الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ
قد يَستكِنُّ في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوّص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس. والتحقيق أن للتشريع مقامين:
المقام الأول تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها. وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1)، وقوله:{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).
والتغيير قد يكون إلى شدّة على الناس رعيًا لصلاحهم، وقد يكون إلى تخفيف إبطالاً لغلوِّهِم. مثل تغيير اعتداد المرأة المتوفّى زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر (3)، إذ لا فائدة فيما زاد على ذلك، إذ التربّص لا تظهر منه فائدة للميت ولا للمرأة، إلَّا لحفظ نسب الميت لو ظهر حمل. وتلك المدّة كافية لظهور الحمل وتحرّكه. وكذلك تغيير حكم الإحداد بتهذيبه، إذ كانت المرأة
(1) البقرة: 257.
(2)
المائدة: 16.
(3)
لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية. البقرة: 234.
- في الجاهلية - المتوفّى زوجها تلبس شر الثياب وتمكث في حفش، وهو بيت حقير، ولا تتنظّف ولا تتطيّب مدة سنة، فأبطل الإسلام ذلك بأن لا تلبس المصبوغ إلا الأسود ولا تتطيّب ولا تكتحل مدة أربعة أشهر وعشر.
ومن حكمة التغيير الحرصُ على المحافظة عليه، لأنّه يتطرّقه التساهل من طرفيه. فإن كان تغييراً إلى أشد تطرقه طلب التفصي منه، وإن كان إلى أخف تطرّقه توهم أن تخفيفه عذر للأمة في نقصه. فلذلك لم يرخِّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة السائلة عن اكتحال عيني ابنتها في عدّة وفاة من زوجها لعذر مرض عينيها، وقال لها:"لا لا (مرتين أو ثلاثاً) إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تَرمي بالبعرة على رأس الحول". رواه مالك في الموطأ من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قالت زينب بنت أبي سلمة: كانوا إذا مضى الحول أتوا للمرأة بدابةٍ حمار أو شاة أو طائر فتفتض به ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها (1). قال مالك: تفتض أي تمسح جلدها به كالنُّشرة (2).
والمقام الثاني تقريرُ أحوال صالحة قد اتبعها الناس. وهي الأحوال المعبَّرِ عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (3). وأنت إذا افتقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ
(1) الافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإنقاء حتى تصير كالفضة، والنشرة: ضرب من الرقية والعلاج، سميت بذلك لأنها تنشر عن المريض ما خامره من داء أي تكشفه وتزيله. والحديث لأم سلمة. انظر 29 كتاب الطلاق، 35 باب ما جاء في الإحداد، 103. طَ: 2/ 597.
(2)
روى مالك القصة عن حميد بن نافع وعقّب عليها مفسراً. طَ: 2/ 597 - 598.
(3)
الأعراف: 157.
القدم، وأقاموا عليها قواعد المدنية البشرية، تجدها أموراً كثيرة من الصلاح والخير تُوُورِثَت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر، مثل إغاثة الملهوف، ودفع الصائل، وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد، واتخاذ الزوجة، وكفالة الصغار، والميراث. إلَّا أن هذه الفضائل والصالحات ليست متساويةً الفشو في الأمم والقبائل. فلذلك لم يكن للشريعة العامة غُنية عن تطرّق هذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة، وبتحديد حدودها التي تناط أحكامُها عندها. فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل في الأحوال من أهم ما تقصده شريعة عامة كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأ (1) وصحيح مسلم:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد هممت أن أحرّم الغِيلَة (في الرضاع) لولا أن قوماً من فارس يفعلونها ولا تضرّ أطفالهم"(2).
(1) بالأصل: حديث الموطأ والصحيحين.
(2)
روى مالك عن عائشة أم المؤمنين عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك. فلا يضرّ أولادهم": 30 كتاب الرضاع، 3 باب جامع مما جاء في الرضاعة، ح 17. طَ: 2/ 607 - 608؛ انظر 16 كتاب النكاح، 23 باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع، ح 140 - 142. مَ: 2/ 1066 - 1067. وأورده أيضاً أصحاب السنن. انظر 22 كتاب الطب، 16 باب في الغَيْل، ح 3882. دَ: 4/ 211؛ انظر 29 كتاب الطب، 27 باب ما جاء في الغيلة، ح 2076، 2077. تَ: 4/ 405 - 406؛ انظر 26 كتاب النكاح، 54 باب الغيلة، ح 3324. نَ: 6/ 106 - 107؛ انظر 11 كتاب النكاح، 33 باب في الغيلة، ح 2223. دَي: 2/ 468؛ انظر 9 كتاب النكاح، 61 باب الغيل، ح 2011. جَه: 1/ 648.
