المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصودا لها - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصودا لها

‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكنّي لم أعدّه في عدادها من حيث إني لم أجد حجّة في كل قول من أقوال السلف، إذ بعضها غير مصرِّح صاحبُه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنّه لا يعدّ بمفرده حجّة لأن قصاراه أنّه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة.

ولكنّ مناط الحجّة لنا بأقوالهم أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، وأن أقوالهم أيضاً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصَّون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع. ولقد أحببت أن أمثّل في هذا المبحث بأمثلة كثيرة يتجلَّى بها للناظر مقدارُ اعتبار سلف العلماء لهذا الغرض المهم. وفيه ما يعرفك بأن أكثر المجتهدين إصابة، وأكثرَ صواب المجتهد الواحد في اجتهاداته يَكونان على مقياس غَوصِه في تطلّب مقاصد الشريعة. وسنشرح ذلك في أبواب القسم الأول (1).

المثال الأول: روى جابر بن عبد الله وأبو هريرة ورافع بن خديج رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له أرض

(1) 79، 138.

ص: 66

فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أَبَى فليمسك أرضه" (1).

فبلغ هذا الحديث عبد الله بن عمر، فذهب إلى رافع بن خديج فقال: قد علمتَ أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأَرْبِعاء (2) وشيء من التبن. قال نافع: وكان ابن عمر يكري مزارعه على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من خلافة معاوية، ثم خَشِي عبدُ الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض (3).

(1) الحديث من رواية جابر بن عبد الله: "كانت لرجال منا فضول أرضين. فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه". انظر 51 كتاب الهبة، 35 باب فضل المنيحة، ح 5. خَ: 3/ 145؛ 21 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض. ح 89، 91. مَ: 2/ 1176 - 1177؛ انظر 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2451 جَه: 2/ 819؛ ح 2454. جَه: 2/ 820؛ حَم: 3/ 354، 373.

ومن رواية أبي هريرة انظر 21 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض. ح 102. مَ: 2/ 1178؛ 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2452. جَه: 2/ 820.

ومن رواية رافع بن خديج: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، إذا كان لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كان لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها". انظر 13 كتاب الأحكام، 42 باب، المزارعة، ح 1384. تَ: 3/ 667 - 668. ومنه في النهي عن المحاقلة والمزابنة بلفظ آخر. انظر 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2449. جَه: 2/ 819؛ حَم: 1/ 286، 3/ 464.

(2)

الأرْبِعاء: بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة، جمع ربيع، وهو: النهر الصغير. والمراد هنا: أنهم يكرون الأرض بحظ من ماء النهر المملوك. اهـ. تع ابن عاشور.

(3)

الحديث: 41 كتاب الحرث والمزارعة، 18 باب ما كان أصحاب =

ص: 67

وقال طاوُس عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ولكنه قال:"أن يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ شيئاً معلوماً"(1) فحمله على أمر الترغيب والكمال.

وبذلك أخذ البخاري. فقال في صحيحه: باب ما كان [من] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً [في الزارعة والثمرة](2). وأخرج حديث رافع بن خديج عن عمه ظُهَير بن رافع: "لقد نهانا رسول الله عن أمر كان بنا رافقاً". قلت: ما قال رسول الله فهو حق. قال: دعاني رسول الله، قال:"ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرُها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير. فقال:"لا تفعلوا، ازرعوها أو أَزرِعوها أو أمسكوها". قال رافع: قلت: سمعاً وطاعة (3). فأشار البخاري في ترجمة الباب - التي هي دأبه

= النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في المزراعة والثمرة. ح 5. خَ: 3/ 72؛ 31 كتاب البيوع، 17 باب كراء الأرض، ح 112 مَ: 2/ 1181؛ النووي. شرح مسلم: باب كراء الأرض: 10/ 197؛ 35 كتاب الأيمان والنذور، 45 باب النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. نَ: 7/ 46، 16 كتاب الرهون، 7 باب المزارعة بالثلث والربع، ح 2450. جَه: 2/ 819؛ حَم: 1/ 234، 2/ 6، 64، 3/ 465.

