). وقول ابن القاسم خلاف ذلك في المسألتين (2).
ومن قبيل العقوبة التي تتردد بين النكاية وبين كونها أذى في الناحية التي هي مثار الجناية القولُ بتأبيد تحريم المرأة المعتدّة على من يتزوجها في عدّتها ويبني بها فيها. وقد قضى به عمر بن الخطاب وقال به مالك (3). ومن الأئمة من يفسخ النكاح ولا يرى تأبيد التحريم. وهو أقرب (4). ولذلك استحسن بعض فقهاء المالكية أن
(1) روى يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار. وقال: أخبرني بعض أصحابنا أن مالكاً كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر. ابن رشد. البيان: 9/ 417.
(2)
قال أبو زيد: قال ابن القاسم: سئل مالك عن فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله وتحرز عليه الدار أو البيوت. قال: فقلت: لا تباع؟ قال: فلعله يتوب فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: يتقدم إليه مرة أو مرتين فإن لم يتب أخرج وأكري عليه
…
وفي الواضحة عن مالك: تباع عليه. ابن رشد. البيان: 9/ 416 - 417؛ ابن القيم. الطرق الحكمية، إجلاء الفاسق عن داره:258.
وفي التبصرة: والفاسق إذا آذى جاره ولم ينته تباع عليه داره. وهي عقوبة في المال والبدن. ابن فرحون: 1/ 204.
(3)
في الأحكام: إذا نكح في العدة وبنى فسخ ولم ينكحها أبداً. قاله مالك وأحمد والشعبي. وبه قضى عمر لأنه استعمل ما لا يحل له فحُرِمه، كالقاتل في حرمان الميراث. ابن العربي. أحكام القرآن، آية البقرة: 235: 1/ 215.
(4)
قاله علي وابن مسعود. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي. فالنكاح يفسخ ولا يتأبد التحريم، والزوج بعد العدة خاطب من الخطاب. وقد رجع عمر إلى هذا القول، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها. =
للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الذي يبني بالمعتدة في عِدّتها ألّا يزيد في حكمه تأبيد التحريم، إذ لعلهما يجري أمرهما على رأي من لا يرى تأبيد التحريم. وكذلك مسألة من يفسد المرأة على زوجها ويهرب بها ليتزوّجها (1).
ولا يشكل على هذا ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن بعض أصحابه يواصل الصيام فنهاهم. فقال له رجل: يا رسول الله إنك تواصل. فقال: وأيُكم مثلي إِني أَبيت يطعُمني ربي ويسقيني. فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال لهم: لو تأخر الشهر لزدتكم"(2)
= واستحسن المتأخرون من المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه. فينبغي له أن يترك التعريج عليه لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 455؛ القرطبي. الجامع لأحكام القرآن، المسألة السادسة: 3/ 193 - 195؛ ابن عطية. المحرر الوجيز: 2/ 222 - 225.
(1)
ورد هذا في ضوء الشموع. وأفتى في مثل هذه القضية أحد فقهاء المالكية قائلاً: يتأبد تحريمها عليه معاملة له بنقيض مقصوده، ولئلا يسارع الناس إلى إفساد الزوجات. والظاهر أنه تأبيد مقيد بدوام أثر الإفساد لا إن طال الزمن جداً أو طلقها الأول باختياره أو مات عنها. عليش. فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك: 1/ 397.
والأصل في هذا الحكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خبّب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا". رواه أبو داود، ونسبه المنذري للنسائي. وبناء على ذلك قالوا: من أفسد زوجة امرئ، أي: أغراها بطلب الطلاق. ولذا ضيق فقهاء المالكية عليه وبلغ من زجرهم له تأبيد تحريم المرأة المخببة على من أفسدها على زوجها. الموسوعة الفقهية: 5/ 291.
(2)
وقد كان الوصال منهم حرصاً على اتباعه في ذلك وهم يعلمون أن أمره =
كالمنكِّل بهم حين أبوا أن ينتهوا، لأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لا يعدّ من التشريع العام، بل هو من تربية الأصحاب وخاصةِ الرجل. فهو من باب النصيحة لأصحابه لا من باب التشريع العام.
= ونهيه لا يحمل جزماً ولا إلزاماً. وكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عنه على سبيل الرفق بهم. والحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة: 30 كتاب الصوم، 49 باب التنكيل بمن أكثر الوصال. خَ: 2/ 242 - 243.