الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أ - مقاصد التشريع العامة
مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصّ ملاحظتُها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها.
ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية
المقاصد الشرعية نوعان: معانٍ حقيقية، ومعان عرفية عامة. ويشترط في جميعها أن يكون ثابتاً ظاهراً منضبطاً مطّرداً.
فأما المعاني الحقيقيّة فهي التي لها تحقّق في نفسها (1) بحيث تدرك العقولُ السليمةُ ملاءَمَتَها للمصلحة أو منافرَتَها لها، أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضُراً عاماً، إدراكاً مستقلاً عن التوقّف على معرفة عادة أو قانون، كإدراك كون العدل نافعاً، وكون الاعتداء على
(1) ليس المراد هنا بالحقيقي معناه في الحكمة - أعني ما له وجود في الخارج ونفس الأمر، وهو الذي يقابل الأمر الاعتباري - بل المراد ما يشمل الاعتباريات وهي المعاني التي توجد في اعتبار المعتبر، ولكن وجودها تابع لوجود حقيقة أو حقيقتين. ويدخل تحت هذا الأمورُ النسبية كالزمان والمكان، والأمور الإضافية كالأبوة والأخوة. اهـ. تع ابن عاشور.
النفوس ضاراً، وكون الأخذ على يد الظالم نافعاً لصلاح المجتمع.
والتقييد بالعقول السليمة لإخراج مدركات العقول الشاذّة كمحبة الظلم في الجاهلية، كما في قول الشَّمَيذَر الحارثي من شعراء الحماسة مفتخراً:
فلسنا كمن كنتُم تصيبون سَلَّةً
…
فَنَقْبَلَ ضَيمًا أو نُحَكِّمَ قاضيا
ولكنَّ حكمَ السيف فيكم مسلّط
…
فَنَرَضَى إذا ما أصبَحَ السيفُ راضيا (1)
وقول سَوَّارِ بنِ المضَرَّب السَّعدي مفتخراً:
وأنّي لا أزال أخا حروب
…
إذا لم أَجْنِ كُنتُ مِجَنَّ جَانِ (2)
وأما المعاني العرفية فهي المُجَرَّبات التي ألفتها نفوس الجماهير، واستحسنتها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور، كإدراك كون الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به، وكإدراك كون عقوبة الجاني رادعةً إياه عن العود إلى مثل جنايته، ورادعةً غيره عن الإجرام، وكون ضدّ ذينك يؤثر ضدّ أَثَرَيهما، وإدراك كون القذارة تقتضي التطهّر.
وقد اشترطتُ لهذين النوعين: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد.
فالمراد بالثبوت: أن تكون تلك المعانى مجزوماً بتحقّقها أو مظنوناً ظناً قريباً من الجزم.
والمراد بالظهور: الاتّضاح، بحيث لا يختلف الفقهاء في
(1) البيتان هما الثاني والثالث من مقطّعة ذات خمسة أبيات، عزاها البرقي لسويد بن جميح المرثدي من بني الحارث. المرزوقي. شرح ديوان الحماسة: 1/ 125، 16.
(2)
هذا هو البيت الرابع والأخير من المقطعة المنسوبة لسوّار. المرزوقي. شرح ديوان الحماسة: 1/ 132، 18.
تشخيص المعنى، ولا يلتبس على معظمهم بمشابهه، مثل حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح. فهو معنى ظاهر ولا يلتبس بحفظه الذي يحصل بالمخادنة أو بالإلاطة، وهي إلصاق المرأة البغيّ الحملَ الذي تَعْلَقه برجل معين ممن ضاجعوها.
والمراد بالانضباط: أن يكون للمعنى حدّ معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصالح منه لِأَن يعتبر مقصداً شرعياً قدراً غير مشكَّك، مثل حفظ العقل إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن تصرّفات العقلاء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند الإسكار (1).
والمراد بالاِطِّراد: أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار، مثل وصف الإسلام، والقدرة على الإنفاق فى تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة المسماة بالكفاءة المشروطة في النكاح في قول مالك وجماعة من الفقهاء (2)، بخلاف التماثل في الإثراء أو في القبيلة.