(1)

انظر الحديث: 41 كتاب الحرث، 10 باب. خَ: 3/ 69؛ 18 باب ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضاً في الزارعة والثمرة، ح 3 خَ: 3/ 72؛ 51 كتاب الهبة، 35 باب الهبة، ح 7. وفي: 3/ 145؛ 21 كتاب البيوع، 21 باب الأرض تمنح، ح 120 - 122 مَ: 2/ 1184 - 1185؛ 13 كتاب الأحكام، 42 باب المزارعة، ح 1385، تَ: 3/ 668؛ حَم: 1/ 281، 313.

(2)

انظر 41 كتاب الحرث والمزارعة، باب 18، خَ: 3/ 71.

(3)

الحديث الأول في الباب.

ص: 68

وفقهه (كما قالوا) - إلى أن ذلك من قبيل المواساة، والمواساة لا تجب ولا يقضى بها.

وفسَّر مالك بن أنس في الموطأ النهي عن المحاقلة بأنها كراء الأرض بالحنطة (1)، واشتراء الزرع بالحنطة (2).

وقال، ابن شهاب: سألت سعيد بن المسيب عن استكراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس بذلك (3).

وقال البخاري، قال الليث:"أرى أن ما نُهي عنه من كراء الأرض، ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة"(4). فجعل مَحملَ النهي ما كان منها آيلًا إلى بيع ممنوع، جمعاً بين الأدلة.

(1) من حديث أبي سعيد الخدري: النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال مالك: المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. انظر: 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 24. طَ: 2/ 625؛ 16 كتاب الرهون، 8 باب كراء الأرض. جَه: 2/ 820.

(2)

من حديث سعيد بن المسيب: النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال مالك: والمحاقلة: اشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة. انظر 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 25. طَ: 2/ 625.

(3)

بإثر الحديث 25 السابق. طَ: 2/ 625.

(4)

انظر 41 كتاب المزارعة، 19 باب كراء الأرض بالذهب والفضة. راجع ذيل حديث الباب، ولفظه: وقال لليث: وكان الذي نُهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه؛ لما فيه من المخاطرة. خَ: 3/ 73.

قال ابن حجر: وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها =

ص: 69

وفي باب من شهد بدراً من مغازي صحيح البخاري: عن الزهري عن سالم عن رافع بن خديج: "أن رسول الله نهى عن كراء المزارع"، قال الزهري: قلت لسالم: أتكريها أنت؟ قال: نعم، إن رافعاً أكثر على نفسه (1).

ويظهر أن رافع بن خديج لما أكثر الصحابة من مخالفته تأوَّل

= مطلقاً حتى بالذهب والفضة. ثم أضاف مبيّناً الاختلاف بين الفقهاء في الحكم قائلاً: ثم اختلف الجمهور في جواز كرائها بجزء مما يخرج منها: فمن قال بالجواز حَمَلَ أحاديث النهي على التنزيه. ويدل عليه قول ابن عباس الماضي في الباب الذي قبله حيث قال: ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض. ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج منها قال: النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها، أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة. وقال مالك: النهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر؛ لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام. وفي التحفة:

والأرض لا تكرى بجزء تخرجه

والفسخ مع كراء مثل مخرجه

ولا بما تنبته غير الخشب

من غير مزروع بها أو القصب

ولا بما كان من المطعوم

كالشهد واللبن واللحوم

ابن عاصم. البهجة: 2/ 164.

قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكرى به من الطعام جزءاً مما يخرج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري أو بطعام حاضر يقبضه المالك فلا مانع من الجواز، والله أعلم. ابن حجر. الفتح: 5/ 26.

(1)

انظر 57 كتاب المغازي، 12 باب من شهد بدراً. وتمام لفظه: عن الزهري أن سالم بن عبد الله أخبره، قال: أخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر أن عميه - وكانا شهدا بدراً - أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. قلت لسالم: فتكريها أنت؟ قال: نعم، إن رافعاً أكثر على نفسه. خَ: 5/ 18.

