المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌و - بيان المصلحة والمفسدة - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

‌و - بيان المصلحة والمفسدة

أما المصلحة: فهي كاسمها شيء فيه صلاح قوي. ولذلك اشتق لها صيغة المَفْعَلة الدالة على اسم المكان الذي يكثر فيه ما منه اشتقاقه، وهو هنا مكان مجازي.

ويظهر لي أن نعرفها بأنها وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد.

فقولي: "دائماً"، يشير إلى المصلحة الخالصة والمطّردة، وقولي:"أو غالباً"، يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي:"للجمهور أو للآحاد"، إشارة إلى أنها قسمان كما سيأتي (1).

وعرف عضد الدين في شرح مختصر ابن الحاجب الأصلي المصلحةَ بأنها اللذة ووسيلتها (2). وعرفها هو في المواقف بأنها ملاءمة الطبع (3).

وعرفها الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف - بما

(1) انظر إثر هذا: وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة

وقد لاح من التعريف أن المصلحة قسمان: مصلحة عامة وهي ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور، ومصلحة خاصة وهي ما فيه نفع الآحاد. وقد زاد ذلك بياناً وتفصيلاً: 253 - 258.

(2)

النص عنده: المصلحة اللذة ووسيلتها، والمفسدة الإثم ووسيلته، وكلاهما نفسي وبدني، دنيوي وأخروي. العضد الإيجي. شرح مختصر المنتهى: 2/ 239.

(3)

اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم. والملائم هو كمال الشيء الخاص به. المقصد الأول. العضد الإيجي. شرح المواقف: 158 ص 146 ج 3 طبع الأستانة. اهـ. تع ابن عاشور.

ص: 200

يتحصل منه بعد تهذيبه - أنها ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمةً قارة في النفوس في قيام الحياة (1). وهو أقرب التعاريف السابقة على تعريفنا، ولكنه غير منضبط.

وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة. وهي وصف للفعل يحصل به الفساد، أي الضر دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد.

(1) انظر ص 13 وصفحة 14 من ج 2، طبع تونس [= (2) 1/ 241 - 259 = (3) 2/ 24، 25 = (4) 2/ 44]. اهـ. تع ابن عاشور.

وكذا ما ورد من أحكام وتقسيمات للمصلحة والمفسدة عند الشاطبي: (3) 2/ 25 - 48. ومن المناسب في هذا المقام أن نذكّر بجملة تعريفات للمصلحة وردت في كتب الأصوليين. فهي عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة. والمقصود من هذا أن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم. قال الغزالي: المصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة. وهي الكليات الضروريات. فكل ما تقع به المحافظة على هذه الأصول مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول مفسدة. شفاء الغليل: 102؛ المستصفى: 1/ 284. وإلى مثل هذا ذهب الخوارزمي. فالمصلحة عنده المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. قاله في الكافي. انظر الزركشي، البحر: 6/ 76.

وقال الصفي الهندي عند تعريف المناسب: فهو في الاصطلاح الملائم لأفعال العقلاء في العادات، أو الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاء. والمراد بالتحصيل جلب المنفعة، وهي عبارة عن اللذة وما يكون طريقاً إليها، وإزالة المضرة وهي الإثم وما يكون طريقاً إليه. نهاية الوصول في دراية الأصول: 8/ 287. وفسر الطوفي المصلحة بقوله: إن المصلحة بحسب العرف تطلق على السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الإطلاق الشرعي هي عبارة عن السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة. ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وإلى ما يقصد لنفع المخلوقات وانتظام أحوالهم كالعادات. مصطفى زيد. المصلحة في الشريعة الإسلامية:48.

ص: 201

وقد لاح من التعريف أن المصلحة قسمان:

مصلحة عامة: وهي ما فيه صلاحُ عموم الأمة أو الجمهور، ولا التفاتَ منه إلى أحوال الأفراد إلّا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة، مثل حفظ المتموّلات من الإحراق والإغراق. فإن في بقاء تلك المتموّلات منافع ومصالح، هي بحيث يستطيع كل من يتمكّن من الانتفاع بها نوالها بالوجوه المعروفة شرعاً. فإحراقها وإغراقها يفيت ما بها من المصالح عن الجمهور. وهذا هو معظم ما جاء فيه التشريع القرآني. ومنه معظم فروض الكفايات، كطلب العلم الديني والجهاد وطلب العلم الذي يكون سبباً في حصول قوة للأمة.

