الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة
أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحَها، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها، لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها إلا وهي تريد تنفيذَ أحكامها وإيصالَ الحقوق إلى أربابها إن رام رائم اغتصابها منهم، وإلّا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها، لأن الحقوق معرَّضةٌ للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرَّضةٌ لسوء الفهم وللجهل وللتناسي.
وكلُّ واضِع نظام أو باعثِ سفير، أو موصٍ بعمل مّا، إلّا وهو في وقت وضع أعماله يُقدَّر حالةً يكون فيها حائلٌ حول مقصوده فيتخذ لذلك ما يراه من الحيطة.
فلا جَرَم أن كان من أهم مقاصد الشريعة بعد تبليغها إقامتُها وحراستُها وتنفيذُها. ولذلك لزم إقامةُ علماء للشريعة لقصد تبليغها وإقامتها. قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (1). وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني ليث حين وردوا عليه: "فارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلَّموهم"(2) *.
(1) التوبة: 122.
(2)
* رواه مالك بن الحويرث الليثي من بني ليث بن عبد مناف بن كنانة. اهـ. تع ابن عاشور. =
وتعين إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تُعين أولئك الولاة على تنفيذها. فكانت الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة لئلا تكون في بعض الأوقات معطَّلةً. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1).
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، وأقوال رسول الله وتصرّفاته في ذلك بلغت التواتر. فقد تواتر بعثهُ الأمراء والقضاةَ للأقطار النائية. وتولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُكمَ بنفسه بين المسلمين في حاضرة الإِسلام المدينة. وما توجيهُ القرآن خطاباتٍ كثرةً بضمير الجماعة إلَّا مراد به خطابُ الأمة في أعمال يعلم أنها لا تتمّ وتحصل إلا بمباشرة من ينفذها، أي أن يتولى تنفيذها نفرٌ تقيمهم الأمة لتنفيذها في أشكال ومراتب مختلفة ومتفاوتة. وليس هذا الكتاب
= [حدّث به أيوب عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث. انظر 3 كتاب العلم، 25 باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وقد بني عبد القيس أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا به مَنْ وراءهم. ولفظه مختصر. خَ: 1/ 30؛ 10 كتاب الأذان، 17 باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد. خَ: 1/ 154؛ 95 كتاب أخبار الآحاد، 1 باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ح 1. خَ: 8/ 132 - 133.
وأخرجه مسلم. ولفظه قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً. فظن أنا قد اشتقنا أهلنا. فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه. فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم": 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 53 باب مَنْ أحقّ بالإمامة، ح 292. مَ: 1/ 465 - 466. انظر 3 كتاب الأذان، 8 باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر، ح 633. نَ: 2/ 209].
(1)
الحديد: 25.
بمحل بسط الاستدلال على ذلك (1) * لأنه من علائق أصول الدين أو علم السياسة الشرعية.
إن أهمّ المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها هو بثُّ علومها، وتكثيرُ علمائها وحملِتها. وذلك فرضُ كفاية على الأمة بمقدار ما يسدّ حاجتها ويكفي مهماتها في سعة أقطارها وعظمة أمصارها. وقد استودع الله هذه الأمة كتابه مشتملاً على شرائع عظيمة تأصيلاً وتفريعاً. والرسول عليه الصلاة والسلام أمرَ أمتَه في مشاهد كثيرة بأن يبلّغ الشاهد الغائب (2)، وحثّ من يسمع مقالته على أن يعيها ويؤديها كما سمعها (3). فلم يتلبَّث سلف الأمة في إكثار مصاحف القرآن في أمصار الإِسلام، ثم في تدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلّغها عنه ثقات أمته، ثم تدوين آراء أئمة الإِسلام المعبَّر عنها بالفقه، ثم يتبع ذلك صفاتُ حملةِ الشريعة.
وتعين لتحقيق تنفيذ الشريعة إيقاعُ حرمتها في نفوس الأمة. وإن يقين الأمة بسداد شريعتها تجعل طاعتَها منبعثة عن اختيار. وأعظم الشرائع في يقين أمتها بسدادها شريعة الإِسلام، إذ قد قامت الأدلة القاطعة على أنها معصومة لأنها مستندة إلى الوحي. ولذلك لم يزل علماء الأمة حريصين على إرجاع القوانين إلى أدلة الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
(1) * مثل قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} . الحجرات: 49، وقوله:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . النساء: 35. وانظر كتابي المسمى بنقد علمي. اهـ. تع ابن عاشور.
(2)
تقدم تخريجه: 101/ 1.
(3)
هذا تمام الحديث السابق، وقد تقدم: 139/ 1.
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). وهذا خاصٌّ بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعطي مراتبَ متفاوتة لمن دون الرسول على حسب قرب حكمه من حكم الرسول عليه الصلاة والسلام. ولذلك رجّح علماؤنا أن يصرح القاضي في حكمه بمستنده فيه تحقيقاً لمعنى نفي الحرج من الحكم الشرعي بقدر الإمكان (2).
وليس بنا أن نتعرض هنا إلى مقاصد الشريعة في تبليغها وحراستها، ولا في شروط الخلفاء والأمراء وولاة الأمور من أهل الحل والعقد وقوّاد الأجناد القائمين لذلك، فإن ذلك أيضاً خارج عن
(1) النساء: 65.
(2)
وقع التحذير من انحراف الوالي والحاكم في نصوص كثيرة، منها: حديث: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"، انظر 1 كتاب الإيمان، 63 باب استحقاق الولي الغاش لرعيته النار، ح 227، 229. مَ: 1/ 150؛ وروايات أخرى منها: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة": 33 كتاب الإمارة، 5 باب فضل الإِمام العادل، ح 22. مَ: 2/ 1460؛ وأورد القرافي الحديث بصيغة قريبة: "من ولي من أمور أمتي شيئاً ثم لم يجهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام". القرافي، الذخيرة: 10/ 43؛ الفروق: 4/ 39.
وصرح اللخمي بأن: من حق الطالب إذا توجه له الحق أن يكتب له قضية بما ثبت له، وبسبب الثبوت من بيّنة، أو يمين، أو نكول، أو سقوط بيّنة - إن ظهرت -؛ لأنه يخشى أن يقوم عليه بعد ذلك. والمدعى عليه إذا لم يثبت عليه بتلك الدعوى شيء. قال عبد الملك: ليس ذلك على القاضي. وقال مطرف: يكتب له حتى لا تعود الخصومة بعد ذلك. وقال ابن شاس: يكتب في الأسجال أسماء البيّنة وأسماء المتداعين وأنساب الجميع وما يعرفون به، وما حكم به، ويحتفظ به في خريطة ويختم عليه. القرافي، الذخيرة: 10/ 77.
غرضنا من هذا الكتاب، ولكنّنا سنخص بحثنا هذا بمقاصد الشريعة من أحوال المنوط بهم تنفيذُها في خصوص إيصال الحقوق إلى أصحابها على نحو ما رسمته الشريعة تأصيلاً وتفريعاً. وهؤلاء هم القضاةُ، وأهلُ شوراهم، وأعوانُهم، وما تتألف منه طرق أقضياتهم وهي البينات والرسوم.
وقد بين القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين: "أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحل له أن يتصرّف إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة فيكون الأئمةُ والولاةُ معزولين عما ليس بأحسن وما ليس فيه بذل الجهد. والمرجوح أبداً ليس بأحسن وليس الأخذ به بذلاً للاجتهاد"(1) اهـ.
