الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث
قد جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلةً إلى انحلالها إذا تبيّن فساد تلك الآصرة أو تبيّن عدم استقامة بقائها. وهي مندرجة في المقصد العام من ذلك المذكور في مقصد العقود والفسوخ. وغرضنا الآن بيان انحلال آصرة النسب والصهر، إذ ليسا بعقدين، وبيان انحلال آصرة النكاح، إذ كان معنى التعاقد فيه عارضاً غير مقصود. وكان النكاح قد وضع في منزلة أسمى من منازل العقود كما قدمناه في الكلام على آصرته. ولذلك اشتهر عند الفقهاء:"النكاح مبني على المكارمة، والبيع مبني على المكايسة"(1).
فانحلال آصرة النكاح: بالطلاق من تلقاء الزوج، وبطلاق الحاكم، وبالفسخ. والمقصد الشرعي فيه ارتكاب أخف الضرر عند تعسُّر استقامة المعاشرة، وخوف ارتباك حالة الزوجين، وتسرب ذلك
(1) قال الشافعي وأكثر العلماء في هذا: إنه محمول على شروط لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده. وهي مبنية على المكارمة، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف، وأن لا يقصر في شيء من حقوقها ويقسم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تنشز عليه، ولا تصوم تطوعاً بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه. والمغالبة في الكيس في البيع لا في النكاح. النووي. شرح مسلم: 9/ 202.
إلى ارتباك حالة العائلة. فكان شرع الطلاق لحل آصرة النكاح. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (1).
وجعل أمر الطلاق بيد الرجل من الزوجين لأنه في غالب الأحوال أحرصُ على استبقاء زوجه وأعلق بها وأنفذ نظراً في مصلحة العائلة. على أنه قد جعل للمرأة الوصول إلى الطلاق بطريق الخلع، أو بطريق الرفع إلى الحاكم إن حصل إضرار. كما جعل للمرأة أيضاً مخلصاً مما عسى أن يكون في بعض الرجال، أو في عرف بعض القبائل أو العصور من حماقة أو غلظة جلافة، أو تسرع إلى الطلاق اتباعاً لعارض الشهوات، بأن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها، أو أمر الداخلة عليها بيدها، أو إن أضرَّ بها فأمرها بيدها، أو نحو ذلك.
وفي الحديث الصحيح: "أحق الشروط أن يوفّى به ما استحللتم عليه الفروج"(2). وقد قال سعيد بن المسيب بإبطال الشروط اللاحقة
(1) البقرة: 229. تعرض فقهاء المالكية في كتب الإجراءات الشرعية إلى صورة من صور الطلاق في مبحث الإسقاط. ووردت في المسألة الثانية منه في الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية قال: من شَرَطَ لزوجته إن تزوج عليها أو تسرّى أو أخرجها من بلدها فأمْرُها بيدها. فتقول: اشهدوا أنه متى فعل زوجي ذلك فقد اخترت نفسي، أو اخترت زوجي. فذلك يلزمها على المعروف من قول مالك. ولو شَرَطَ ذلك لها ثم أسقطت الشرط، وأباحت له التزوج أو التسرّي أو الخروج، فإن كان بقرب إرادة فعل الزوج لزمها الإسقاط ولا رجوع لها. وإن تراخى فعل الزوج، كان لها الرجوع فيما أباحت له. قاله ابن القاسم، في سماعه عن مالك، وبه الحكم. قال ابن مغيث: فلو كان الشرط طلاق الداخلة، وعتق السرية فليس لها إسقاط ذلك. محمَّد العزيز جعيط:121.
(2)
حديث عقبة بن عامر. انظر 54 كتاب الشروط، 6 باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، وهو بلفظ:"أحق الشروط أن توفوا". خَ: 3/ 175؛ =
لعقدة النكاح مطلقاً (1) *. وقال مالك بناء عليه: إن الشرط إذا انعقد عليه النكاح كان شرطاً باطلاً غير لازم، وإن وقع طوعاً من الزوج بعد عقدة النكاح لزم (2)، بناء على إلزام المرء بما التزم به، ولأنه مما يشمله لفظ الحديث (3) *. [وهو مدرك ضعيف. وكيف يقع التطوع
= انظر 16 كتاب النكاح، 8 باب الوفاء بالشروط في النكاح، ح 63، وهو بلفظ:"إن أحق الشرط أن يوفى به". مَ: 2/ 1035 - 1036. انظر 6 كتاب النكاح، 40 باب في الرجل يشترط لها دارها، ح 2639. دَ: 2/ 604؛ انظر 9 كتاب النكاح، 32 باب ما جاء في الشرط عند عُقدة النكاح، ح 1127 بلفظ:"إن أحق الشروط أن يوفَّى بها ما استحللتم به الفروج". تَ: 3/ 434؛ انظر 26 كتاب النكاح، 42 باب الشروط في النكاح بلفظ:"أن يوفى به" ن: 6/ 92؛ انظر: "كتاب النكاح، 41 باب الشرط في النكاح، ح 1945 بلفظ: "إن أحق الشرط أن يوفى به" جه: 1/ 628؛ حَم: 4/ 144 بلفظ "أن يوفى به": 4/ 150 بلفظ: "أن توفوا به"؛ انظر 11 كتاب النكاح، 21 باب الشرط في النكاح بلفظ: "أن توفوا به" دَي: 2/ 464؛ انظر 1 كتاب الصداق، 1 باب الشروط في النكاح. هَق: 7/ 248.