(1) الأصل في ذلك حديث أنس بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. انظر 86 كتاب الحدود، 2 باب ما جاء في ضرب شارب الخمر. خَ: 8/ 13؛ وجلد عمر ثمانين، وبه أخذ الجمهور، والخبر أنّ عمر استشار في الخمر يشربُها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين. فإنه إذا شرِب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فجلد عمر في الخمر ثمانين. انظر 42 كتاب الأشربة، 1 باب الحد في الخمر، ح 2. طَ: 4/ 842.
(2)
الأوصاف المعتبرة في الكفاءة وفاقاً وخلافاً ستة، أشار إليها بعضهم بقوله:
نسب ودين صنعة حرية
…
فقد العيوب وفي اليسار تردّد
والمعتمد عند المالكية اشتراط الكفاءة، أي المماثلة في التديّن أي كون الزوج ذا ديانة، احترازاً من أهل الفسوق، وفي الحال أي السلامة من =
وقد تتردّد معان بين كونها صلاحاً تارة وفساداً أخرى، أي بأن اختلّ منها وصفُ الاطراد. فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصدَ شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي فيها أن توكَلَ إلى نظر علماء الأمة وولاة أمورها الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، ليعينوا لها الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره. وذلك مثل القتال والمجالدة. فقد يكون ضراً إذا كان لشق عصا الأمة، وقد يكون نفعاً إذا كان للذب عن الحوزة ودفع العدو.
ألا ترى أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (1) الآية، فجعل قتالهم وهو الحرابة موجباً للعقاب لأنها فساد. وقال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (2)، فأعلمنا أن هذا التقاتل ضر. فلذلك أمر البقية بالإصلاح بينهما لتنهية القتال. ثم قال تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا (أي الطائفتين) عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3)، فأمر بإيقاع قتالٍ للإصلاح. وقال:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في آيات كثيرة (4).
= العيوب الموجبة للرد لا بمعنى الحسب والنسب، وكالحرية على الأوجَه. وإليه ذهب المغيرة وسحنون. ولا تشترط فيها المساواة والمماثلة فيما دون الثلاثة. فمتى ساوى الرجل المرأة في هذه الثلاثة كان كفؤاً. الدردير. الشرح الصغير: 2/ 399 - 401.
(1)
المائدة: 33.
(2)
الحجرات: 9.
(3)
الحجرات: 9.
(4)
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} البقرة: 190، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة: 244، {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} ، آل عمران:167.
فبمثل هذه المعاني بشروطها هذه يحصل اليقين بأنها مقاصد شرعية. فإن دلت أدلة شرعية على أن الشريعة اعتبرت من مقاصدها معاني اعتبارية، أو معاني عرفية خاصة احتاجت الشريعة إلى اعتبارها في مقاصدها لما تشتمل عليه من تحصيل صلاح عام أو دفع ضر كذلك، كاعتبار الرضاع سبباً لتحريم التزوج بالأخت منه ومعاملته معاملة النسب في ذلك (1)، وكاعتبار القرشية في شرط الخليفة (2)،
(1) دليله قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} النساء: 23، وحديث:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". انظر 52 كتاب الشهادات، 7 باب الشهادة على الأنساب والرضاع، ح 2. خَ: 3/ 149؛ 67 كتاب النكاح، 20 باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. خَ: 6/ 124 - 125؛ 27 باب لا تنكح المرأة على عمتها، ح 13. خَ: 6/ 128؛ 117 باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع. خَ: 6/ 160؛ 57 كتاب فرض الخُمس، 4 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ح 7. خَ: 4/ 46. انظر 17 كتاب الرضاع، 1 باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. مَ: 2/ 1068؛ 2 باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، ح 5. مَ: 2/ 1069؛ انظر 16 كتاب النكاح، 7 باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، ح 2055. دَ: 2/ 545؛ انظر 9 كتاب النكاح، 34 باب يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ح 1937، 1938. جَه: 1/ 623؛ انظر 11 كتاب النكاح، 48 باب ما يحرم من الرضاع. بلفظ:"من الولادة" بدل "من النسب"، ح 2253 - 2255. دَي: 2/ 476 - 477؛ انظر 30 كتاب الرضاع، 1 باب رضاعة الصغير، ح 1. طَ: 2/ 601؛ حَم: 1/ 275، 290، 329؛ 6/ 44، 66، 72، 102، 178.