ولم أقف عليه في البخاري. وأخرج مثل هذا الحديث مسلم من رواية =
وكذلك النظر إلى اختلاف النفوس في التسرع إلى النزوع عن الصالحات عند طرو معارضها في شهواتهم من جهة ما في الصالحات من الكلفة. كما ترى من تحريض الشريعة على التزوج (1)،
= أسامة بن زيد عن رجل قال: إني أعزل عن امرأتي أشفق على ولدها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان ذلك ضاراً ضرّ فارس والروم"، وفي رواية زهير:"إن كان لذلك فلا. ما ضار ذلك فارس ولا الروم": 16 كتاب النكاح، 24 باب جواز الغيلة، ح 143. مَ: 2/ 1067.
وأخرج أبو داود حديثاً آخر بمعناه رواه عن أسماء بنت يزيد بن السكن. "قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً فإن الغَيْل يدرك الفارس فيُدَعثره عن فرسه": 22 كتاب الطب، 16 باب في الغَيل، ح 3881. دَ: 4/ 211. وأخرج هذا الحديث بلفظ قريب منه ابن ماجه: 9 كتاب النكاح، 61 باب الغيل، ح 1012. جَه: 1/ 648؛ حَم: 6/ 453.
(1)
ورد ذلك في الكتاب. قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} النساء: 3، وقوله عز وجل:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} النور: 32، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
حديث عبد الله، انظر 30 كتاب الصوم، 10 باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة. خَ: 2/ 288 - 289؛ 67 كتاب النكاح، 2 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة، 3 باب: من لم يستطع الباءة فليصم. خَ: 6/ 117؛ انظر 16 كتاب النكاح، 1 باب استحباب النكاح، ح 1، 3 مَ: 2/ 1018 - 1019؛ انظر 22 كتاب الصيام، 43 باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم. نَ: 4/ 165 - 172؛ ابن ماجه: 9 كتاب النكاح، 1 باب ما جاء فضل النكاح، ح 1845 جَه: 1/ 592؛ انظر 11 كتاب النكاح، 2 باب من كان عنده طَول فليتزوج، ح 2171، 2172. دَي: 2/ 455؛ حَم: 1/ 57، 378، 424، 425، 432.
ومن إيجابها نفقة القرابة (1).
وأكثر ما يحتاج إليه في مقام التقرير هو حكم الإباحة لإبطال غلو المتغالين بحملهم على مستوى السواد الأعظم من البشر الصالح كما قال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2). فإن الطيبات تناولتها الناس وشذَّ فيها بعضُ الأمم وبعضُ القبائل فحَرَّموا على أنفسهم طيبات كثيرة. وقد كان ذلك فاشياً في قبائل العرب مثل تحريم بني سُليم على أنفسهم أكلَ الضب لزعمهم أنه مسخ من اليهود (3)، وتحريم كثير من العرب ما تلده البَحيرة والسائبة
(1) على الإنسان أن ينفق على ولده الحر الذكر المعسر حتى يبلغ قادراً على الكسب، وعلى ابنته المعسرة حتى تتزوج ويدخل بها زوجها عند مالك. والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. وعند الشافعي تجب على الأصول الموسرين نفقة الأولاد، وذلك بشروط: الفقر والصغر، أو الفقر والزمانة، أو الفقر والجنون. ولا تجب عنده للبالغ السليم ذكراً كان أو أنثى. وقال أبو حنيفة وأحمد: تجب نفقة الأولاد على الأصول الموسرين، فإن لم يوجد موسر من جهتي الأصل أو الفرع وجب على من أيسر من قرابتهم أن ينفق عليهم الأقرب فالأقرب بقدر الإرث. الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 244 - 245؛ الزيلعي. تبيين الحقائق: 3/ 62 - 64.
وعلى الإنسان أن ينفق على أقاربه إذا كانوا محتاجين كالآباء والأجداد وفروعهم. وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات فقد اختلف الأئمة بشأن الإنفاق عليهم. أوجب ذلك الأحناف على كل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال، وأوجبت الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولم تُلزم بها لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة.
(2)
الأعراف: 157.
(3)
ورد هذا فيما أخرجه أبو داود من حديث ثابت بن وديعة، قال: نزلنا =
حيّاً على النساء دون الرجال (1)، وما تلده ميتاً حلال للفريقين كما وصف الله تعالى بقوله:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (2)، وقال:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (3)، ثم قال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (4).
ويحتاج أيضاً فيه إلى دفع ما يعلق بالأوهام من العوارض يخيل إليهم أن الصالحات مفاسد لصدورها من المتلبس بالفساد. فقد سأل حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت أعمالاً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتق وصلة رحم، [فهل فيها من أجر؟] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسلمت على ما سلف من خير"(5).