ومصلحة خاصة: وهي ما فيه نفع الآحاد باعتبار صدور الأفعال من آحادهم ليحصل بإصلاحهم صلاح المجتمع المركب منهم. فالالتفات فيه ابتداء إلى الأفراد، وأما العموم فحاصل تبعاً. وهو بعض ما [جاء] به التشريع القرآني، ومعظم ما جاء به في السنة من التشريع. وهذا مثل حفظ المال من السرف بالحجر على السفيه مدة سفهه (1). فذلك نفع لصاحب المال ليجده عند رشده أو يجده وارثه من بعده وليس نفعاً للجمهور.

ويحق على العالِم أن يغوص برأيه في تتبع المصالح الخفية. فإنه يجد معظمها مراعًى فيه النفع العام للأمة والجماعة، أو لنظام العالم. مثل الدية في قتل الخطأ فإنها وجبت على القرابة من القبيلة (2)، وليس

(1) وذلك عندما يكون منه تبذير المال على خلاف مقتضى الشرع أو العقل. وهذا كالإسراف في النفقة، وأن يتصرف تصرفات لا لغرض، أو لغرض لا يعده العقلاء من أهل الديانة غرضاً، والغبن في التجارات من غير محمدة قول الصاحبين والشافعي. ابن عابدين: 5/ 192.

(2)

الدية ترضية لأهل القتيل. والأحق بها الأقرب، وهم ورثة القتيل على حسب الميراث، وتجب على العاقلة وهي القرابة من القبيلة. تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدم فى التعصيب. وأكثر ما ورد في السُّنة من =

ص: 202

فيها في ظاهر الأمر نفع لدافعيها، حتى قال زهير:

تُعَفَّى الكلوم بالمئينَ فأصبحت

يُنَجِّمها من ليس فيها بمجرم (1)

وفيها مصلحة خاصة للقاتل خطأً إذ استُبقي مالُه. ولو كان النظر إلى تلك المصلحة الخاصة لكان النظرُ يوجب إلغاء مصلحة القاتل في مقابلة مضرة أقاربه من قبيلته. ولكن غوص النظر ينبئنا بأنها روعي فيها نفع عام، وهو حق المواساة عند الشدائد، ليكون ذلك سنة بين القوم في تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة. فهي نفع مدّخَر لهم في نوائبهم كما قال الله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (2)، مع ما في ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنتزع الإحن من قلوبهم. تلك الإحن التي قد تدفعهم إلى الاجتراء على إذاءة القاتل، فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم. ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه أو لصار بحالة فقر. فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق.

ومثال مراعاة مصلحة نظام العالم حياطةُ الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم، ولو في الأحوال التي يظن

= تقدير الدية هو مائة من الأبل مخمسة: عشرون حقة، وعشرون جَذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون. وفي دية العمد تكون مربعة خمس وعشرون من كل صنف من الأصناف الأربعة الأول. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 5/ 159، 160.

(1)

البيت الرابع والعشرون من معلقة زهير بن أبي سلمى التي طالعها:

أمن أم أوفى دمْنة لم تكلم

بحَومانة الدراج فالمتثلم

التبريزي. شَرح القصَائد العشر: 138؛ ابن النحاس: 110.

أورده المؤلف مشيراً به إلى أن الدية كانت أيضاً عند العرب على ما يتراضون عليه. وذلك قوله: وإذا رضي أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. ابن عاشور. التحرير: 5/ 159.

(2)

البقرة: 237.

ص: 203

فوات المصلحة من سائر جوانبها، كما يقال في الشيخ الهرم المنهوك بالمرض، الفقير الجاهل الذي لم يبق فيه رجاء نفع ما، فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس، لأن مصلحة نظام العالم في احترام بقاء النفوس في كل حال، مع الأمر بالصبر على ما يلوح من شدة الأضرار اللاحقة لحياة بعض الأحياء، كيلا يتطرق الوهن والاستخفاف بالنفوس إلى عقول الناس، فتتفاوت في ذلك اعتباراتهم تفاوتاً ربما يفضي إلى خرق سياج النظام. فالحفاظ على ذلك تأمين للأحياء من تلاعب أهواء الناس وأهواء نفوسهم بهم، وتأمين لنظام العالم من دخول التساهل في خرم أصوله.