وأقول: ورد في حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ عليه البيعة شرط عليه: "النصح لكل مسلم"(2).
وبيَّن القرافي الفرق السادس والتسعين أنه يجب أن يقدَّم في كل ولاية من هو أقومُ بمصالحها على من هو دونه، واستدل على ذلك بأدلة بيَّنة لا حاجة إلى جلبها هنا (3).
(1) القرافي. الفرق 223 بين قاعدة ما ينفذ من تصرّفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك، الفروق: 4/ 39. وهو قاعدة مستنبطة من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الأنعام: 152.
(2)
انظر ابن حجر. الفتح: الحديث الأول من كتاب الإيمان: 1/ 139 - 140، ح 580، والحديث الثاني حديث جرير بن عبد الله، قال:"أمّا بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: أبايعك على الإِسلام"؟ فشرط عليّ: "والنصح لكل مسلم". فبايعته على هذا، ورَبّ هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل. انظر 2 كتاب الإيمان، 42 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدّين النصيحة"، ح 2. خَ: 1/ 20.
(3)
القرافي. الفرق 96 بَيْن قاعدة من يتعيّن تقديمه وبين قاعدة من يتعيّن =
ومقصد الشريعة من نظام هيئة القضاء كلَّها على الجملة أن يشتمل على ما فيه إعانةٌ على إظهار الحقوق وقمع الباطل الظاهر والخفي. وذلك مأخوذ من حديث الموطأ:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضيَ له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخذْه، فإنّما أقتطع له قطعة من نار"(1).
ففي هذا الحديث دلالة على أن طرق إظهار الحق مختلفة، وأن تلقّي القاضي لأساليب المرافعة أحسنُه ما أعانه على تَبيُّن الحق، وأن القاضي إنما يقضي بحسب ما يبدو له من الأدلة والحجج، وأن على الخصوم إبداءَ ما يوضّح حقوقهم، وأن التّحيّل على الباطل ضلال وملقٍ في النار. وفي حديث الموطأ أيضاً (2) *:"أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله. وقال الآخر وكان أفقهَهما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال رسول الله: تكلم" الحديث.
وروى الترمذي وأبو داود عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى
= تأخيره في الولايات والمناصب والاستحقاقات الشرعية، الفروق: 2/ 157 - 163.
(1)
انظر 36 كتاب الأقضية، 1 باب الترغيب في القضاء بالحق. طَ: 2/ 719. وانظر 52 كتاب الشهادات، 27 باب من أقام البينة بعد اليمين. خَ: 3/ 162؛ انظر 30 كتاب الأقضية، 3 باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، ح 3. مَ: 2/ 1337.
(2)
* في كتاب الحدود. اهـ. تع ابن عاشور. وقد تقدم تخريج الحديث 103/ 2.
اليمن قاضياً فقال له: "إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تَقضِيَنَّ حتى تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول فإنه أحرى أن يتبيّنَ لك القضاء"(1).
فيجب على الحاكم أن يستقصي وجوه الحجج المبيِّنة للحق بقدر ما يستطيعَ ولو بالوصول إلى حفظ بعض الحقوق دون بعض، فإنّ حفظ البعض خير من ضياع الكل.
وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم عن داود عليه السلام: "أنه تحاكمت إليه امرأتان في صبي تزعم كل منهما أنه ابنها فقضى به للكبرى"، مع أن الكِبَر لا أثر له في إظهار الحق. ولكنه لما أيس من الحجة عمد إلى مرجَّح ما، حفظاً لحق المختصم فيه لا لحق المتخاصمتين كي لا يبقى الصبي بدون كافلة. ولم يتطلب داود سبيلاً لحمل إحدى المرأتين على الإقرار، لعله لأنه لا يرى الإكراه على الإقرار. وقد علم أن إحداهما مبطلة لا محالة. ونزع سليمان عليه السلام إلى طريقة الإلجاء إلى الإقرار (2).
(1) نظر 13 كتاب الأحكام، 5 باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، ح 1331. تَ: 3/ 618؛ وبلفظ قريب من الأول: 23 كتاب القضاء، 6 باب كيف القضاء، ح 3582. دَ: 4/ 11.
(2)
الحديث لأبي هريرة. انظر 60 كتاب الأنبياء، 40 باب قول الله تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ص: 30. وهو حديث مرفوع عند البخاري عن أبي اليمان عن شعيب، في آخر الباب
…
الحديث، ونصه هنا: "وقال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتُها إنما ذهب بابنكِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنكِ. فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن =
ولم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابطَ وشروطاً كثيرة ما كان السلف يراعونها. وأحسن طرق فقهاء الإِسلام في ذلك فيما رأيت طريقة علماء الأندلس وهي مفصلةٌ في كتب النوازل والتوثيق (1). وأهمّ أركان نظام القضاء هو القاضي، فإنّ في صلاحه وكماله صلاحَ بقية ما يحفُّ به من الأحوال.
وقد ظهر أن مقصد الشريعة من القاضي إبلاغُهُ الحقوق إلى طالبيها. وذلك يعتمد أموراً: أصالة الرأي، والعلم، والسلامة من نفوذ غيره عليه، والعدالة.
فأصالة الرأي تستدعي العقل، والتكليف، والفطنة، وسلامة الحواس. وفي الحديث:"لا يقضي القاضي وهو غضبان"(2).
وأما العلم فالمراد به العلم بالأحكام الشرعية التي يجري بها القضاءُ فيما وَلِي عليه من أنواع النوازل. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجه معاذاً قاضياً إلى اليمن قال له: "كيف تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد"، قال: فبسنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد"، قال: أجتهد برأيي ولا آلو. رواه الترمذي وأبو داود (3). وقد قال مالك: "لا أرى خصال القضاء
= سمعت بالسكّين إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية". خَ: 4/ 136 - 137. ابن حجر. الفتح: 6/ 464 - 465.
(1)
انظر تفصيل القول بعد: 540/ 2.
(2)
تقدم: 256/ 3.
(3)
هو عند الترمذي بلفظ: "أجتهد رأيي، مقتصراً عليه": 13 كتاب الأحكام، 3 باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، ح 1327. تَ: 3/ 616؛ انظر 23 كتاب الأقضية، 11 باب اجتهاد الرأي في القضاء، ح 3592. دَ: 4/ 18 - 19.
تجتمع اليوم في أحد. فإذا اجتمع منها في الرجل خصلتان أن يولّى العلمُ والورعُ" (1) فيتعين أن يكون القاضي أمثل العلماء الصالحين للقضاء، وبمقدار قوة علمه يزداد ترجُّحُه.
وقد اختلف في اشتراط كون القاضي مجتهداً إن وجد، أي إذا اشتهر بذلك وسُلّمت له مرتبة الاجتهاد من طائفة علماء عصره. وعندي أن العالِم المقلد لمذهب مجتهد مشهور، العالِمَ بالأدلة لا يقصر في استحقاق القضاء عن المجتهد، لا سيّما حين صار المسلمون مقلدين لمذاهب معلومة الصحّة مشهورة العلم. فلعل أولئك المقلدين لا يتلقون علمَ المجتهد المخالف للمذهب الذي تقلدوه. ولذلك فلا ينبغي أن يُختلَفَ في أن ولاية الفقيه المقلَّد إنما تكون للفقيه في المذهب الذي تقلده الناس الذين يقضي بينهم. وقد استمر عمل ولاة الأمصار الإِسلامية على ذلك فكانوا يولون القضاة من علماء مذاهب القوم الذين نصب القاضي فيهم. فإن كان في المصر أتباع لمذاهب كثيرة نصَبوا فيه قضاةً بعدد أتباع تلك المذاهب، ليكون ذلك مُطَمْئناً لهم لما قدمناه في باب حرمة الشريعة، على ما فيه من تشتت، ولكنهم لم يتوصلوا إلى إقناع طبقات الأمم بطريقة أخرى أقرب إلى التسليم. وليست إلَّا طريقةَ أخذ الأصلح من مجموع أقوال العلماء.