ص: 70

روايته. ففي كتاب المزارعة من صحيح البخاري عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر أهل المدينة مُزْدَرعاً، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمًّى لسيد الأرض، [قال:] فممّا يصاب ذلك وتسلمُ الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. وأما الذهب والورِق فلم يكن يومئذ"(1) اهـ. فجعل محمل النهي ما في عقود قومه من المخاطرة.

المثال الثاني: أخرج البخاري في باب وفد اليمن: "إن خباب بن الأرتّ جاء إلى عبد الله بن مسعود وفي أصبعه خاتم من ذهب. فقال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن ينزع؟! فقال له خباب: أما إنك لا تراه عليّ بعد اليوم. فنزعه"(2) اهـ. قال العلماء: كان خباب يرى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس خاتم الذهب نهيَ تنزيه لا نهيَ تحريم. ولذلك كان ابن مسعود يحاوره في نزعه، ويستبطئ تريُّث خباب عن نزعه، إلى أن رضي خباب بنزعه إرضاء لصاحبه، ولم يكن تغيير ابن مسعود عليه بلهجة تغيير المُنكِر.

المثال الثالث: أخرج مالك في الموطأ حديث: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"(3) ثمّ عقّبه بقوله: وليس لهذا عندنا حد محدود

(1) انظر 41 كتاب المزارعة، باب 7. خَ: 3/ 68؛ وروى مَ مثله من طريق سليمان، بن يسار:"ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة". ابن حجر. الفتح: 5/ 25.

(2)

انظر 64 كتاب المغازي، 74 باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، الحديث الأخير في الباب. وهو بلفظ "يلقى" بدل "ينزع"، و"ألقاه" بدل "نزعه". خَ: 5/ 123.

(3)

ولفظه عند مالك: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار". 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار، 79. طَ: 2/ 671.

ص: 71

ولا أمر معمول به [فيه](1)، أي في تقدير مدّة عدم تفرّقهما ولم يقل به مالك في مذهبه. وعلّلوا ذلك بمنافاته لمقصد الشارع من بتّ العقود. فمحمل الافتراق عنده أنه الافتراق بالقول وهو صدور صيغة البيع [الإيجاب دون القبول].

المثال الرابع: ذكر أبو إسحاق الشاطبي في المسألة الثانية من كتاب الأدلة عن ابن العربي (2) قال: "إذا جاء خبر الواحد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به [أم لا]؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به (3). وقال الشافعي: يجوز. [وتردّد مالك في

(1) تقدم ذكره: 43/ 3.

(2)

الشاطبي. الموافقات: (1) 3/ 10 = (2) 3/ 11 = (3) 3/ 24 - 25 = (4) 3/ 186. مثاله حديث المصرّاة احتج به ابن أبي ليلىَ ومَالك والليث والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو سليمان وزفَر وأبو يوسف في بعض الروايات. العيني. عمدة القاري: 11/ 270. وقال ابن عبد البر: هذا حديث مجمع على صحّته وثبوته من جهة النقل، واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها. ابن حجر. الفتح: 4/ 365.

(3)

لم يقبله أبو حنيفة. وعلّل الأحناف عدم العمل به بأعذار كثيرة منها:

1 -

أنه من رواية أبي هريرة، وهو ليس كابن مسعود من فقهاء الصحابة.

2 -

أنه مضطرب لذكر التمر فيه تارة، والقمح مرة، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة أخرى.

3 -

أنه معارض لعموم القرآن.

4 -

أنه منسوخ وناسخه حديث: "الخراج بالضمان".

5 -

أنه من أخبار الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن.

6 -

أنه مخالف لقاعدة الربا.

7 -

أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها.

8 -

أنه يلزم منه إثبات الردّ بغير عيب.

ابن حجر. الفتح: 4/ 366 - 367.

