الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع
لقد بان من استقراء أقوال الشارع صلى الله عليه وسلم وتصرّفاته، ومن الاعتبار بعموم الشريعة الإِسلامية ودوامها، أن مقصدها الأعظم نوطُ أحكامها المختلفة بأوصاف مختلفة تقتضي تلك الأحكام، وأن يتبع تغيرُ الأحكام تغيرَ الأوصاف، إذ لو كانت الشريعة مؤقتة بقوم بخصوصهم أو بعصور بخصوصها لأمكن أن يدَّعي مدَّعٍ أن ما قرر فيها من الأحكام لا يختلف لأن غاية دوامه معلومة. فإذا حَلَّت تلك الغاية بعلم الله تعالى خاطب الناس بنسخ تلك الشريعة. فأما وشريعة الإِسلام عامة دائمة، وتغيرُ الأحوال سنة إلهية في الخلق لا تتخلف، فبقاء الأحكام مع تغير موجبها لا يخلو من أن يكون إقراراً لنقيض مقصود الشارع من تعليق ذلك الحكم بذلك الموجب. فيصير أحد العملين عبثاً، أو أن يكون مكابرة في تغير الموجب وذلك ينافي المشاهدة القطعية أو الظنية في أحوال كثيرة، ويؤول ذلك على التقديرين إلى أن تكون الأحكام مقصودةً لذاتها لا متابعة لموجباتها.
ويحق علينا أن نأتي بشيء من استقراء كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفه في هذا الشأن لزيادة اطمئنان الناظر في هذا المقام الذي قد يكثر منكروه ويعشو مبصروه.
فمن ذلك حديث عاصم بن عدي الأنصاري في الموطأ
والصحيحين في اللعان: أن عويمراً العجلاني سأل عاصماً أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ فسأل عاصم رسول الله. قال عاصم: فكره رسول الله المسائل وعابها (أي كره السؤال سواء كان في هذه النازلة أم في غيرها، لأنه قال: كره المسائل)(1).
وفي حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته"(2).
وفي حديث قيام الليل في الصحيح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة فقام المسلمون معه. فتكاثر الناس في الليلة الثانية والثالثة فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه لم يخفَ علي مكانكُم وخشيت أن يكتب عليكم القيام، ولو كتب عليكم ما قمتم به"(3).
وفي حديث أبي ثعلبة الخشني صراحة في هذا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها وحدَّد حدوداً فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"(4) *.
(1) انظر 68 كتاب الطلاق، 4 باب من أجاز طلاق الثلاث. خَ: 6/ 164 - 165؛ انظر 19 كتاب اللعان. مَ: 2/ 1129 وما بعدها؛ انظر 29 كتاب الطلاق، 13 باب ما جاء في اللعان، 34. طَ: 2/ 566 وما بعدها.
(2)
تقدم الحديث وتخريجه: 277/ 1.
(3)
انظر 11 كتاب الجمعة، 29 باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، ح 2 بلفظ:"أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". بدل: "ولو كتب عليكم القيام ما قمتم به". خَ: 1/ 222؛ 31 كتاب صلاة التراويح، 1 باب فضل من قام رمضان، 4. خَ: 2/ 252.
(4)
* رواه الدارقطني، وسنده حسن. اهـ. تع ابن عاشور. =
وقال ابن عباس: ما رأيت خيراً من أصحاب محمَّد. ما سألوه إلَّا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلها في القرآن:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} - {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ونحوهما (1).
وللحذر من أن يكثر تقوُّل الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم، أو أن يستند كثير من المتفقهين إلى تصرفاتٍ صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزئيات، أو إلى أقوال أُثرتْ عنه غير مؤداةٍ كما صدرت منه، أو غير مبين فيها الحال الذي صدرت فيه، من أجل ذلك ما حكى ابن العربي في العواصم: "كان عمر لا يمكّن الناس أن يقولوا قال رسول الله، ولا يذيعوا أحاديث النبي حتى يُحتاج إليها وإن درست (2). وهذا لحكمة بديعة، وهي أن الله قد بين المحرّمات والمفروضات في كتابه. وقال تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (3). وقد اتفقت الصحابة على جمع
= [تقدم تخريجه: 270/ 2، 277/ 1، 303/ 3].