هذا وتحقيق الحد الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة، ولكنه ليس عسيراً في الاعتبار والملاحظة، لأن النفع الخالص والضر الخالص وإن كانا موجودين إلّا أنهما بالنسبة للنفع والضر يعتبران عزيزين.

ولذلك قال عز الدين بن عبد السلام في الفصل الثالث من قواعده: "واعلم أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود. فإن تحصيل المنافع المحضة للناس كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعي في تحصيلها بمشقة الكد والنصب. فإذا حصلت فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينغصها"(1). وقال فيه أيضاً: "واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد

ولا يُقدَّمُ الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقيٌ متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت" (2).

(1) نقل بتصرف. العز بن عبد السلام. كتاب القواعد. فصل فيما تعرف به المصالح والمفاسد، وفي تفاوتهما: 1/ 7.

(2)

نقل بتصرف. العز بن عبد السلام. القواعد: 1/ 7.

ص: 204

وقال الشاطبي في المسألة الخامسة من أول كتاب المقاصد من الموافقات: "فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غَلب. فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عُرفاً. وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عُرفاً. ولذلك كان الفعلُ ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة. وإذا غلبت جهةُ المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله"(1) اهـ.

وإياك أن تتوهم من كلامهما اليأسَ من وجود النفع الخالص والضر الخالص، فإن التعاون الواقع بين شخصين هو مصلحة لهما وليس فيه أدنى ضر، وإن إحراقَ مال أحد إضرار خالص. على أننا لا نلزم فرض الأمرين في خصوص تعامل شخصين أو أكثر بل إذا صورناه في فعل الشخص الواحد نستطيع أن نكثر من أمثلته. على أن بعض المضرة قد يكون لضعفه مغفولاً عنه ممّن يلحقه، فذلك منزّلٌ منزلة العدم، مثل المضرة اللاحقة للقادر على الحمل الذي يُناول متاعاً لراكب دابة سقط منها متاعه. فإن فعله ذلك مصلحة محضة للراكب، وإن ما يعرض للمناول من العمل لا أثر له في جلب ضر إليه. وكأنّ عز الدين تصور ذلك عزيزاً، لأنه نظر إليه من جهة المعاملة بين شخصين.

وقد حام ذانك الإمامان حول تحقيق الضابط الذي به نعتبر الوصف مصلحة أو مفسدة، لكنهما لم يقعا عليه.

(1) الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 15 = (2) 2/ 17 = (3) 2/ 26 = (4) 2/ 44، 45.

ص: 205

وأنا أقول تبعاً لذلك: إن ضابط تحقُّق ذلك الحد أحدُ خمسةِ أمور.

أولها أن يكون النفع أو الضر مُحَقَّقاً مطَّرِداً. فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء، وبنور الشمس، والتبرد بماء البحر أو النهر في شدة الحر، مما لا يدخل في الانتفاع به ضرُّ غيره. والضرّ المحقَّق مثل حرق زرع لقصد مجرد إتلافه من دون معرفة صاحبه ولا تشف، وكما حرق (نيْرون)(1) مدينة رومة.

الثاني أن يكون النفعُ أو الضر غالباً واضحاً تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضدُّه عند التأمل. وهذا أكثرُ أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع. وهو الذي لاحظه عزّ الدين والشاطبي، مثل إنقاذ الغريق مع ما فيه من مضرة للمنقذ كشدّة التعب أو شدّة البرد أو حدوث مرض، لكنها لا تُعدُّ شيئاً في جانب مصلحة الإنقاذ، وأمثلة هذا كثيرة في معظم المصالح والمفاسد.

الثالث أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد، مثل شرب الخمر. فقد اشتمل على ضُرٍّ بيِّن وهو إفساد العقل وإحداث الخصومات وإتلاف المال، واشتمل على نفع بيَّن وهو إثارة الشجاعة والسخاء وطرد الهموم. إلّا أننا وجدنا مضارَّه لا يخلُفُها ما يصلحها، ووجدنا منافعه يَخلُفها ما يقوم مقامها من الحث على الخير بالمواعظ الحسنة والأشعار البليغة.