ص: 72

المسألة، قال:] ومشهور قوله، والذي عليه المعوَّل: أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه (1). وقد رد مالك حديث المُصرَّاة (2)؛ لمَّا رآه مخالفاً للأصول، [فإنه قد خالف أصل

(1) شرط مالك لقبول خبر الواحد عرضه على ما اجتمع عليه القرآن ونصوص السنة. ومما تركه الإمام مالك من الأحاديث للعلة نفسها: حديث خيار المجلس، وحديث المصرّاة، وحديث جواز العرايا في ثمر النخل. وقد ناقش الشافعي ذلك في باب بيع الخيار. الأم: 3/ 3، وفي باب المصراة، والخلاف فيها، وباب الخلاف في العرايا. اختلاف الحديث. هامش الجزء السابع من الأم: 332، 336، 343.

ويرى المتمسّكون بالسنة أن ما خالف منها الأصول والقواعد، قد يكون بذاته عند التأمل مشتملاً على حكم ومصالح تجعل منه أصلاً شرعياً مستقلاً برأسه، فيزول ما يتوهّم من التعارض بينه وبين الأصول العامة والقواعد الكلية.

(2)

انظر 34 كتاب البيوع، 64 باب النهي للبائع أن لا يحفّل الإبل والبقر والغنم، ح 1. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَصُرُّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فإنه بخير النظرين بين أن يحتلبها. إن شاء أمسك، وإن شاء ردّها وصاعَ تمر". وورد الحديث بصيغ أخرى مختلفة من طرق متعددة. وفي الباب حديث عبد الله بن مسعود خَ: 3/ 25 - 26؛ 15 باب إن شاء رد المصرّاة وفي حلبتها صاع من تمر. خَ: 3/ 26؛ انظر 21 كتاب البيوع، 4 باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وتحريم النجش وتحرجم التصرية، ح 11، حديث أبي هريرة. مَ: 2/ 1155. 7 باب حكم مبيع المصرّاة، ح 23 - 28. مَ: 2/ 1158 - 1159؛ 17 كتاب البيوع والإجارات، 48 باب من اشترى مصراة فكرهها، ح 3443 - 3446. دَ: 3/ 722 - 728؛ 44 كتاب البيوع، 14 باب النهي عن المصراة. نَ: 7/ 253؛ 31 كتاب البيوع، 45 باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة، ح 96. طَ: 2/ 683 - 684. حَم: 2/ 242، 417، 460، 465.

وحديث المصرّاة هذا حديث صحيح لا خلاف بين أهل الحديث في صحته. الباجي. المنتقى: 5/ 36.

ص: 73

(الخراج بالضمان)] (1)، ولأن متلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته،

= وقال المازري: وحديث المصراة أصل في تحريم الغش، وفي الرد بالعيب، لأن العيب في المبيع أو في غلّته. وفيه أن التدليس لا يفسد البيع وإنما يوجب الخيار. المعلم: 2/ 161 - 165، عدد 658.

وقول المؤلف هنا: وقد رد مالك حديث المصرّاة إشارة منه إلى ما ورد في المنتقى: قال ابن القاسم: قلت لمالك: أتأخذ بحديث المصرّاة؟ قال: نعم. قال ابن المواز: ولم يأخذ به أشهب. وقال: جاء ما يضعفه أن الغلة بالضمان، وسألت عنه مالكاً فكأنّه ضعفه. وقال أشهب: وهو لو ردها بعيب وقد أكل لبنها فلا شيء عليه. الباجي: 5/ 105. ونقل عن الأبي قوله: أخذ مالك في المشهور عنه بهذا الحديث، ولم يأخذ به في قوله الآخر الذي له في العتبية ومختصر ابن عبد الحكم. وقال: قد جاء حديث "الخراج بالضمان". اهـ. الكاندهلوي. أوجز المسالك: 11/ 377.

(1)

أخرجه أصحاب السنن عن عائشة. ووجه الدلالة منه: أن اللبن فضلة من فضلات الشاة. ولو هلكت لكان من ضمان المشتري، فكذلك فضلاتها تكون له، فكيف يغرم بدلها للبائع؟ ابن حجر. الفتح: 4/ 365. وقد ورد الكلام عن "الخراج بالضمان" في القاعدة العاشرة. ابن نجيم. الأشباه: 175؛ علي حيدر. شرح مجلة الأحكام: 1/ 78 - 79؛ الأتاسي. شرح المجلة: 1/ 241؛ أحمد الزرقاء. شرح القواعد الفقهية: المادة 85، 361؛ البورنو. الوجيز: 236 - 240. وغيرها.