(2)
حديث أنس بن مالك وأبي برزة الأسلمي: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب بيت أحد من الأنصار وقال: "الأئمة من قريش، إنّ لهم عليكم حقاً ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استُرحموا فرحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس =
وجب على الفقيه سبرُ تلك الاعتبارات. فإن حصل له الظن في الجملة بأنها مقصودة للشارع أثبتها كمسائل فرعية قريبة من الأصول، ولا يجترئ على أن يتجاوز مواقع ورودها. وإن قوي الظنُّ بأنها مقاصد شرعية مطّردة فله حينئذ تأصيلها ومجاوزة مواقع ورودها كاعتبار الذكورة شرطاً في الولايات القضائية والإمارة بناء على العرف العام المطرد في العالم يومئذ (1)، واعتبار التبنّي مؤثراً في جميع آثار
= أجمعين". حَم: 3/ 129، 183؛ 4/ 421؛ وحديث عبد الله بن حنطب، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: "قدموا قريشاً ولا تتقَدَّموها، وتعلّموا منها ولا تعلموها - أو ولا تعالموها". أخرجه الشافعي في مسنده؛ والبيهقي في المعرفة كلاهما عن ابن شهاب الزهري بلاغاً، والشافعي وأحمد في المناقب مرفوعاً، وعبد الرزاق بإسناد صحيح. المناوي. فيض القدير: 4/ 511 - 512. وتصرف أبي بكر في الاحتجاج على الأنصار يوم السقيفة. الماوردي. الأحكام السلطانية: 32؛ الفراء. الأحكام السلطانية: 20؛ ابن خلدون. المقدمة: 194.
(1)
ذكروا في شروط الإمامة أن يكون الإمام من أهل الولاية الكاملة في الإسلام، أي ذكراً مسلماً حراً بالغاً عاقلاً. والذكورة شيء مجمع عليه عند جميع الفرق من أهل السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرهم. د/ محمد عبد القادر أبو فارس. القاضي الفراء وكتابه الأحكام السلطانية: 358 - 359. واختلف الأئمة الفقهاء في اشتراط الذكورة لجواز ولاية القضاء. فذهب بعضهم إلى جواز الولاية وإن اختلفوا في نوع القضاء الذي تتولاه المرأة. فأجاز الطبري وأهل الظاهر لها ولاية القضاء بصفة عامة. ابن حزم. المحلى: 10/ 621. وأجازها الأحناف في غير الحدود والقصاص. ابن الهمام. فتح القدير: 7/ 297. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصح تولّي المرأة القضاء لأن الذكورة شرط في هذه الولاية. ولكل فريق أدلته. د. فاروق عبد العليم مرسي. القضاء في الشريعة الإسلامية: 144 - 155.
البنوة الحقيقية في صدر الإسلام (1) قبل نسخ ذلك بآية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) الآية.
فيستخلص من هذا كله أن المقاصد الشرعية معان حقيقية لها تحقّقٌ في الخارج.
وتلحق بها المعاني الاعتبارية القريبة من الحقيقية (3)، ومعان عرفية عامّة متحقّقة.
وتلحق بها معان عرفية خاصة تقرب من المعاني العرفية العامة.
فأما الأوهام، وهي المعاني التي يخترعها الوَهَمُ من نفسه دون أن تصل إليه من شيء محقق في الخارج، كتوهم كثير من الناس أن في الميت معنى يوجب الخوف منه أو النفور عنه عند الخلوة. وهذا الإدراك مركب من الفعل والانفعال لأن الذهن الواحد نجده في هذا فاعلاً ومنفعلاً معاً. فهو يفعل الاختراع ثم يدركه.