(1)
* أي سواء انعقد النكاح على الشرط أو لحق الشرط بالنكاح. اهـ. تع ابن عاشور.
[وقول سعيد بن المسيب هو مذهبه ومذهب عطاء والشعبي والزهري وقتادة والحسن وابن سيرين. وروى النخعي: كل شرط في نكاح فإن النكاح يهدمه إلا الطلاق. الخطابي. إعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: 3/ 1980. أخرج الحديث عبد الرزاق في مصنفه في النكاح، باب الشرط في النكاح: 6/ 225، 10602؛ وفي البيوع، باب الشرط في البيع: 8/ 56، 14289، موسوعة فقه إبراهيم النخعي: 2/ 677].
(2)
بالطبعة الأولى كلام آخر أسقطه المؤلف. وهو قوله: وعللوه بما ينافي ما كنا نقرره في اعتبار الصداق. وعوضه بما ها هنا. ط. الاستقامة: 176.
(3)
* انظر قولَ مالك رحمه الله فيما لا يجوز من الشروط في النكاح في: =
بمحض اختيار الزوج وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم شرطاً، وقال إنه أحق الشروط أن يوفى به. على أنه إذا كان على الطوع كان أحق بأن لا يلزم الوفاء به من الذي اشترطته المرأة، وما تزوجت إلا على اعتباره] (1).
وأما حكم الحاكم بالطلاق أو بالفسخ فلأجل الضرر، أو لكون النكاح وقع على غير الصفة التي عيّنت له في الشرع.
وانحلال آصرة النسب نيط بآصرة البنوّة لأنها أصل النسب كما قلنا، وعلى نحوها تثبت الأبوّة والأمومة ثم بقية تفاريع النسب. فإذا تقررت البنوّةُ تقرّر ما سواها وإذا انتفت انتفى.
= الموطأ، وكلام ابن العربي في كتاب القبس. اهـ. تع ابن عاشور.
[وروى الإِمام مالك بلاغاً أنّ سعيد بن المسيب سُئل في المرأة تشترط على زوجها أن لا يخرج بها من بلدها. فقال: يخرج بها إن شَاء. ثم ذيل ذلك بقوله: "فالأمر عندنا أنّه إذا اشترط الرجل للمرأة، وإن كان ذلك عند عقدة النكاح (أن لا أنكح عليك ولا أتسرَّرُ): أن ذلك ليس بشيء إلا أن يكون في ذلك يمينٌ بطلاق أو عتاقة، فيجب ذلك عليه ويلزمه. انظر 28 كتاب النكاح، 6 باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، ح 16. طَ: 2/ 530.
وقال ابن العربي: إن هذا الشرط يخالف القوامة
…
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} النساء: 34. فعلى هذا يكون الشرط ساقطاً
…
واختار علماؤنا قول سعيد، وحملوا الشروط الواقعة في إحلال الفرج ما تعلق بالنكاح من صداق ونحلة وجهاز وشورة مما تنمى معه الحالة وتتمكن به الألفة، لا فيما يناقض موضوعه ويخالف مقتضاه. وتقصّى مالك رضي الله عنه الشروط المقترنة بالعقود في فتاويه، فرآها على ثلاثة أقسام: منها شرط يُبطل العقد رأساً، ومنها شرط يَبطل في نفسه، ومنها شرط إن عزل عن العقد صح وإن ربط به بطل. ابن العربي. القبس: 2/ 699 - 700].
(1)
الإضافة من ط. الاستقامة: 176. وقد ضرب عليها المؤلف بخطه.
وإطلاق اسم الانحلال على إبطال آصرة النسب فيه تسامح، لأنه ليس بانحلال ما كان منعقداً، ولكنه كشف لبطلان ما كان يُظنّ أنه نسب. فأما النسب الثابت فلا يقبل انحلالاً ولا إسقاطاً.
ولهذا الانحلال طريقان: أولهما اللعان، وثانيهما إثبات انتساب الولد إلى أب غير الذي ينسبه إلى نفسه أو ينسبه الناس إليه. فأمّا اللعان فأحكامه مقررة في الفقه.