(1) ابن رشد. المقدمات: 2/ 259، 260:
وقالوا: إن شروط الكمال فيمن يولى القضاء خمسة ينتفي عنها وخمسة لا ينفك منها. وهذه الأخيرة هي: أن يكون فطناً، نزيهاً، مهيباً، حليماً، مستشيراً لأهل العلم والرأي. وزاد بعضهم: سليماً من بطانة السوء، لا يبالي في الله لومة لائم، وَرعاً، بلدياً، غير زائد في الدهاء. وللقاضي عبد الوهاب مقالة في ذلك مهمّة عقَّب عليها ابن فرحون بما نقله عن مالك. ابن فرحون. التبصرة: 10/ 20 - 21.
ومن الواجب أن يكون القاضي مستحضراً للأحكام الشرعية في المسائل الكثيرة النزول، ومقتدراً على الاطلاع على أحكام ونوادر النوازل عند دعاء الحاجة إليها بسهولة. لكونه دارساً لكتب الفقه متضلعاً بطرق الاستفادة منها. قال ابن القاسم: لا يُستقضى من ليس بفقيه (1).
وقال أصبغ وأشهب ومطرف وابن الماجشون: لا يصلح كون القاضي صاحبَ حديث لا فقه معه، ولا صاحبَ فقه لا حديث معه (2). وفي الفائق لابن راشد: قال لي قاضي مصر نفيس الدين بن شكر: (3) تجوز تولية المتأهّل لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها. وأيّده بأن المجتهد لا يلزمه حفظ آيات الأحكام. قال ابن راشد: "لكن لا خفاء في أن هذا تضييق على الخصوم، لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها القاضي. وفيه وسيلة إلى تولية الجهال"(4) اهـ.
(1) ذكر ذلك القرافي. الذخيرة: 10/ 19.
(2)
قال عبد الملك بن حبيب: ويكون عالماً بالسنّة والآثار ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام، وحكى عن أصبغ ومطرف وابن الماجشون قولهم: ولا يصلح أن يكون صاحب رأي لا علم له بالسنّة ولا بالآثار، ولا صاحب حديث ولا علم له بالفقه والرأي، لأنه يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور. ابن رشد. المقدمات: 2/ 260.
(3)
هو نفيس الدين بن هبة الله بن شكر 605 - 680 هـ. قاضي القضاة بالديار المصرية. التنبكتي: (2) 755، ع 615.
(4)
ونصّ ما ورد بالفائق: وسمعت من قاضي الجماعة - كان بالقاهرة المعزيّة - نفيس الدين بن شكر رحمة الله عليه أنه قال: إذا تأهل الطالب لمعرفة استخراج المسائل من مواضعها جازت توليته. ويرد ما ذكره ما قيل في أن المجتهد لا يشترط فيه حفظ الآي المتضمنة الأحكام بل معرفة مواضعها ليراجعها عند الحاجة إليها. ولا خفاء لما في هذا من التضييق. وإذا كان =
وكلام ابن راشد هو الصواب، لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس. فإذا ولي المجتهدُ القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلق مجتهد. وقوله:"إنه وسيلة إلى تولية الجهال"، هو كذلك، لأن ملكة الاستحصال لا تنضبط ولا يدرك توفّرُهَا في صاحبها إلا العلماءُ. فإذا هوي ولاةُ الجور أو الجهالة تولية أحد من الجهلة القضاء زعموا أنه وإن لم يكن عالماً فهو قادر على استخراج المسائل وهو غير قادر، أو لعله وإن كان قادراً لا يصرف همته إلى ذلك، بخلاف استحضار المسائل، فالامتحان فيه لا يخفى.
ومما يرجع إلى معنى العلم المقدرةُ على فهم مراد الفقهاء ومصطلحهم. قال ابن عبد البر في الكافي: "لم يختلف العلماء بالمدينة وغيرها فيما علمت أنه لا ينبغي أن يولَّى القضاءَ إلا الموثوق به في دينه وعلمه وفهمه"(1) اهـ.
ومن ذلك أيضاً المقدرة على فهم مدركات المسائل وعللها لأن ذلك أحسن منبه للقاضي حين اشتباه المسائل المتشابهة لقولهم: لا يصلح كون القاضي صاحب فقه لا حديث معه.
وأما السلامة من نفوذ غيره عليه فهو مندرج في اشتراطهم في صفات القاضي الحرية. وقد تحيروا في [تعليل] اشتراط الحرية. وتحيُّرهم في تعليله دليل لنا على أن المعلول مسلم لا نزاع فيه. وأنا أعلَّلُه بأن الرق حق على العبد. فهو محكوم لمالكه لا يسعه إلا
= القاضي لا يحكم في مسألة حتى يفهمها، ويطالع ما قيل فيها، فتضيق أحوال الخصوم. وربما تركوا حقوقهم. وفيها أيضاً وسيلة إلى تولية الجهال. ابن راشد: 4/ 77 أ.
(1)
عبارة الكافي: "في دينه وصلاحه وفهمه وعمله". ابن عبد البر: 2/ 952.
مصانعته فيصير لسيد العبد أثر في إجراء النوازل التي يباشرها عبدُه. وهذا يوميء إلى وجوب تجرد القاضي عن كل ما من شأنه أن يجعله تحت نفوذ غيره، فإن العبودية مراتب. وفي الحديث:"تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم وتعس عبد القطيفة الذي إذا أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"(1). فجعل ذلك سبباً لاستعباده.
ومن أجل هذا اتفق علماؤنا على تحريم الرشوة. قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (2).
ومن هنا يتضح ما قاله أشهب: إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفاً بالأئمة أي مستخفّاً بتوسطاتهم في النوازل وشفاعتهم فيها، وفي إنفاذ الحق عليهم وعلى ذويهم. وليس المراد أنه مستخفٌّ بحقوق الأئمة في تقرير الطاعة العامة. وبعضهم زعم أن العبارة تحريف اللائمة (بتشديد اللام) أي أن لا يراعي لومة لائم، وهو تأويل بعيد لا يلاقي تعليق المجرور بمادة الاستخفاف.
وأما العدالة فإنها الوازع عن الجور في الحكم والتقصير في تقصّي النظر في حجج الخصوم. فإن القضاء أمانة، ولذلك قرنه الله تعالى بالأمانات في قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (3). ولذلك قال علماؤنا:
(1) الحديث لأبي هريرة. وهو في بعض الطرق بلفظ: "القطيفة والخميصة". انظر 56 كتاب الجهاد، 7 باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. خَ: 3/ 223؛ 81 كتاب الرقاق، 10 باب ما يتقى من فتنة المال. ح 1. خَ: 7/ 175؛ انظر 37 كتاب الزهد، 8 باب في المكثرين، ح 4135، 4136. جَه: 2/ 1385 - 1386.
(2)
البقرة: 188.
(3)
النساء: 58.
العدالة شرط في صحة ولاية القضاء (1).