(1) الأمبراطور الروماني 37 ميلادي، عهد إليه بالأمبراطورية سنة 54 م وبعد سنين من الحكم - لا تتجاوز خمسة أعوام - أثار الحفائظ واشتد ظلمه وطغيانه، وثار عليه الولاة، وقضى منتحراً في 9 يونيو 68 م.

ص: 206

وقولي: "أن لا يمكن الاجتزاءُ عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد". فيه إجمال في استخلاص المراد دعاني أن أشرح هذه الجملة.

اعلم أن المقصود من هذا القسم الثالث تصويرُ مرتبة في النفع أو الضر دونَ مرتبة القسم الثاني (1) وفوقَ مرتبة القسم الرابع (2).

فالمراد بقولي: "أن لا يمكن": أن لا يُلفِيَ المجتهدُ عند سَبره مراتبَ المصلحة أو المفسدة من حيث إنها خالصةٌ أو مختلطةٌ بضدها، بعد السبر والبحث عن المُعارض.

فالمراد بكلمة "الاجتزاء": الاكتفاءُ، أي اقتناع المجتهد بتحقّق وصفٍ للفعل غير الوصف الذي بَدَا له في ذلك الفعل المبحوث عن وصفه. فمعنى الاجتزاء: الاعتياضُ عنه بوصف آخَرَ، بحيث لا محيص للفعل الموصوف عن مقارنة الوصف إياه، على حاله في النفع أو الضر دون تخفيف في ذلك.

ومعنى قولي: "بغيره"، أي بوصف آخر من نوع النفع بالنسبة إلى الوصف النافع، أو من نوع الضر بالنسبة إلى الوصف الضار.

والضميران في قولي: "عنه" وقولي: "بغيره" عائدان على النفع أو على الضر. فجاء الضميران مفردين، لأن المَعَاديْن متعاطفان بـ (أو)(كما ذُكر ذلك في الضابط الأول)، و (أَوْ) لأحد الشيئين.

ومعنى قولي: "لا يخلفها ما يصلحها" أن لا توجد حالة

(1) الذي يكون النفع أو الضر غالباً واضحاً فيه.

(2)

الذي يأتي، وهو ما يكون النفع أو الضر فيه مع مساواته لضده معضوداً بمرجع من جنسه.

ص: 207

تشتمل على وصف مع الأوصاف المذكورة يُعدِّل فسادَها وضُرَّها أو ينفيه من أصله، بحيث نظن أن أوصاف فسادِها مطردةٌ ملازمَةٌ للفعل لا تتخلف عنه إلا في أحوال طَردْية لا يَعتدُّ بها الشارع، شأنَ كل الأوصاف الطردية. وهذا مثل البُطءِ أو السرعة في حصول نَشوة الخمر لشاربيها، ومثلُ تناول الخمر صرفاً أو ممزوجة. فعند عروض الأحوال الطردية لا يجوز التسامح في الاعتداد بالوصف، وترتُّبِ أثره على طمع أن يَخِفَّ فساده وضره في نادر الأشخاص أو نادر الأوقات، إذ العبرة في مناط الأحكام هي الأحوال الغالبة.

ومثال هذا أن لا نلتفت إلى قول عُمارة بن الوليد بن المُغيرة (1) يخاطب امرأته، وكانت شَرَطَت عليه عند تزوّجه أن يترك الشُّرب، ثم شَرب واعتذَر لها بشعر منه قوله:

أَسَرَّكِ لمّا صَرَّعَ القومَ نَشوةٌ

خُروجيَ منها سالماً غيرَ غارم

بريئاً كأنِّي قبلُ لم أكُ منهم

وليس النزاع مُرتضًى في المكارم (2)

(1) عُمارة بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. شاعر جاهلي مات على كفره. أرسلته قريش إلى النجاشي، فجرت له معه قصة أصيب بإثرها بعقله وهام مع الوحوش. ابن حجر. الإصابة: 3/ 171، 6817.