وكذلك التخيّلات، وهي المعاني التي تخترعها قوةُ الخيال بمعونة الوهم بأن يركِّبها الخيال من عدّة معان محسوسة محفوظةٍ في
(1) كان الناس في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنّى الرجل ولد غيره أجريت اْحكام البنوّة عليه. وقد تبنّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطَّابُ عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة مولاه سالماً، إلى غير ذلك. الألوسي. روح المعاني: 21/ 146.
(2)
الأحزاب: 5.
(3)
الاعتبارات، هي: المعاني التي لها حقائق متميزة عن بقية الحقائق ولكنها غير موجودة إلا في اعتبار العقلاء، بحيث لا مندوحة للعقل عن تعقلها، لأن لها تعلقاً بالحقائق. ولكن وجودها تابع لوجود الحقيقة مثل الزمان والمكان، أو حقيقتين مثل الإضافات كالأبوة. اهـ. تع ابن عاشور.
الحافظة، كتمثيل صنف من الحوت أنه خنزير بحري (1).
فليس شيء من هذين بصالح لأن يُعدّ مقصداً شرعياً.
[لأن الله تعالى قال لرسوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي الذي ليست فيه شائبة من باطل أو فساد](2).
ثم إننا استقرينا الشريعة فوجدناها لا تراعي الأوهام والتخيلات وتأمر بنبذها، فعلمنا أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلا عند الضرورة، فقضينا بأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية.
ففي الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة. فقال له: "اركبها"، فقال: يا رسول الله إنها بدنة. فقال: "اركبها ويلك" في الثانية أو في الثالثة (3).
وفي الموطأ: أن عبد الله بن عمر كَفَّنَ ابنه واقدَ بن عبد الله حين مات بالجحفة وهو مُحرِم. وقال: لولا أننا حُرُم لطيّبناه (أي ما منعهم من تطييبه إلّا أن الجماعة كلَّهم محرمون لا يجوز لهم مس الطيب). قال مالك: "وإنما يعمل الرجل ما دام حياً. فإذا مات فقد
(1) وحكم خنزير البحر وكلبه مختلف فيه. فمشهور مذهب مالك الكراهة فيهما. وصرح بهذا خليل في مختصره. وقاله الباجي وابن حبيب. وقال ابن القاسم في المدونة: لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء، ويقول: أنتم تقولون: خنزير! الشنقيطي. أضواء البيان: 1/ 154.
(2)
هذه الزيادة من ط. (1) حذفها المؤلف في نسخته المصححة بالضرب عليها. انظر ط. الاستقامة: 54، والآية من النمل:79.
(3)
انظر 20 كتاب الحج، 45 باب ما يجوز من الهدي، ح 139. طَ: 2/ 377؛ انظر 35 كتاب الحج، 103 باب ركوب البدن. خَ: 2/ 180؛ انظر 15 كتاب الحج، 65 باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، ح 371. مَ: 1/ 960.
انقضى العمل" (1). والمقصود من ذلك نسخ الحديث الوارد أن رجلاً وَقَصَتْه ناقتُه وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخمِّروا وجهه ولا تمسُّوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" (2).
وقد قيل: إن تلك خصوصية له، قد علم الله سرًّا أوجب اختصاصه بتلك المزية (3).
والصواب عندي: أن ذلك لئلا يتلطخ محنطوه. فالنهي لأجل الأَحياء لا لأجل الميت، وجعل حرمانه من الحنوط سبباً لحشره ملبياً تنويهاً بشأن الحج، كما ورد في الشهيد، وسنذكره قريباً (4).
وقد أبطل الإسلام أحكام التبنّي التي كانت في الجاهلية وفي صدر الإسلام لكونه أمراً وهمياً.
ومن حق الفقيه مهما لاح له ما يوهم جعل الوهْم مُدْرَك حكم شرعي أن يتعمق في التأمل، عسى أن يظفر بما يزيل ذلك الوهْم، ويرى أن ثمة معنى حقيقياً هو مناط التشريع قد قارنه أمر وهمي فغطّى عليه في نظر عموم الناس، لأنهم أَلِفوا المصير إلى الأوهام.
مثاله: النهي عن غسل الشهيد في الجهاد (5)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهيد:"إنه يبعث يوم القيامة ودمه يثعب، اللون لون الدم والريح ريح المسك"(6). فيتوهّم كثير من الناس أن علّة ترك
(1) و (2) تقدما: 2/ 75، 2/ 76.