وقد تكلم العلماء في عزل القاضي، وتردّدت أنظارهم في ذلك بناء على اعتباره كوكيل عن الأمير من جهة، وعلى وجوب حرمة هذا المنصب في نظر الناس من جهة أخرى. وهي مسألةٌ لها مزيد تعلق بالسلامة من نفوذ غيره عليه، لأن العزلَ غضاضة عليه، وتوقّعَه ينقص من صرامته إن لم يغلبه دينه. قال المازري: إن عُلِمَ علمُ القاضي وعدالتُه ولم يقدح فيه قادح لم يعزل بالشَّكية. وسئل عن حاله بسببها سراً. ومن لم تتحقق عدالتُه في عزله بمجردها قولان. قال أصبغ: يعزل، وقال غيره: لا يعزل (2). قالوا: ولم يحفظ أن عمر عزل قاضياً، أي مع كونه عزل الأمراء بمجرد الشكية. عزل سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وشرحبيل. قلت: ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزل قاضياً ولا أن أبا بكر عزل قاضياً.
(1) قال القاضي عياض في التنبيهات: وشروط القضاء التي لا يتم القضاء إلا بها ولا تنعقد الولاية ولا يستدام عقدها إلا معها عشرة: الإِسلام، والعقل، والذكورية، والحرية، والبلوغ، والعدالة، والعلم، وكونه واحداً، وسلامة حاسة السمع والبصر، وسلامة اللسان. قال سحنون: وأما العدالة، فلأنه لا تصح ولاية غير العدل. فمن لا تجوز شهادته لا تصحّ ولايته. وقال أيضاً: تصح ويجب عزله. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 18.
وقد فصل القول في ذلك من قبل ابن رشد. المقدمات: 2/ 858 - 259.
(2)
جاء في المقدمات: ومن لم تجتمع فيه سلامة السمع والبصر واللسان والعدالة وجب أن يعزل متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزاً إلا الفاسق الذي ليس بعدل. فاختلف فيما مضى من أحكامه. قيل: إنها جائزة، وهو قول أصبغ، وقيل: إنها مردودة، وهو المشهور في المذهب. فعلى هذا القول، العدالة مشترطة في صحة الولاية كالإِسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة على مذهبنا، والتوحد. ابن رشد: 2/ 259.
وقال بعض المحققين من علمائنا وأظنّه ابن عرفة: في عزل القاضي توهينٌ لحرمة المنصب، على أنه قد صار فيما بعد عصر السلف لصاحب الخطة حقٌ في بقائها، نظراً لضعف آراء وعدالة الأمراء الذين يولون القضاة (1). وقد اصطلح بعضُ سلاطين الدولة الحفصية على أن القاضي لا يبقى في خطبة القضاء أكثر من ثلاث سنين، وهذا خطأ من التصرف (2).
(1) وليس هذا على إطلاقه إن صحّ عنه، لأنه يقول: ويجب تفقد الإِمام حال قضاته فيعزل مَن في بقائه مفسدة وجوباً فوراً، ومَن يخشى مفسدته استحباباً، ومن غيره أولى منه عزْلُه راجح. حكاه الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 113.
(2)
في إتحاف أهل الزمان: وكان السنن في الدولة الحفصية أن القاضي لا يبقى في خطبة القضاء بجهته أكثر من ثلاث سنين ثم ينتقل لغيرها، إلى أن يتصدر لقضاء الحاضرة ثم يتصدر للفتوى والشورى. ابن أبي الضياف:(1) 1/ 187.
وتلك عادة سابقة للموحدين، عند حكمهم إفريقية، كانت تمليها الظروف السياسية ومخافة السلاطين من مزاحمة قاضي الجماعة لنفوذهم وتدخله في شؤونهم.
المراكشي. تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية: 44.
وقد تعطلت هذه العادة بتولي أبي زكرياء الحفصي الحكم واستقلاله به حيث أبقى على القضاء أبا عبد الله بن زيادة الله القابسي. ولم يعيّن في مدة ولايته طوال عشرين عاماً غير ثلاثة قضاة. وسار ابنه المستنصر سيرته فلم يعزل قاضي الجماعة عبد الرحمن بن علي التوزري 657 هـ إلا بعد عشر سنوات من ارتقائه العرش. ومن يوم حصول الاعتراف من دول المشرق بالدولة الحفصية لم تثبت ولاية القضاء، فتعاقبت التعيينات والإعفاءات في فترات قصيرة جداً. كانت أحياناً لا تزيد على بضعة أشهر. ثم عاد الأمر إلى نصابه وبقي القاضي أحمد بن الغماز من سنة 662 - 693 هـ، والقاضي =
والحاصل أنه يُفهم من مقصد الشريعة أن تكون الولايةُ في مَظِنة المصلحة، وأن لا يكون العزلُ إلا لمظنَّة المفسدة، لأن جميع تصرّفات الأمراء منوطة بالمصالح كما بينه القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين، وأن حفظ حرمة المناصب الشرعية وإعانة القائمين بها على المضي في سبيلهم غيرَ وجلين ولا مغضوضين لمن أكبر المصالح (1).
وشروط رجال شورى القضاء تقارب شروط القضاة إلا أن شرط العلم فيهم أقوى ويساوون في البقية.
وننقل كلامنا إلى ما كنا وَعَدنا به في آخر البحث، عن مقصد تعيين أنواع الحقوق لأصحابها، من أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غير صاحبه.
فاعلم أن شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه، وقد يتعذر ذلك كالنيابات في الولايات والوكالات، لتعذر مباشرة ولاة الأمور جميع ما لهم حقُّ مباشرته، إذ قد تكثر، وقد تبعد، وقد يعرض الاشتغال بالأهم عن المهم. وقد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"واغدُ يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها"(2) *. وفي
= إبراهيم بن عبد الرفيع من سنة 699 - 733. تاريخ إفريقية في العهد الحفصي: 116 - 117.
والأصل المعتمد في حرمة المناصب الشرعية التقيّد بالمصلحة الشرعية فيما نبّه إليه القرافي في فروقه كما ذكر ذلك المؤلف.
(1)
انظر الفرق بين قاعدة ما ينفذ من تصرّفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك وهو خمسة أقسام. القرافي: 4/ 39.
(2)
* هذا الحديث في الموطأ. وسيأتي ذكره في تعليقة في صفحة آتية. اهـ. تع ابن عاشور.
[تقدم ذكره وتخريجه: 103/ 2، 520/ 2].
حديث ابن عمر: "كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه، وكانوا يضربون على ذلك"(1).
وكما في العقود التي اؤتمن فيها الغيرُ على العمل في حق من ائتمنه. وقد يكون غير متعذر ولكن تصرّف صاحب الحق فيه يجعل الحق معرضاً للتلاشي. وقد تكونُ تلك الحقوق المؤتمنُ عليها متمحّضة لغير المُؤتمنِ عليها مثل حقوق المحاجير بالنسبة إلى أوصيائهم وآبائهم، وحقوق الولايا من النساء في النكاح بالنسبة لأوليائهن. وقد تكون مخلوطةً من حق المؤتمن ومن غيره كحقوق الأزواج بعضهم مع بعض، وحقوق القرابة من أبوّة وبنوّة، وحقوق الشركاء في الملك والتجارة كالمضاربة والارتواك (2) والصناع.
فلتيسير سير الأعمال وإقامة المصالح على الوجه الأتمَ ائتمنت
(1) تقدم الحديث وتخريجه: 486/ 2.
(2)
من روَك روكاً. راك أرض مصر: سجّلها، حدّدها، أقام حدودها. انظر: كاترميتر. تاريخ سلاطين المماليك: 1/ 132؛ 2/ 65.
مال الرَوْك، مال مشترك. دوزي. تكملة المعاجم العربية: 1/ 572.