(2)

في البيت الأول رواية أخرى بلفظ: "أن اخرج" بدل "خروجي"، وورد الثاني بلفظ:

خَلياً كأنّي لم أكن كنت فيهُمُو

وليس الخداع مرتضى في التنادم

والبيتانَ يتقدمهما بيتان آخرانَ هما:

ولسنا بشَرب، أمَّ عمرو، إذا انتشوا

ثيابُ الندامى عندهم كالغنائم

ولكننا يا أم عمرو نديمنا

بمنزلة الريّان ليس بعائم

الأصبهاني. الأغاني: 18/ 72 وما بعدها.

ص: 208

فهذا شخص نادر، إن كان صادقاً فيما زعمه. فلا يؤثر مِثلُه نقضاً لكلية الحكم الشرعي.

ومما يصلح مثالاً للاجتزاء عن الوصف بغيره في صورة الضُّر تجارةُ المسلم في الخمر مع غير المسلمين، فإنَّ ما يُتوقع في شرب الخمر من المفاسد حاصل من الكافر والمسلم سواء، لارتفاع الوازع باختلال العقل. لكنْ يخلُفُ ما فيها من الضُّر في هذه الحالة شيءٌ قد يكون مسيغاً للتسامح في الإذن بالتجارة فيها مع الكفار. وهو: أن الضر الذي يصدر من الكافر لا يعدو قومَه وأهلَ مَحلته أو بلده غالباً. فالمسلمون في أمن من إضرار أهل الكفر، ويُضم إليه أن المسلمين غير مطالبين بحمل أهل الذمة على ترك ما تبيحه لهم ملَّتُهم. فبهذا قد يُعتبر الضر في التجارة بالخمر مع الكفار أضعفَ من النفع الحاصل للمسلمين بأرباح تجارة الخمر. فجانب ما في التجارة بها معهم من النفع قد يُرجَّحُ على جانب المفاسد اللاحقة لهم، أو يرجّح على ذريعة أن يتناولها المسلمون في حانات أهل الذمة أو في ديارهم. فإذا تكاثر تردد المسلمين على حاناتهم أَمْكنَ تحجير التجارة في الخمر تحجيراً خاصاً ببعض الأوقات أو بعض الجهات بحسب فُشُوِّ ذلك.

الرابع أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساوياً لضده معضوداً بمرجِّح من جنسه، مثل تغريم الذي يُتلف مالاً عمداً قيمة ما أتلفه. فإن في ذلك التغريم نفعاً للمتلَف عليه، وفيه ضررٌ للمتلِف، وهما متساويان. ولكن النفع قد رجّح بما عضَّده من العدل والإنصاف الذي يشهد أهل العقول والحكماء بأحَقِيَّتِه.

الخامس أن يكون أحدهما منضبطاً محقَّقاً والآخر مضطرباً.

ص: 209

وهو مثل الضر الذي يحصل من خطبة المسلم على خطبة أخيه، ومن سومه على سومه، الواقع النهيُ عنهما في حديث الموطأ عن أبي هريرة (1). فإن ما يحصل من ذلك عند مجرد الخِطبة والتساوم قبل المراكنة والتقارب ضررٌ مضطرب، لا ينضبط ولا تجده سائر النفوس. فلو عملنا بظاهر الحديث لكانت المرأة إذا خطبها خاطب ولم تتم خطبته، والسلعةُ إذا سامها مساوم ولم يُرض السومُ ربَّها، أن يحظر على الرجال خطبة تلك المرأة وسوم تلك السلعة. ففي هذا فساد للمرأة، ولصاحب السلعة، وفساد يدخل على الناس الراغبين في تحصل ذلك.

فلذلك قال مالك في الموطأ بعد أن ذكر حديث الخطبة: "وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نَرى، والله أعلم، [لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه] أن يخطب الرجل المرأة، فتَركنَ إليه، ويتفقان على صداق [واحد معلوم] وقد تراضيا، [فهي تشرط عليه لنفسها]. فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يَعن بذلك إذا خطب الرجل المرأةَ فلم يوافقها أمرُه، ولم تَركن إليه، أن لا يخطبها أحد. فهذا بابُ فسادٍ يدخل على الناس"(2).

وقال في باب ما ينهى عنه من المساومة بعد أن ذكر حديث ابن عمر وأبي هريرة: "ولا يَبعْ بعضكم على بيع بعض"(3). وتفسير

(1) تقدم 26/ 2، 58/ 1 - 2.

