الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هـ - المقصد العام من التشريع
إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا - من كليات دلائلها، ومن جزئياتها المستقراة - أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه وصلاحَ عقله وصلاحَ عمله وصلاحَ ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه.
قال الله تعالى حكاية عن رسوله شعيب وتنويهاً به: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (1). فعلمنا أنّ الله أمر ذلك الرسول بإرادة الإصلاح بمنتهى الاستطاعة.
وقال: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (2). وقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (3). فعلمنا أن الصفات التي أجريت على فرعون كلها من الفساد، وأن ذلك مذموم، وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بني إسرائيل من فساد فرعون، فعلمنا أن المراد من الفساد غير
(1) هود: 88.
(2)
الأعراف: 142.
(3)
القصص: 4.
الكفر، وإنما هو فساد العمل في الأرض، لأن بني إسرائيل لم يتبعوا فرعون في كفره.
وقال حكاية عن شريعة شعيب لأهل مدين: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (1)، وفي آية أخرى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (2).
وقال حكاية عن رسول ثمود: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (3). وقال الله تعالى مخاطباً هذه الأمة: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (4). وقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (5). وقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (6).
فهذه أدلة صريحة كلية دلت على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، وذلك في تصاريف أعمال الناس.
وهناك آيات كثيرة في القرآن ذكر فيها الصلاح في معرض الحث والمدح، وذُكِر فيها الفساد في معرض التحذير والذم، تركت سوقها هنا لأنها لم تكن صريحة في أن المراد من الصلاح والفساد صلاح وفساد الأعمال، بل تحتمل أن يراد منهما الإيمان والكفر.
(1) الأعراف: 85.
(2)
هود: 85، الشعراء: 183، العنكبوت:36.
(3)
الأعراف: 74.
(4)
الأعراف: 85.
(5)
البقرة: 205.
(6)
محمد: 22 - 23.
وتَتْبَعُها أدلة من قبيل الإيماء جاءت دالة على أن صلاح الحال في هذا العالم منة كبرى يَمُنُّ الله بها على الصالحين من عباده جزاء لهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (1). وقال مخاطباً المسلمين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (2). وقال في معرض الوعد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (3). وامتن على بني إسرائيل بالإنقاذ من الأسر الدنيوي بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (4). فلولا أن صلاح هذا العالم مقصود للشارع ما امتن به على الصالحين من عباده.
ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوّه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما قد يتوهم، بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية.
فإنّ قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (5) أنبأنا بأن الفساد المحذّر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم، وأن الذي أوجد هذا العالم وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله ذلك عبثاً. وهو يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
(1) الأنبياء: 105 - 106.
(2)
النور: 55.
(3)
النحل: 97.
(4)
المائدة: 20.
(5)
البقرة: 205.
عَبَثًا} (1). ولولا إرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد. فقد شرع القصاص على إتلاف الأرواح (2) وعلى قطع الأطراف (3)، وشرع غرم قيمة المتلفات، والعقوبة على الذين يحرقون القرى ويغرقون السلع (4). ولَمَا أباح تناول الطيبات والزينة (5). وأقامت الشريعة لإصلاح معاملة الناس بعضهم مع بعض نظام الحق. وهو لدفع الفساد قطعاً، كما صرح به قوله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (6). فجعل الحقَّ ممانعاً للفساد.
ومن عموم هذه الأدلة ونحوها حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلِّبةٌ لجلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبرنا هذا قاعدة كلية في الشريعة.
فقد انتظم لنا الآن أن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد. وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده. فإنّه لما كان هو المهيمنَ على هذا العالم كان في صلاحه صلاح العالم وأحواله. ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله. فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير
(1) المؤمنون: 115.
(2)
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . البقرة: 179.
(3)
(4)
لما قررته الشريعة من حفظ المتمولات. نبه على ذلك المؤلف: 201.
(5)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . الأعراف: 32.
(6)
المؤمنون: 71.
الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه، لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب"(1). وقد قال الحكماء: الإنسان عقل تخدمه الأعضاء (2).
(1) حديث النعمان بن بشير. انظر: 2 كتاب الإيمان، 39 باب فضل من استبرأ لدينه. خَ: 1/ 19؛ انظر 22 كتاب المساقاة، 20 باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 107. مَ: 2/ 1219 - 1220؛ انظر 36 كتاب الفتن، 14 باب الوقوف عند الشبهات، 3984. جَه: 2/ 1318 - 1319؛ انظر 18 كتاب البيوع، 1 باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ح 2534. دَي: 2/ 559.
(2)
نسب المؤلف هذه المقالة الحكيمة للفيلسوف الفرنسي بونالد (1754 - 1840 م)، وذلك عند تفصيله القول في ذكر أسباب تأخر التعليم. وجعلها تنبيهاً على وجوب مراعاة المصالح الصحية وعدم خلوه عنها. مبيناً ذلك بقوله: الإنسان خُلق ليعلم ويعمل، فالعلم بالعقل والعمل بالبدن، وهما متكافئان في وجوب التحفظ عليهما. انظر: أليس الصبح بقريب: 129 - 130.
وقد وردت من قبل بإزاء هذا المعنى أو ما يقرب منه أقوال أئمة الفكر الإسلامي، نذكر منها أن العقل هو الشيء الذي يدرك به الإنسان ما لا يدرك بالحواس
…
ولولا خدمة الحواس للعقل ما أدركنا شيئاً. فإن الكسبيات فرع البديهيات، والبديهيات فرع المحسوسات
…
والعقل من صفاته وأفعاله اليقين والشك والتوهّم، وطلب الأسباب لكل حادث والتفكر في حيل جلب المنافع ودفع المضار. شاه ولي الله دهلوي. حجة الله البالغة: 2/ 88 - 90.
وقالوا: إن اكتمال قيام العقل بجميع وظائفه يحصل من التئام العقل التمييزي والعقل التجريبي، وصيرورته عقلاً محضاً ونفساً مدركة تعتمد الاعتبار والتنبيه وحسن النظر في تصرفاتها وأحكامها، وترتقي بذلك من المعارف الحسية إلى المعارف العقلية، ومن مراتب الشك إلى درجة =
ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بتقنين التشريعات كلها. فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدريج في مدارج تزكية النفس.
ولنا من تطور التشريع من ابتداء البعثة إلى ما بعد الهجرة هاد يهدينا إلى مقصد الشريعة من الوصول إلى الإصلاح المطلوب. وقد أشار إلى مجمل ما أطلناه ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي عمرة الثقفي أنه قال: "قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك"، قال:"قل آمنت بالله ثم استقم"(1).
وإذا لم يكن غرضنا في هذا الكتاب الكلام عن الإصلاح العام في الإسلام فلنلْوِ عنان القلم عن الخوض في صلاح الاعتقاد وفي صلاح الأنفس وفي صلاح عمل العبادات، ولنثن ذلك العنان إلى خصوص البحث في صلاح أحوال المسلمين في نظام المعاملات المدنية، وهي ما يعبر عنه بجلب المصلحة ودرء المفسدة.
= اليقين. وهكذا يتبيّن فضل العقل وتتضح ضرورة الحفاظ عليه التي أمر بها الشرع حين دعا إلى وجوب معالجة الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه. فالعقل مستقر الحقيقة الإنسانية والفكر خاصة البشرية، به ميَّز الخالق المبدع الكريم البشر عن غيره، وجعله مستخلفاً في الأرض.
(1)
انظر 1 كتاب الإيمان، 13 باب جامع أوصاف الإسلام، ح 62. مَ: 1/ 65.