وعلى ألسنة العَامة بتونس: الأمر روكة، أي بينهم. واستعمل هذا اللفظ الموثَّقون من العدول بتونس فقالوا: الارتواك، وأطلقوه على الحجة المكتوبة. ومن كلامهم في صفة كتب الارتواك. وصورته: اعترف فلان وفلان أن جميع ما تحت أيديهما من البقر والغنم وغيرها من سائر الحيوانات، وغيرها من الأثاث والعروض والناض وما يكسب ويتمول والزرع المبذور
…
إنما هو بالسواء بينهما والإشاعة على وجه الارتواك لا فضل لواحد منهما على الآخر. التواتي. مجموع الإفادة في علم الشهادة: 129 - 130.
الشريعةُ أحد الفريقين على إقامة تلك الحقوق لامتزاج الحقين، وتكرر استعمالها في مختلف الأزمان والأمكنة والأحوال، بحيث كان جعلها بيد أحد مَن لهم فيها حق أَوْلى من جعلها بيد ثالث أو إقامة رقباء على تنفيذها.
وجعلت الشريعةُ المؤتمنَ على هذه الحقوق هو أَوْلى صاحبَيْ الحق بمباشرته لكونه أدرى باستعماله، مثل حق تربية الأبناء في الصغر للأم، وفي اليفع للأب، وحق نظام المعاشرة الزوجية بيد الرجل لأنه أقرب إلى العدل بدائع الحب والنصح، وحق إقامة المنزل للمرأة، وحق إدارة الأعمال لعامل القراض وعامل المغارسة والمساقَى والمُزارع.
ثم إن هذا الائتمان بعضُه مجعولٌ من قبل الشرع إما في أصل الحق مثل الآباء في أموال أبنائهم، وإما بطريق القضاء كجعل ناظر على الوقف كما سيأتي. وبعضُه يُجعلُ من صاحب الحق كالوكالة وعقود الشركات في القراض والمساقاة والوصاية بالنظر من الآباء على أبنائهم.
وكل مُؤتمَن على حقّ فتصرّفُهُ فيه منوط بالمصلحة بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة في استجلاب المصالح. فليس له أن يكون في تصرّفه جباراً ولا مضياعاً. فقد قال الله تعالى للأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1)، وقال للأوصياء:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (2). وقد بيَّن القرافي في الفرق الثالث والعشرين والمائتين: "أن كل من ولي ولاية من الخلافة إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة. فهم معزولون عن
(1) النساء: 19.
(2)
البقرة: 220.
المفسدة الراجحة والمصلحة المرجوحة والمساوية ولا مفسدة فيه ولا مصلحة. ولهذا قال الشافعي: لا يبيع الوصي صاعاً بصاع لأنه لا فائدة في ذلك" (1) اهـ.
فإذا بدا من المؤتمَن خللٌ في تصرفه ليس على سبيل الفلتة، رجع النظرُ إلى القضاء بجعل الحقَّ تحت يد أمين على الجانبين، مثل جعل الزوجين إذا تضارّا تحت نظر أمين وأمينة، ومثل إقامة ناظر على الوقف إذا ساء تصرفُ الموقوف عليه فيه. وكذلك إقامة المقدمين الوقتيين لمحاسبة الأوصياء ونظار الأوقاف، ووضع المتنازع فيه الموقوف تحت يد أمين.
وإذا عمت البلوى بسوء تصرُّف المؤتمنين فيما ائتمنوا عليه من الحقوق جاز للقضاء منعُهم من الاستبداد بالتصرّف فيها. وقد قال الشيخ ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) المقتضي تفويضَ ترشيد اليتيم إلى وصيه ما نصه: "قالت فرقة من أصحابنا: دفعُ الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممّن يأمنهُ الحاكم في مثل ذلك. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. والصواب في أوصياء زمننا أن لا يُستغنى عن رفعه إلى السلطان. وثبوت الرشد عنده، لما حُفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت"(3). اهـ. ومضى العمل أخيراً في تونس بما قاله ابن عطية.
(1) تقدم: 519/ 1.
(2)
النساء: 6.
(3)
ابن عطية. المحرر الوجيز: (1) 3/ 500؛ 4/ 23 - 24. =
والنظر في تطبيق هذه الأنظار إلى غالب الأحوال العارضة للناس لا إلى النوادر والقضايا الفذة.
بقي علينا إكمالُ القول في مقصد التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها، وهو مقصد من السمو بمكانة، فإن الإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعيّنه بأكثر مما يستدعيه تتبُّع طريق ظهوره، يثيرُ مفاسد كثيرة:
منها حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقّه، وذلك إضرار به.
ومنها إقرار غير المستحق على الانتفاع بشيء ليس له، وهو ظلم للمُحِق.
وقد أشار إلى هذين قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
ومنها استمرار المنازعة بين المحقّ والمحقوق، وفي ذلك فسادُ حصول الاضطراب في الأمّة. فإن كان في الحق شبهةٌ للخصمين ولم يتّضِح المُحق من المحقوق، ففي الإبطاء مفسدةُ بقاءِ التردّد في تعيين
= والأصل فيما تقرر هنا ما جرى من الخلاف بين الفقهاء في المحجور عليه كما ذكره المؤلف إذا كان له وصي من قبل الأب. هل يكفي إطلاق الوصي من الحجر دون مطالعة الحاكم، أو يلزمه استئذان الحاكم حتى يكون الإطلاق بإذنه؟ وهو ما فضل القول فيه مع بيان أسبابه القرافي في جوابه عن السؤال الثاني والثلاثين، حيث علل الرجوع فيه إلى القاضي بسبب كون الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير، أو كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء ونحو ذلك، أو كون الخلاف في الأمر قوياً يوجب افتقار ذلك للحاكم. الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام:(2) 151 - 161.
(1)
البقرة: 188.
صاحب الحق. وقد يمتد التنازع بينهما في ترويج كلٍّ شبهتَه، وفي كلا الحالين تحصل مفسدةُ تعريض الأخوة الإِسلامية للوهن والانخرام.
ومنها تطرق التهمة إلى الحاكم في تريّثه بأنه يريد إملال المحق حتى يسأمَ متابعةَ حقِّه فيتركه فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمه، فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس. وزوالُ حرمته من النفوس مفسدة عظيمة.
فهذا تعليله من جهة المعنى والنظر. ووراء هذا أدلة من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ففي الآثار الصحيحة الكثيرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي بين الخصوم في مجلس المخاصمة الواحد ولم يكن يُرجئُهم إلى وقت آخر، كما قضى بين الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة (1) *، وكما قضى بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد بالصلح بينهما بالنصف في دين لكعب على ابن أبي حدرد (2) *. وكما قضى بين رجل ووالد عسيفه أي أجيره (3) *
(1) * الحديث في الصحيحين: أنه اختصم الزبير وحميد الأنصاري في شراج من الحرة أي مسايل ماء بالحرة - أرض تحيط بالمدينة - كانا يسقيان به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق حتى يبلغ الماء الجدر أي جدر حوض النخل ثم أرسل إليه". اهـ. باختصار. اهـ. تع ابن عاشور. [تقدم الحديث وتخريجه 102/ 1].
(2)
* حديثهما في الصحيحين. [تقدم: 112/ 4]. اهـ. تع ابن عاشور.
(3)
* في الموطأ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم. قال:"تكلم". قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته فأخبرني أن على ابني الرجم. فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي. ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة =
بإبطال الصلح الواقع بينهما. وكما جاء في ذلك الحديث أن رسول الله قال لأنيس الأسلمي: "واغدُ يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها"(1) فاعترفت فرجمها، ولم يأمره أن يأتي بها إليه.