(2)

تقدم في 26/ 2 - 27/ 1.

(3)

انظر 31 كتاب البيوع، 45 باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، ح 96. ونصّه كاملاً: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تلَقّوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لبادٍ، ولا تصروا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظر من بعد أن =

ص: 210

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى، والله أعلم:"أنه إنما نَهى أن يَسُومَ الرجلُ على سَوْمِ أخيه، إذا ركن البائعُ إلى السائم. وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم. فهذا الذي نُهي عنه .... ولو ترك الناسُ السوم عند أول من يسوم بها أُخِذت بشبه الباطل في الثمن، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه"(1).

قال عز الدين بن عبد السلام: "قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد: وأما مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها وأسبابها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحَها ومرجوحَها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام. فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلّا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته"(2).

وقال في أول الفصل الثالث من قواعده: "إن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وإن تقديم أرجح المصالح فأرجحِها ودرء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على تقديم

= يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر". طَ: 2/ 683، 684.

(1)

شرح مالك للحديث. طَ: 2/ 684.

(2)

نقل بتصرف قليل من الفصل العاشر ما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدها. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 10.

ص: 211

المصالح المرجوحة محمود حسن. اتفق الحكماء على ذلك

وإن اختُلف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي أو الرجحان" (1).

وقال أيضاً في المثال الحادي والعشرين من أمثلة ما خالف القياس من المعاوضات: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص. فإن فَهْمَ نفسِ الشرع يوجب ذلك. ومَثَلُ ذلك: من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وأَلِفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة

وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر الخالص.

وإنما الإشكال إذا لم تفهم خير الخيرين وشر الشرين، أو تعرف ترجيح المصلحة على المفسدة، أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة. ومن المصالح والمفاسد ما لا يعرفه إلّا كلُّ ذي فهم سليم وطبع مستقيم، يعرف بهما دِقَّ المصالح والمفاسد وجلَّهما وأرجحهما من مرجوحهما. ويتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته. وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه [الأخرق] المفضول ولكنّه قليل" (2) اهـ.

(1) نقل بتصرف قليل من الفصل الثالث فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 5، 6.

(2)

نقل بتصرف. ابن عبد السلام. القواعد: 2/ 189.

ص: 212

وقد أتى في فصل اجتماع المصالح والمفاسد بأمثلة كثيرة:

أحسنها: "أن الحجر على المريض فيما زاد على ثلث ماله مضرة له ومفسدة تلحقه، لكنه مصلحة لورثته. فقُدِّم حقُّ ورثته في ثلثي ماله"(1).

"وأنَّ وضع يد غير المالك على الملك مفسدة للمالك. ولذلك وجب الضمان بالإتلاف. ولم تُعتبر هذه المفسدةُ في تصرفات الحكام إذا أخطؤوا في الاجتهاد في الحكم. فلم يجب الغُرم على الحاكم تقديماً لمصلحة إقدام القضاة على مفسدة المحكوم عليه خطأ"(2).

وقد يسمى الصلاح خيراً والمفسدة شراً كما ورد في حديث حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه"(3). وكما ورد في قول أبي بكر لعمر

(1) نقل بتصرف. المثال الثامن عشر. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 104، 105.

(2)

نقل بتصرف. انظر المثال الثاني والعشرين. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 106.

(3)

انظر 61 كتاب المناقب، 25 باب علامات النبوة، ح 34. خَ: 4/ 178؛ 92 كتاب الفتن، 11 باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة. خَ: 8/ 92، 93، وتمام الحديث: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخَنُه؟ قال: قوم يستنّون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوهم فيها. فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله فما تَرى إن أدركني =

ص: 213

في جمع القرآن، إذ قال:"هو والله خير"(1)، أي جمعه في مصحف.

ويتحصَّل مما ذكرناه علمٌ بأن تشريع جلب المصالح ليس فيه تحصيل مفسدة، وأن تشريع درء المفاسد ليس فيه إضاعة مصلحة. بل التشريع كله جلب مصالح، لأن طرف المفسدة المغمور في جانب المصلحة الغامرة، أو طرف المصلحة المغمور في جانب المفسدة الغامرة لا يؤثر في نظام العالم شيئاً. وإذا تعطّل حصول الأثر بوجود مانع من تأثير المؤثِّر لم يبق عبرةٌ بوجود المؤثر.