(1)
في الجامع لأحكام القرآن ذكر الأثر المنسوب لابن عباس. رواه جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه. قال: "ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: يسألونك عن المحيض، يسألونك عن الشهر الحرام، يسألونك عن اليتامى، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم". والثلاث عشرة مسألة الواردة في القرآن ست منها في البقرة. الآيات: 189، 215، 217، 219، 220، 222. والمسائل الباقية منثورة في المائدة: 4، والأعراف: 187، والأنفال: 1، والإسراء: 85، والكهف: 83، وطه: 105، والنازعات:44. وقد عقَّب ابن عبد البر على هذا الأثر بقوله: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. القرطبي: 3/ 40.
(2)
ابن العربي. العواصم من القواصم: 2/ 74.
(3)
المائدة: 101.
القرآن لئلا يدرس، وتركت الحديث يجري مع النوازل. وأكثر قوم من الصحابة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فزجرهم عمر" (1) اهـ.
وأقول: قد تتبعت تفريعَ الشريعة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت معظمَهُ في أحكام العبادات، حتى إنك لتجد أبواب العبادات في مصنفات السنة هي الجزء الأعظم من التصنيف بخلاف أبواب المعاملات. وذلك لأن العبادات مبنيةٌ على مقاصد قارة، فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور إلا في أحوال نادرة تدخل تحت حكم الرخصة.
فأما المعاملات فبحاجة إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور. فالحملُ فيها على حكم لا يتغيّرُ حرجٌ عظيم على كثير من طبقات الأمة. ولذلك كان دخول القياس في العبادات قليلاً نادراً، وكان معظمه داخلاً في المعاملات.
ولذلك نجد أحكام المعاملات في القرآن مسوقةً غالباً بصفة كلية، حتى إن الله تعالى لمّا فصّل أحكام المواريث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تولّى قسمة الفرائض بنفسه"(2).
(1) عن الداروردي: سئل أبو هريرة أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمن عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته. وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الذهبي. التذكرة: 1/ 7/ 2.
(2)
هذا طرف من حديث نصه: "إن الله تعالى لم يَكِلْ قسمة مواريثكم إلى نبي مرسل، ولا ملك، ولكن تولى قسمته بنفسه". أحمد النفراوي. الفواكه الدواني على شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/ 270؛ محمَّد بن أحمد بنيس. بهجة البصر في شرح فرائض المختصر: 18 - 19. وقد ورد نحو هذا في مصاريف الزكاة. أبو داود؛ السنن: 2/ 281، ح 1630. البيهقي. السنن: 4/ 174، 7/ 6.
وأورد الحديث بلفظ قريب مما ذكره المؤلف قال: وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: =
وتفاريعُ الشريعة في المعاملات على مقصدين: تارة يكون المقصد حملَ الناس على حكم مستمر مثل تحريم الربا، وتارة يكون قضاء بين الناس فيكون الفرع المقضيُّ به بياناً لتشريع كلي. وهذا مقام يحتاج إلى تدقيق الفرق فيه. وقد قال أئمة أصول الفقه: إن لم ينصّ الشارع فيه بشيء، فأصلُ ما هو مضرّة أن يكون حكمه التحريم، وأصلُ ما هو منفعة أن يكون حكمه الحِل (1).
وإذ قد جعلنا سدَّ الذرائع من أصول التشريع، وكان سدُّها في أحوال معينة، لزم أن يكون موكولاً لنظر المجتهدين سدّاً وفتحاً بأن يراقبوا مدّة اشتمال الفعل على عارض فساد فيمنعوه، فإذا ارتفع عارض الفساد أرجعوا الفعلَ إلى حكمه الذاتي له (2).
= "إن الله تعالى لم يكل قسم مواريثكم إلى نبي مرسل، ولا إلى ملك مقرب، ولكن تولى بيانها فقسمها أبين قسم". إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم. العذب الفائض شرح عمدة الفارض: 1/ 8؛ شرح التحفة، باب التوارث والفرائض: 2/ 391.
قال: وهو علم قرآني جليل. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يكل قسمة ميراثكم إلى أحد بل تولاه بنفسه فبينها أتم بيان" التاودي: 2/ 351.
وفي السنن: نا أحمد بن محمَّد بن زياد، نا عبد الرحمن بن مرزوق، نا عبد الوهاب أنا سعيد عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة. قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فقال: "إن الله عز وجل قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث. فلا يجوز لوارث وصية إلا من الثلث". الدارقطني: 4/ 152؛ محمَّد يوسف الكافي. إحكام الأحكام على تحفة الحكام: 331.
(1)
من الأدلة - فيما بعد ورود الشرع - أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع. الزركشي. البحر المحيط: 6/ 12 - 15.
(2)
القرافي. الفروق: 58 الفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل: 2/ 32 - 34.