وفي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن قاضياً وأميراً، ثم أتبعه معاذ بن جبل. فلما بلغ معاذ وجد رجلاً مُوثَقاً عند أبي موسى فألقى أبو موسى لمعاذ وسادة وقال له: أنزل. قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد. قال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاءً لله تعالى (ثلاث مرات). فأمر به أبو موسى فقتل (2).
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وهو قاضٍ بالبصرة، "فاقض إذا فهمت وأنفذ إذا قضيت"(3). فجعل القضاء
= وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك"، وجلدَ ابنه مائة وغربه عامًا وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت يَرجمْها، فاعترفت فرجمها. قال مالك: العسيف الأجير. اهـ. تع ابن عاشور. [تقدم الحديث وتخريجه: 103/ 2، 520/ 2، 529/ 2].
(1)
هو ذيل الحديث السابق وتمامه.
(2)
اختلفت رواية الحديث اختصاراً وطولاً ولفظاً. انظر من حديث أبي موسى: 88 كتاب الاستتابة، 2 باب حكم المرتد والمرتدة، ح 2. خَ: 8/ 51؛ 93 كتاب الأحكام، 12 باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإِمام الذي فوقه، ح 3. خَ: 8/ 108؛ انظر 33 كتاب الإمارة، 3 باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ح 15. مَ: 1456 - 1457؛ حَم: 4/ 409، 5/ 231.
(3)
العبارة: فافهم إذا أدلي إليك بحجة، وأنفذ الحق إذا وضح
…
الدارقطني. السنن: 4/ 206. =
بعد حصول الفهم وبدون تأخير، لأن شأن جواب الشرط أنه حاصل عند حصول الشرط، وأمره أيضاً بالتنفيذ عند حصول القضاء. وكل ذلك للتعجيل بإيصال الحق إلى صاحبه.
وإنما قلت فيما تقدم: "بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهور الحق" لزيادة تقرير معنى قولي: "إيصال الحق إلى صاحبه" للاحتراز عما يتوهمه كثيرٌ من الضعفاء في العلم أو المرائين من ضعفاء القضاة من الاهتمام بالإكثار من إصدار الأقضية تفاخراً بكثرتها، في حين أنها لم يُستوف ما يجب استيفاؤه من طرق بيان الحق حتى يجدها متعقِبُها مختلةَ المبنى معرَّضةً للنقض. فليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محموداً إذا لم يكن الفصل قاطعاً لعود المنازعة، ومقنعاً في ظهور كونه صواباً وعدلاً. ولذلك قال عمر:"فاقض إذا فهمت".
ولقد كانت طرق المرافعات في عهد النبوءة وما يليه بسيطة
= وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك. البيهقي. السنن: 10/ 135، 150؛ معرفة السنن والآثار: 14/ 240.
وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا قضيت. ابن رشد. المقدمات: 2/ 268.
وبلفظ: فافهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبيّن لك. ابن فرحون. تبصرة الحكام: 1/ 21.
وبلفظ: فافهم إذا أدلى إليك الخصم بحجته، فاقض إذا فهمت، وأنفذ إذا قضيت. القرافي. الذخيرة: 10/ 71. فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. ابن القيم. إعلام الموقعين: 1/ 72. ابن حجر. التلخيص الحبير: 4/ 196، وقواه، ورد على ابن حزم علَّه إياه بالانقطاع.
جداً. فقد كان الناس يومئذ متخلقين بالتقوى والصدق والطاعة لولاة أمورهم. فكان الذي يتعدّى حدودَ الشريعة يأتي ممكَّناً من نفسه، كما في قضية ماعز الأسلمي إذ اعترف على نفسه بالزنا (1) *، وقضية الغامدية (2) *. وكان الذي يدعى إلى الانتصاف لدى الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده لا يتردّد في الاعتراف والصدق فيما يسأل عنه غالباً، وإذا أنكر فإنما ينكر عن شبهة لعدم تحقّقه أن طالبه محق.
(1) * حديث ماعز في البخاري وغيره، وفي الموطأ في بعض الروايات أنه رجل من أسلم، وفي بعضها أن رجلاً - وقد فسروه بأنه ماعز - أنه أتى رسول الله فحدثه أنه زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله فرجم. اهـ. تع ابن عاشور.
[انظر 29 كتاب الحدود، 5 باب من اعترف على نفسه بالزنا ح 22، 23. مَ: 2/ 1321 - 1322. وماعز ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وفي حديث أبي بكر الصديق وأبي ذر وجابر بن سمرة وبريدة بن الخطيب وابن العباس ونعيم بن هزال وأبي سعيد الخدري ونصر الأسلمي وأبي برزة. ابن حجر. الإصابة: 3/ 337، ع 7587].
(2)
* حديث الغامدية في صحيح مسلم والموطأ والبخاري: أن امرأة من غامد جاءت إلى رسول الله فأخبرته أنها زنت وهي حامل. فقال لها: "اذهبي حتى تضعي"، فلما وضعت جاءته فقال لها:"اذهبي حتى ترضعيه"، فلما أرضعته جاءت فقال:"اذهبي فاستودعيه"، فاستودعته ثم جاءت. فأمر بها فرجمت. اهـ. تع ابن عاشور.
[لم أقف عليه عند البخاري. وانظر 29 كتاب الحدود، 5 باب من اعترف على نفسه بالزنا، ح 22 - 24. م: 2/ 1322، 1323؛ انظر 41 كتاب الحدود، 1 باب ما جاء في الرجم، ح 5. طَ 1/ 821 - 822. انظر الحديث عند ابن الطلاع، أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم: 141 - 143].
وفي صحيح مسلم (1) * وأبي داود (2) * والترمذي (3) * أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما كندي والآخر حضرمي. فادعى الحضرمي أن أبا الكندي غصب منه أرضاً، وقال الكندي: أرضي ورثتها من أبي. فسأل رسول الله الحضرمي: أله بيّنة، فقال: لا، ولكن يحلف لي أنه لا يعلم أن أباه غصبها مني، فترك الكندي اليمين (4). ولم يذكر مسلم ولا أبو داود ماذا قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وظاهره أنه قضى بتسليم الأرض للحضرمي، وأنه بمجرد نكول الكندي، ويحتمل أنه بيمينه.
ثم إن الناس اجترؤوا على الحقوق تدريجاً، وابتكروا تحيّلات، وظهرت شهادة الزور في الإِسلام في آخر خلافة عمر، واستباحوا النكاية بخصومهم وإثارة الشغب، وكتموا أشياء في النوازل ليتوسلوا إلى تعطيل تنفيذ الأحكام عند صدورها، وتحيّلوا على القضاة إذا وجدوهم بحدثان الولاية فأعادوا لديهم خصومات اتصل بها قضاء من كان قبلهم من القضاة، فأخذ القضاة والعلماء يجعلون أساليب في إجراء الخصومات لقطع الشغب وتحقيق الحقّ. وأول ذلك البحثُ
(1) * في كتاب الأيمان. اهـ. تع ابن عاشور.
[حديث علقمة بن وائل عن أبيه. انظر 1 كتاب الإيمان، 61 باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، ح 223، 224. مَ: 1/ 123 - 124].
(2)
* في كتاب الأقضية رواه مختصراً. اهـ. تع ابن عاشور.
[انظر 23 كتاب الأقضية، 26 باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، ح 3622، 3623. دَ: 4/ 42 - 43].