ومنه نعلم أن ليست المصلحة هي مطلق الملائم ولا المفسدة هي مطلق المنافر والمشقة. فإن بين المصلحة والمفسدة وبين ما ذكرناه عموماً وخصوصاً وجهياً، ولذلك أثبت القرآن أن في الخمر والميسر منافع إذ قال:{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) وليست تلك المنافع بمصالح لأنها لو كانت مصالح لكان تناوله مباحاً أو واجباً.

= ذلك. قالَ: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". انظر 33 كتاب الإمارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، ح 51. مَ: 2/ 1475، 1476؛ انظر 29 كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، ح 4244 وما بعدها. دَ: 4/ 444؛ انظر 36 كتاب الفتن، 13 باب العزلة، ح 3979. جَه: 2/ 1317.

(1)

قال أبو بكر: فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر

ولم يزل أبو بكر يراجع (زيد بن ثابت) حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. السجستاني. كتاب المصاحف: 6 وما بعدها؛ انظر 66 كتاب فضائل القرآن 3 باب جمع القرآن. خَ: 6/ 98.

(2)

البقرة: 219.

ص: 214

وقد تقدم في مقصد الفطرة ما يجب أن نتذكره هنا فَعُدْ إليه (1).

ويجب التنبه إلى أن المفسدة الراجحة على جانب المصلحة أو الخالصة نجدها متفاوتة في جنسها تفاوتاً بيّنًا، تنبئ عنه آثار الأفعال المشتملة على المفاسد في خَرم المقاصد الشرعية، والكليات الضرورية أو الحاجية أو بعض التحسينية القريبة من الحاجية. وتنبئ عنه أيضاً مقادير أثرها من الإضرار والإخلال في أحوال الأمة بكثرة ذلك وقِلَّته وانتشاره وانزوائه وطول مدته وقصرها مع اختلاف العصور والأحوال.

فالمنهيات كلها مشتملة على المفاسد. ومع ذلك فقد رتبتها الشريعة مراتب مجملة فصلها الفقهاء من بعد. فقد جاء في الشريعة ذكع الفواحش والكبائر واللمم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (2)، وجاء ذكر الإثم والبغي:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (3)، وجاء وصفُ المنهيات بأن بعضها أكبرُ من بعض:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (4). وفي أحاديث من الصحيح ذكرُ أكبر الكبائر (5) أو ذكر جواب أي الذنب أعظم، مرتباً بعضها عقب بعض (6).

(1) انظر ضابط حصول النفع والضر: 206 - 211.

(2)

النجم: 32.

(3)

الأعراف: 33.

(4)

البقرة: 217.

(5)

تقدم ذكره: 186/ 2.

(6)

كحديث عبد الله قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ =

ص: 215

وقد ذكر القرآن الفساد مطلقاً تارة، ومقيّداً بالكِبَر تارة فقال:{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1)، وقال:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (2)، وقال:{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (3).

وباعتبار مقادير المفاسد جعل الصحابة عقوبة اللوطيَيْن - بصيغة التثنية - الرجم مساوية عقوبة الزاني المحصن، سواء كانا محصنين أم لم يكونا محصنين، لأنهم وجدوا مفسدة ذلك أشد، والعذر عن فاعله أبعد (4).

= قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: قلت له: إن ذلك لعظيم. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك". انظر 1 كتاب الإيمان، 37 باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، ح 141، 142. مَ: 1/ 90، 91. وهو بمعنى حديث أنس المذكور أعلاه: 186/ 2.

(1)

القصص: 4.

(2)

البقرة: 12.

(3)

الفجر: 12. ليس وصف الإكثار من الفساد في هذه درجة دون الطغيان في البلاد، وما ارتكبه فرعون ذو الأوتاد. ف 12 تابعة لما قبلها 9 - 11. والفساد هو بمعنى الطغيان وهو شدة العصيان والظلم. وهو يجزئ صاحبه على دحض حقوق الناس. فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملئه. فكل واحد منهم يطغى على من دونه وذلك فساد عظيم. وهو من جهة أخرى بما يثيره من الحفائظ والضغائن في المطغي عليه

فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتحد على أعدائها، فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل. وذلك يفضي إلى فساد عظيم. فلا جرم أن كان الطغيان سبباً لكثرة الفساد. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 30/ 321.