وقد ألغى الرسول عليه الصلاة والسلام الاعتماد في نفي النسب على عدم الشبه بالأب لأنه ليس بسبب صحيح (1) *. وقد كان العرب
(1) * كما وقع في حديث ضمضم الفزاري في الصحيحين. وصرح في رواية مسلم أنه لم يرخص له الانتفاء منه. اهـ. تع ابن عاشور.
[الحديث حديث أبي هريرة قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ولد لي غلام أسود. فقال: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر. قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم. قال: "فأنّى ذلك؟ " قال: لعله نَزَعه عِرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه". انظر 68 كتاب الطلاق، 26 باب إذا عرض بنفي الولد خَ: 6/ 178.
وبمثله عن أبي هريرة أيضاً. انظر 19 كتاب اللعان، ح 18. مَ: 2/ 1137، وفي حديث معمر:"فقال: يا رسول الله: ولدت امرأتي غلاماً أسود، وهو حينئذ يعرّض بأن ينفيه"، وزاد في آخر الحديث:"ولم يرخّص له في الانتفاء منه": 19 كتاب اللعان، ح 19 مَ: 2/ 1137.
قال النووي: وفي هذا الحديث أن الولد يلحق الزوج ولو خالف لونه لونه
…
وأن التعريض بنفي الولد ليس نفياً، وأن التعريض بالقذف ليس قذفاً. وهو مذهب الشافعي وموافقيه. وفيه إثبات القياس والاعتبار بالأشباه وضرب الأمثال. وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإمكان. وقوله في رواية:"إني أنكرته" معناه استغربت بقلبي أن يكون مني، لا أنه نفاه عن نفسه بلفظه. النووي: 10/ 133 - 134].
وكثير من الأمم يغلطون في ذلك ويبنون عليه الطعن في الأنساب جهلاً.
وأما الطريق الثاني، وهو إثبات انتساب ولد إلى أب غير الذي ينتسب إليه أو ينسبه الناس إليه، فقد ابتدأ ذلك في الشريعة الإِسلامية بإبطال ما كان من التبنّي بقوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1). فذلك رجع بالناس إلى ما يعلمون من إثبات أنساب الأدعياء إلى آبائهم الأصليين، مثل زيد بن حارثة (2)، إذ كان يدعى زيد بن محمَّد صلى الله عليه وسلم. ومثل سالم مولى أبي حذيفة (3) إذ كان يدعى ابن أبي
(1) الأحزاب: 54.
(2)
هو أبو أسامة. وأمه سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن. أغير عليه وهو ابن ثمان سنين، وبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة أم المؤمنين. ولما تزوجت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته الغلام، وحضر أبوه حارثة وعمه كعب في فدائه، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشهد من حضر: إن زيداً ابني يرثني وأرثه. ودعي بعد ذلك زيد بن محمَّد حتى نزلت الآية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الأحزاب: 5.
قال بعضهم: زيد بن حارثة أول من أسلم من الذكور. زوّجه رسول الله مولاته أم أيمن، ثم تزوّج زينب بنت جحش. وكان ينعت بحب رسول الله. تولى إمارة الجيش سنة ثمان. وقتل في غزوة مؤتة. ابن حجر. الإصابة: 1/ 563؛ ملا علي القاري. مرقاة المفاتيح: 2/ 80.
(3)
هو الفارسي المهاجري الأنصاري. لم يكن مولى لأبي حذيفة، وإنما كان يلازمه. وهو من حلفائه كما وقع في رواية لمسلم. وعن أبي داود: هو سالم بن معقل مولى فاطمة بنت يعار، أعتقته سائبة، فوالى أبا حذيفة فتبناه. شهد اليمامة واستشهد، وكان معه لواء المهاجرين. ابن حجر. الإصابة: 2/ 6؛ الكاندهلوي. أوجز المسالك: 10/ 308.
حذيفة. فكان ذلك حقاً مستمراً لكل من يجد نسباً غيرَ حقّ أن يُثبت انتسابه الحق، وينفي انتسابه غير الحق بالبينة الظاهرة أو بالإقرار الذي لا تهمةَ فيه.
وقد حفظت الشريعة في هذا الطريق الثاني حق الولد المنتسب أن يدافع عن نسبه، ولذلك قال علماؤنا بأن لا تعجيز في حق إثبات النسب.
وانحلال آصرة الصهر تابع لانحلال آصرة أصل منشئه على تفصيل فيه. فمنه انحلال تام مثل أخت المرأة وعمّتها وخالتها إذا انفكت عصمة تلك المرأة بموت أو طلاق، ومنه ما لا انحلال فيه مثل أم الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والربائب.