(3)
* في أبواب الأحكام. اهـ. تع ابن عاشور.
[انظر 13 كتاب الأحكام، 12 باب ما جاء في أن البيّنة على المدّعي واليمين على المدعى عليه، ح 1340. تَ: 3/ 625].
(4)
تقدم: 102/ 2.
عن أحوال الشهود. وقد قال علماء المدينة: إن اليمين لا تتوجه على المدعى عليه حتى تثبت الخلطة أو يكون المدعى عليه ظنيناً، أي متهماً (1). وقد قال عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر
(1) في رسالة ابن أبي زيد: البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنّة. كذلك قضى حكام المدينة: 604 - 605. قال صاحب مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة: روى مالك في الموطأ عن حميد بن عبد الرحمن المؤذن أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس. فإذا جاءه الرجل يدعي على رجل حقاً نظر: فإن كانت بينهما مخالطة أو ملابسة أحلف الذي ادعي عليه. وإن لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه. قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا. أحمد بن محمَّد بن الصديق: 203.
وما ذكرناه هنا هو مشهور المذهب. وقد عدل عنه في العمل والإجراءات. ففي الطريقة المرضية في الاجراءات الشرعية: وأما يمين الإنكار فهي اليمين لرد دعوى مالية محققة، إذا عجز المدعي عن الاستظهار بالبيّنة.
ولا يشترط في توجهها ثبوت الخلطة بين المتداعيين على ما جرى به العمل. ففي شرح ابن ناجي على الرسالة عند قولها: ولا يمين حتى تثبت الخلطة ما نصه: ما ذكره الشيخ هو المشهور. وقال ابن نافع: لا تشترط الخلطة، حكاه ابن زرقون ولم يحفظه أكثر شيوخ المذهب كابن حارث وابن رشد. قالا: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة. ويقول ابن نافع، قال الأندلسيون: واستمر عليه العمل بإفريقية. اهـ.
وزاد في شرح المدونة ما نصه: وأفتى شيخنا حفظه الله - لما كان بالقيروان - باشتراط ذلك في امرأة من وجوه الناس ادعي عليها. وأمر قاضيها بالحكم به، ففعل. وبه أفتى شيخنا أبو يوسف يعقوب الزغبي منذ مدة قريبة. اهـ. محمَّد العزيز جعيط: 92 - 93.
وفي مواهب الخلاق تقرير القول وتفصيله باشتراط الخلطة وهو المشهور. وصار العمل بفاس على خلافه:
ودون خلطة توجه اليمين
…
على الذي عليه الإدعا يبين
وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة =
ما أحدثوا من الفجور" (1). ثم أضيفت إلى ذلك ضوابط كثيرة مفصلة في كتب النوازل. وقد اختص علماء المالكية بأفانين كثيرة في ذلك (2).
= وغيرهما. وظاهر هذا العمل عدم التفريق بين ذوي العلا والمرأة المستورة المتحجبة. فلا تجب عليهما اليمين بالدعوى إلا بعد ثبوت الخلطة. قاله ابن عبد البر. وهو المعمول به، وإليه يشير الزقاق في لاميته بقوله:
ولا خلطة لكن ببلدة يوسف
…
يخص بها ذات الحجاب وذو العلا
ونحوه لابن هلال عن ابن رشد، واختاره ابن رحال وهو الذي ينبغي اعتماده، إذ كثير من الناس يتجرأ على ذوي الفضل والدين ويريد إهانتهم بالأيمان في الدعاوى الباطلة. وقد شاهدنا من ذلك في هذا الزمان ما الله أعلم به. الصنهاجي: 1/ 168.
وطريق إثبات الخلطة ما نبّه إليه الرعيني في كتاب الدعوى والإنكار حيث قال: وإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي، ولم يكن للمدعي بيّنة على أصل حقّه، ولا أقرّ المدعى عليه بخلطة المدعي، فالذي يوجب اليمين على المدعى عليه أن يشهد عدلان حران لا مدفع للمدعى عليها فيهما، فيقولان: عرفنا هذين الشخصين يتبايعان مرتين أو ثلاثاً ولم نعلم على ما افترقا
…
فإذا شهد الشاهدان بهذا وجبت اليمين على المدعى عليه. فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي وإن لم يطلب ذلك المدعى عليه.
وفسر أصبغ الخلطة، فلم ير الذين يصلون في مسجد واحد ولا الجلساء في الأسواق ولا الجيران خلطاء. ولم يرها إلا بتكرار المبايعة، ولذا فرق ابن رشد بين خلاطة المبايعة وخلطة المصاحبة والمؤاخاة. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 159.
(1)
انظر أعلاه: 25/ 1، 252/ 2.
(2)
وهكذا نجدهم ممن أكثروا التأليف في النوازل والأحكام متتبعين في كل طور أعراف الناس وعاداتهم، تاركين من وراءهم تراثاً قيماً ظهر متنوعاً ومتطوراً بين العدوتين وبالقيروان وتونس، متواصلاً غير منقطع من القرن =
وقديماً اتخذ قضاة الإِسلام دواوين لكتب ما يصدر عنهم من آجال، وقبول بيّنات ونحو ذلك، لتكون مذكرة للقاضي ولمن يجيء بعده، فيبني على فعل سلفه لكيلا تعود الخصومات أُنفاً، وربَما كتبوا ذلك كله بشهادة عدلين.
ومن أحسنه كتابة الأحكام بشهادة العدول. ولا شك أن في كثير مما أحدثه العلماء تطويلاً في سير النوازل. ولكن طوله أقصر من التطويل الذي يحصل من مراوغات الخصوم، وتحيّلاتهم على إبقاء المتنازع فيه بأيديهم.
ومن أحسن الوسائل للتعجيل بالفصل بالحقّ وإظهاره، تعيينُ المذهب الذي يكون به الحكم، وتعيين القول من أقوال أهل العلم.
ومن أحسن الوسائل أيضاً ما ثبت في المذهب المالكي من توقيف المدَّعى فيه إذا قامت البيّنة ولم يبق إلا إكمالها وهو المسمى بالعقلة (1). وهي جارية على قول مالك في الموطأ ومضى به العمل
= الثالث إلى الرابع عشر. فظهرت جملة من كتب النوازل والأجوبة، نعد منها: نوازل عيسى بن دينار، وأجوبة سحنون، وأجوبة القرويين، وأجوبة الداودي، ونوازل ابن أبي زمنين، وأجوبة ابن رشد، ونوازل ابن الحاج، ونوازل البرزلي، والمازوني، وابن عرضون، وابن هلال، ومعيار الونشريسي، وأجوبة أبي السعود الفاسي، ونوازل بردلة، والمسناوي، والعباسي، والنوازل الكبرى والصغرى للمهدي الوزاني. انظر تقديم نوازل العلمي: 9 - 10.
(1)
العقلة، وتسمى الحيلولة والإيقاف، هي منع من بيده الشيء المتنازع فيه من التصرّف فيه إمّا منعاً كاملاً، أو من بعض التصرّف كالاستغلال والانتفاع، أو من التفويت لإثبات دعواه. ولا بد فيها من ضرب أجل فإن لم يأت عنده بشيء رجع المتنازع فيه إلى من كان بيده. وتوقيف الشيء =
بناء على أن الغلة لصاحب الشبهة إلى يوم الثبوت لا إلى يوم الحكم (1)، فإن إيقاف المتنازع فيه يحصل به تعطيل مفسدة استمرار
= المدعى فيه أو العقلة يكون على ثلاثة أنواع، لأن المدعى فيه إما أن يكون عقاراً أو حيواناً أو شيئاً يسرع إليه الفساد. والاعتقال أو التوقيف لا يكون بمجرد دعوى الخصم في الشيء المدعى فيه، ولا يعقل على أحد شيء بمجرد دعوى الغير فيه حتى ينضم إلى ذلك سبب يقوي الدعوى أو لطخ. والسبب كالشاهد العدل أو المرجو تزكيته، واللطخ: الشهود غير العدول. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 143.