وقال أصحاب الحديث: توقّف ابن تيمية عند قاعدة "الخراج بالضمان"، مؤكّداً أن حديث المصرّاة أصحُّ منها باتفاق أهل العلم، مع أنه لا منافاة بينهما. فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري، ولفظ الخراج اسم للغلّة مثل كسب العبد، وأما اللبن ونحوه فإنه يلحق بذلك. وهنا كان اللبن موجوداً في الضرع فصار جزءاً من المبيع. ولم يجعل الصاع عوضاً عمّا حدث بعد العقد؛ بل عوضاً عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد. وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فإن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد، فتعذّرت معرفة قدره. فلهذا قدر الشرع البدل قطعاً =

ص: 74

وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض فلا.

المثال الخامس: أخرج مالك في الموطأ [عن نافع] في تخمير المُحرم وجهه: "أن عبد الله بن عمر كفَّن ابنه واقدَ بنَ عبد الله، ومات بالجحفة مُحرماً، وخمّر رأسه ووجهه. وقال: لولا أنَّا حُرُم لطيّبناه. قال مالك: وإنما يعمل الرجل ما دام حياً، فإذا مات فقد انقضى العمل"(1) اهـ. أشار إلى أن المحرم إذا مات يطيب إن كان

= للنزاع. وقدر بغير الجنس، لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيؤدي إلى الربا، بخلاف غير الجنس، فإنه كأنه ابتاع لذلك اللبن الذي تعذَّرَت معرفة قدره بالصاع من التمر. والتمر كان طعام أهل المدينة، وهو مكيل مطعوم يقتات به. كما أن اللبن مكيل مقتات، وهو أيضاً يقتات به بلا صنعة

فهو أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن. ابن تيمية. الفتاوى: 20/ 556 - 558.

وقال ابن القيم - على لسان أنصار الآخذين بالحديث حديث المصرّاة وكذا حديث الخراج بالضمان -: إن كل ما ذكرتموه بشأن مخالفتهما للأصول والقواعد الشرعية خطأ. فالحديث - وهو حديث المصراة - موافق لأصول الشريعة وقواعدها، ولو خالفها لكان أصلاً بنفسه، كما أن غيره أصل بنفسه. وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض، بل يجب اتباعها كلها، ويقر كل منها على أصله وموضعه. فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه، وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح. إعلام الموقعين: حديث المصرّاة يوافق القياس 2/ 38.

وتعقب صاحب إعلاء السنن هذا الجدل الواسع بين الجمهور وأبي حنيفة بقوله: وقد ظهر أن الاعتذارات التى اعتذر بها الحنفية عامتها صحيحة، والأجوبة التي أجاب بها المخالفون مردودة عليهم. ظفر أحمد العثماني. إعلاء السنن: 14/ 67 وما بعدها، فليتأمل.

(1)

انظر 20 كتاب الحج. 6 باب تخمير المحرم وجهه، ح 14 طَ: 1/ 327. =

ص: 75

معه من الناس غيرُ مُحرم يجوز له مس الطيب (1). وأشار إلى تأويل الحديث المروي في صحيح البخاري في المحرم الذي وقصته ناقته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمسّوه بطيب"(2). والظاهر أن الراوي

= والأصل الذي لا خلاف فيه: تحريم تخمير الوجه على المحرم. وبه قال ابن عمر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن. وفيه الفدية على المشهور. ولا يجوز تغطية الرأس إجماعاً. وحديث مالك عن نافعٍ عن ابن عمر: أن عبد الله بن عمر كفن ولده واقداً وقد مات محرماً بالجحفة فخمر رأسه ووجهه. ولم يعامل ولده معاملة الحي المحرم؛ لسقوط التكليف عنه في هذه الحال. وهو ما عبر عنه بانقضاء العمل. وكان ابن عباس وابن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعيد وجابر يرون التخمير جائزاً غير واجب. وقد غطى عثمان وجهه بقطيفة وهو محرم في يوم صائف، وهو متأوِّل. وبالجواز قال الشافعي.