(4)

في إقامة الحد عليهما حديث عكرمة، يرويه الخمسة إلا النسائي. ونصه:"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". ورغم ما قيل في الحديث ورجاله فإن الصحابة اتخذوا منهما موقفاً. =

ص: 216

وجعل علي بن أبي طالب عقوبة شارب الخمر مساوية حد القذف، لما رأى القذف مظنة لازمة للسكران غالباً (1).

وكذلك تجد آثار هذا المعنى ظاهرة في تصرفات الصحابة ومن بعدهم في مراتب العقوبات والعفو. فعقوبة الحرابة جعلت أشدّ من عقوبة قتل الغيلة في التنكيل وعدم قبول العفو: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2).

= قال علي بن أبي طالب: هذا ذنب لم تعصِ به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع بها ما قد علمتم. نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرق بالنار.

وذهب الشوكاني إلى وجوب إقامة الحد عليهما وقتلهما بالرجم أو السيف أو الرمي من شاهق ونحوه. ثم ذيّل بيان الحكم عند الصحابة وعند أئمة مختلف المذاهب بقوله: وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين. نيل الأوطار. حكم اللواط، ح 3: 7/ 288.

(1)

وذلك لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. تقدم ذكر الحديث وتخريجه: 167/ 1.

(2)

الحرابة، عند مالك، هي حمل السلاح على الناس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة بين المحارب والمحارَب سواء في البادية أو في المصر. وعقوبتها أشد العقوبات لقوله تعالَى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . المائدة: 33.

وفي الآية حدود كثيرة: القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف والنفي. وإيقاعها يكون على التخيير كما ذهب إلى ذلك مالك وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والنخعي. وعلى الإمام أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. =

ص: 217

وجعل قتل الغيلة غير قابل للعفو من الأولياء (1).

وجعلت السرقة دون ذلك، والخِلسة دون السرقة، وكذلك الاغتصاب والغصب.

وقد وضع بعض الفقهاء لبعض مراتب المفاسد أسماء ليست بالكثيرة ولا بالمطردة. فرتب الشافعيةُ مراتبَ: الحرام، والمكروه، وخلاف الأولى (2). ورتب الحنفيةُ مراتب: التحريم، وكراهة التحريم، وكراهة التنزيه (3).

= وذهب بعض العلماء إلى أن الحد في الآية للتقسيم لا للتخيير فمن قَتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن لم يقتل ولا أخذ مالاً عزر، ومن أخاف الطريق نفي، ومن أخذ المال فقط قطع. وبذلك قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي والشافعي. والعقوبة في الآية لأجل الحرابة، وليست لأجل حقوق الأفراد من الناس، فلا تسقط عقوبة المحارب بإسقاط المعتدى عليهم حقوقهم. وذلك معنى لزومها وعدم قبول العفو فيها. ابن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 180، 185.

(1)

قتل الغيلة هو القتل خفية، يخدعه ليذهب به إلى محل فيقتله فيه لأخذ المال. قال مالك: ولا عفو فيه، وصلح الولي فيه على الدية مردود، والحكم فيه للإمام. الزرقاني على خليل: 8/ 3.

(2)

الحرام ما طلب الشرِع تركه على وجه الحتم والإلزام، وهو المحظور الذي يذم فاعله شرعاً، أو ما ينتهض فعله سبباً للذم شرعاً بوجه ما من حيث هو فعل له. والمكروه ما طلب الشرع تركه لا على وجه الحتم والإلزام، وهو ما يمدح تاركه شرعاً. وخلاف الأولى هو ترك السُّنة غير المؤكدة والمستحب والمندوب لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها مثل ترك صلاة الضحى. زكي الدين شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 238، 239، ف 175 - 181.

(3)

التحريم ما اقتضى طلبَ تركه دليلٌ قطعي لا شبهة فيه. وكراهة التحريم ما اقتضى الشرع طلب تركه على وجه الحتم والإلزام بدليل ظني. وكراهة =

ص: 218