وفي كلام ابن عاصم وابن الحاجب أن العقلة تجري في الأصول ولو بقيام شاهد واحد يفتقر للتزكية. وقال ابن عبد السلام: إنما تكون شاهدين باتفاق أو بشاهد واحد مقبول ولم يرد المستحق أن يحلف معه. وذكر أن له شاهداً آخر. وعند ابن بطال لا تجب العقلة إلا بشاهدين، وقال ابن زرب: كل ما يغاب عليه من العروض وغيرها يوقف بشاهد عدل بخلاف العقار لا يعقل إلا بشاهدين بملكية الشيء المتنازع فيه للمدعي وحيازتهما ببيانهما حدود المشهود بملكه معاينة.
وفي غير الأصول تقع العقلة بمجرد الدعوى عند خوف الفتنة والتفويت. الصنهاجي: 2/ 60 - 61.
(1)
يشير المؤلف بهذا إلى ما ورد في الشرح الصغير قال: ذو الشبهة كوارث غير الغاصب وموهوبه، ومشتر ولو من الغاصب إن لم يعلما. والمستحق ليس له الإكراء سنة، وليس له قلع الزرع لأن الزارع غير متعد، فإن فات الإبان فليس للمستحق شيء لأن الزارع قد استوفى منفعتها، والغلة لذي الشبهة أو المجهول حاله قبل الحكم بالاستحقاق على من هي بيده. الدردير: 3/ 615؛ الدسوقي. حاشية على الشرح الكبير: 3/ 461؛ الشيباني. تبيين المسالك: 4/ 131.
ويؤكد هذا الرأي ما أورده الإِمام مالك: 35 كتاب الشفعة، 2 باب ما لا تقع فيه الشفعة، ح 4. وفيه: قال مالك في الرجل يشتري أرضاً فتمكث في يديه حيناً، ثم يأتي رجل فيدرك فيها حقا بميراث، أن له الشفعة إن =
الظالم على ظلمه قبل تمكين المُحقِّ بِحقّه. ويحصل به الإسراعُ بإيصال الحق إلى مستحقه عند القضاء، لأن كثيراً من أهل الشغب يعمدون إلى تغييب المدَّعى فيه عند صدور الحكم بنزعه من أيديهم أو إقامة شخص آخر يزعم أنه صاحب اليد إعناتاً للمحكوم له بتعطيل التنفيذ.
= ثبت حقه، وأن ما أغلّت الأرض من غلة فهي للمشتري الأول إلى يوم يثبت حقّ الآخر لأنه قد كان ضمنها لو هلك ما كان فيها من غراس أو ذهب به سيل. طَ: 2/ 717، 718.
وفي قضية الضمان هذه وقضية الاستحقاق كلام طويل أورده ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد في بيان الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلّة له ويجب التوقيف به، وقد حكيا في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه، ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به. وهو وفق ما ورد في المسألة أعلاه وهو قول مالك في المدونة.
والثاني: أن يدخل في ضمانه وتكون له الغلّة ويجب توقيفه وقفاً يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقول غير ابن القاسم في المدونة.
والقول الثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلّة والتوقيف بشهادة شاهد واحد وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح. ابن رشد الجد. المقدمات: 2/ 509 - 510؛ ابن رشد الحفيد. البداية: 2/ 270.
وجملة هذه الآراء أوردها البناني في شرحه للمختصر: 7/ 181.
ولهذه المسألة علاقة بالتفريق بين قاعدتين: قاعدة الحكم وقاعدة الثبوت يحسن الوقوف عليه.
انظر القرافي. الفرق 225، الفروق: 4/ 54، 55؛ المسألة الثلاثون، كتاب الإحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام:(2) 142 - 146؛ ابن فرحون. فصل في الفرق بين الثبوت والحكم، التبصرة: 91 - 93.
ومقصد الشريعة من الشهود: الإخبارُ عما يبيّن الحقوق وتوثيقها (1) *. فلذلك كان المقصد منهم أن يكونوا مظنة الصدق فيما يخبرون به بأن يكونوا متصفين بما يزَعهم عن الكذب. والوازع أمران: ديني وهو العدالة، وخلقي وهو المروءة.
فالعدالة لا تختلف إلا باختلاف مذاهب أهل العلم في اعتبار بعض الأعمال دليلاً على ضعف الديانة إذا كان الاختلاف في ذلك بين العلماء وجيهاً، وبحسب ما غلب على الناس المشهود بينهم من تقلد بعض مذاهب أهل العلم.
ويعرض في هذا أن يقوم أمام الوازع ما يوجبُ ضعفَه مثل شدّة المحبة وشدّة البغضاء فإنهما يضعفان الوازع الديني، ومنها القرابة. وبمقدار ضعف الوازع يتعين التحرّي في صفات الشهود.
وأما الوازع الخلقي: فمنه، لا يختلف وهو ما كان منبئاً بالدلائل النفسانية. ومنه ما يختلف باختلاف العادات، ولا ينبغي الاعتناء به في علم المقاصد، كما قيل في المشي حافياً في قوم لا
(1) * أشرت إلى نوعي الشهادة، وهما: الاسترعاء والتحمل. اهـ. تع ابن عاشور.
[شهادة الاسترعاء هي شهادة الشاهد بما في علمه من عسر أو يسر أو حرية أو ملك أو غير ذلك. وهي بهذا عكس الشهادة الأصلية، لأن هذه تكون بما يمليه المشهود عليه على الشاهد، كإشهاد المتعاقدين بالبيع أو النكاح أو غيرهما، جعيط:149.
والتحمل لغة: الالتزام، وشرعاً: علم ما يشهد به، وهو مأمور به شرعاً، إعانة على الخير والبر. الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 2/ 594.
وهو فرض كفاية إن احتيج إليه، بأن خيف بتركه ضياع حق مالي أو غيره. الدردير. الشرح الصغير: 4/ 284]
يفعلون ذلك، والأكل في الطريق بين قوم يستبشعون ذلك. والمجال في هذا فسيح.
والمقصد لتوثيق الحقوق المشهود بها ضبطُها وأداؤها عند الاحتياج إليه. وذلك يقتضي كتابة ما يشهد به الشهود، إذا كان الحق من شأنه أن يدوم تداولُه مدةً يبيد في مثلها الشهود. فلذلك تعيّنت مشروعية كتابة التوثقات. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (1).
فهذا أصل عظيم للتوثيق، ولذلك ابتدئ العملُ به من عهد النبوة. ففي جامع الترمذي وسنن ابن ماجه عن العداء بن خالد: أنه اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أو أمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له:"هذا ما اشترى العداء بن خالد من محمَّد رسول الله"(2)
…
إلخ. وقد تقدم في مقصد التصرفات المالية (3). واتصل عملُ المسلمين في الأقطار كلها بكتابة التوثقات في المعاملات كلها، مثل رسوم الأملاك والصدقات، وكذلك إثبات صحة رسوم التملك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاماً بصحتها.
(1) البقرة: 282.
(2)
تقدم تخريجه: 484/ 3.
(3)
انظر أعلاه: 484/ 3.