(1)

جرى الخلاف في مسّ المحرم الطيب. فقالوا: هو حرام، ولمن مات محرماً جائز. وأن المنع من ذلك ليس من أجل الميت، وإنما هو من أجل المحرم الحي، لأن تطييبه للميت يقتضي منه مسّ الطيب، وهو حرام.

(2)

انظر 28 جزاء الصيد، 14 باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، ح 2، وهو بلفظ:"ولا تقرّبوه طيباً" خَ: 2/ 215؛ 20 باب المحرم يموت بعرفة، ح 3، 21 باب سنة المحرم إذا مات، حديث ابن عباس، ولفظه: أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً" خَ: 2/ 217؛ 15 كتاب الحج، 14 باب ما يفعل بالمحرم إذا مات ح 99. مَ: 1/ 866. ولم يأخذ مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم بحديث ابن عباس حديث من وقصته الدابة بعرفة، وفيه أنه حين أتي به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث ملبياً"؛ وذلك لأنه شهيد، وهي خصوصية وواقعة عين لا عموم لها. انظر شرح الزرقاني: 2/ 232؛ النووي. شرح مسلم: 8/ 126 - 127.

ص: 76

اشتبه عليه قوله: "لا تمسّوه بطيب" بأنه لأجل الميت، وإنما هو لأجل الأحياء الذين معه، أو هي خصوصية. وعلّة الرّد أن ذلك مخالف لتواعد الشريعة، وليس لورود خبر آخر يعارضه، إذ لم يُرو غيرُ ذلك.

المثال السادس: أخرج مالك في الموطأ: "أن أبا حذيفة كان تبنّى سالماً وكان يرى أنه ابنه. فلما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (1) جاءت سَهلة بنت سُهيل زوجُ أبي حُذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل علي وأنا فُضُل (2)، وليس لنا إلّا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه خمس رضعات، فيحرم بلبنها" (3). وكانت تراه ابناً من الرضاعة. فأخذت بذلك عائشة [أم المؤمنين] فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال. [فكانت] تأمر أختها [أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها من الرجال](4). وأبى سائرُ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك

(1) الأحزاب: 5.

(2)

فُضُل، بضمتين: وصف يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره، معناه في ثوب واحد هو ما يفضل من الثياب بعد نزع أكثرها. قال امرؤ القيس [البيت 26 من المعلقة].

فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها

لدى الستر إلا لبسة المتفضل

[ابن النحاس. شرح المعلقات: 18].

اهـ. تعليق ابن عاشور.

(3)

انظر 30 كتاب الرضاع، 2 باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، ح 12 طَ: 2/ 605 - 606؛ 17 كتاب الرضاعة، 7 باب رضاعة الكبير، ح 26 - 31 مَ: 2/ 1076 - 1078.

(4)

وكان ما رأته عائشة في ذلك شذوذاً لم يأخذ به أحد من الصحابة سوى =

ص: 77

الرضاعة أحدٌ [من الناس] وقلن: [لا والله] ما نرى الذي أمر [به] رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سهلةَ إلا رخصة [من رسول الله صلى الله عليه وسلم] في رضاعة سالم وحده. [لا] والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد"، قال مالك بعد ذلك: "وكان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود لا يريان الرضاعة إلّا في الصغر في الحولين" (1) اهـ.

= أن أبا موسى الأشعري أفتى به، ثم خطّأ نفسه حين راجعه عبد الله بن مسعود. ولم يكن ما فعلته عائشة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصحبه تقرير شرعي. ابن عاشور. كشف المغطى:268.

(1)

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب؛ فقال: إني كانت لي وليدة وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك. فقد والله أرضعتها، فقال عمر: أوجعْها وأت جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. وقال ابن مسعود: لا رضَاعة إلا ما كان في الحولين. انظر 30 كتاب الرضاع، 2 باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، ح 13، 14 طَ: 2/ 606، 607.

ص: 78