= أرضاً كثيرة الضباب. وفيه أنهم طبخوا منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض [فأخشى أن تكون هذه فأكفؤوها] وإني لا أدري أي الدواب هي". قال: فلم يأكل ولم ينه: 21 كتاب الأطعمة، 28 باب في أكل الضب. 3795. دَ: 4/ 154 - 155.
أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي. وسنده على شرط الشيخين، إلا الضحاك، فلم يخرجا له. ابن حجر. الفتح: 9/ 665 - 666؛ النووي. شرح مسلم: 13/ 97 وما بعدها إلى آخر باب إباحة الضب؛ الزرقاني. شرح الموطأ، آخر كتاب الاستئذان: 4/ 371.
(1)
ابن عاشور. التحرير والتنوير: 7/ 70 - 73؛ 8 ق 1/ 110 - 111.
(2)
الأنعام: 139.
(3)
الأعراف: 32.
(4)
الأعراف: 33.
(5)
ورد الحديث بألفاظ متقاربة. انظر 24 كتاب الزكاة، 24 باب من تصدق في الشرك ثم أسلم. خَ: 2/ 119؛ 49 كتاب العتق، 12 باب عتق المشرك. خَ: 3/ 121؛ 78 كتاب الأدب، 16 باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم. خَ: 7/ 73 - 74؛ انظر 1 كتاب الإيمان، 55 باب بيان =
ولهذا قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1).
وقد قرر الإسلام من أنكحة الجاهلية النكاح المعروف وأبطل البغاء والاستبضاع والسفاح (2).
والتقرير لا يحتاج إلى القول. فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلَّا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم، أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول. وفيما عدا تلك الأسباب ونحوها يعتبر سكوت الشارع تقريراً لما عليه الناس. فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر. وقد تواتر هذا المعنى تواتراً من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرّفاته. ويشهد له ويعضده الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"(3)، ولأجل هذا كره
= حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، 194، 195، 196. مَ: 1/ 113 - 114.
(1)
المائدة: 5.
(2)
وبيان ذلك في حديث عائشة. انظر 67 كتاب النكاح، 36 باب من قال لا نكاح إلا بولي، ح 1. خَ: 6/ 132؛ انظر 7 كتاب الطلاق، 33 باب وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية، ح 2272. دَ: 2/ 302 - 303. وفي نيل الأوطار: باب ذكر أنكحة الكفار وإقرارهم عليها. فقد أحل رسول الله النكاح المعروف المشروع، وحرم ما سوى ذلك من الأنكحة كالاستبضاع، ونكاح الرهط ما دون العشرة، وتلحق المرأة الولد بمن أحبت، ونكاح البغايا وإلحاق الولد بواحد من الزناة بالقافة. الشوكاني: 6/ 300.
(3)
تقدم: 270/ 2، 277/ 1.
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل لأن السؤال عن غير المشكل عبث.
ولا يُستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلَّا الأحوالُ التي دلَّ العقل على إلحاقها بأصولٍ لها حكمٌ غير الإباحة، وهي دلالة القياس بمراتبها.
وليس مرادنا بالتغيير تغييرَ أحوال العرب خاصة، ولا بالتقرير تقريرَ أحوالهم كذلك، بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقريرُ أحوالهم سواءٌ كانوا العرب أم غيرهم. وذلك أن جماعات البشر كانوا غيرَ خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة. فقد كان العرب على بقية من الحنيفية، وكانت اليهود على بقية من شريعة عظيمة، وكانت النصارى على بقية منها ومن تعاليم المسيح عليه السلام. وكان مجموع البشر على بقية من مجموع الشرائع الصالحة نحو شرائع المصريين واليونان والروم، وعلى اتباع ما دلت عليه الفطرة السليمة مثل عدّ قتل النفس جريمة. فالتغيير والتقرير قد يصادفان أحوالَ بعض الأمم دون بعض وهو الغالب، مثل تحريم الربا، ووجوب المهر، وأداء الدّية. وقد يصادفان أحوال البشر كلَّهم مثل تحريم الخمر، وإبطال الوصية لوارث، وبما زاد على الثلث، وتقرير أنكحة الذين يدخلون في الإسلام.
ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم مُعتادَها وأحوالَها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على فساد. ففي الموطأ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قَسْم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قَسْم الإسلام"(1).
(1) انظر 36 كتاب الأقضية، 27 باب القضاء في قسم الأموال، 35. طَ: 2/ 746 - 747. وانظر: 485/ 2.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "وهل ترك لنا عقيل من دار! "(1)، يريد أن عقيل بن أبي طالب فوتها في حكم الجاهلية فلم ينقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة.
(1) من حديث أسامة بن زيد قال: يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك عقيل من رباع أو دور
…
وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. انظر 25 كتاب الحج، 44 باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها. خَ: 2/ 157.