(3)
ابن حجر. الفتح: 4/ 54 - 55؛ الزرقاني. شرح الموطأ: 2/ 233، 732؛ الباجي. المنتقى: 2/ 200.
(4)
المثال المذكور بعده: النهي عن غسل الشهيد في الجهاد.
(5)
انظر 21 كتاب الجهاد، 16 باب العمل في غسل الشهيد، ح 37. طَ: 1/ 463.
(6)
جاء عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لشهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة". =
غسله هي بقاء دمه في جروحه يبعث بها يوم القيامة. وليس كذلك، لأنه لو غسل جهلاً أو نسياناً أو عمداً لما بطلت تلك المزية، ولجعل الله له في جرحه دماً يَثْعَبُ شهادة له بين أهل المحشر. ولكن علّة النهي هي أن الناس في شغل عن التفرّغ إلى غسل موتى الجهاد. فلمّا علم الله ما يحصل من انكسار خواطر أهل الصفّ - حين إصابتهم بالجراح من بقاء جراحتهم، ومن دفنهم على تلك الحالة، وعلم انكسار خواطر أهليهم وذويهم - عوّضهم الله تلك المزية الجليلة. فالسبب في الحقيقة معكوس، أي السبب هو المسبّب والمسبّب هو السبب.
وكذلك الأمر بستر العورة للذي يصلي في خلوته (1)، فإن ذلك للحرص على عدم الاستخفاف بالعادات الصالحة تحقيقاً لمعنى المروءة وتعويداً عليها.
= وأمر بدفنهم ولم يصلَّ عليهم ولم يغسلوهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "ادفنوهم في دمائهم" يعني يوم أحد
…
وفي رواية عنه أنه قال في قتلى أحد. وجاء حديث جابر من وجه آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة" ولم يصل عليهم، وإنما كانت صلاته عليهم دعاء لهم. ابن حجر. الفتح: 3/ 212، 74.
(1)
وهو ما عناه خليل بقوله: وإن بخلوة، ستر العورة من واجبات الصلاة. وشرط فيها مع الذكر القدرة. وفي تعليل الحكم جاء في بدائع الصنائع الأمر بها في قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 31، وفي الحديث:"لا صلاة للحائض إلا بخمار"، وإجماع الأمة، ولأن ستر العورة حال القيام بين يدي الله سبحانه من باب التعظيم وأنه فرض عقلاً وشرعاً، وإذا كان الستر فرضاً كان الانكشاف مانعاً جواز الصلاة ضرورة. الحطاب. مواهب الجليل: 1/ 497؛ الكاساني. البدائع: 1/ 116 - 117.
وقد تأتي أحكام منوطة بمعان لم نجد لها متأوّلاً إلا أنّها أمور وهمية، مثل استقبال القبلة في الصلاة، ومثل التيمم، واستلام الحجر الأسود. فعلينا أن نثبتها كما هي، ونجعلها من قسم التعبّدي الذي لا يصلح للكون مقصداً شرعياً. أو نتأوّلها بما سنقول: وتأتي أحكام منوطة بما يمكن له تأويلٌ يخرجه عق الوهْم مثل طهارة الحدث، فنعالج بإمكاننا حتى نخرجه عن الكون وهْمياً. وتفصيل ذلك يجيء في القسم الثالث في المقاصد الخاصة (1).
واعلم أن الأمور الوهْمية وإن كانت لا تصلح للكون مقصداً شرعياً للتشريع، فهي صالحة لأن يستعان بها في تحقيق المقاصد الشرعية، فتكون طريقاً للدعوة والموعظة ترغيباً أو ترهيباً، كقوله تعالى:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه"(3).
فعلى الفقيه أن يفرق بين المقامين. فلا يذهب يفَرِّع على تلك المواعظ أحكاماً فقهية، كمن توهّم أن الصائم إذا اغتاب أحداً أفطر لأنه قد أكل لحم أخيه (4). وقد تكون الوهْميات في أحوال نادرة مستعاناً بها على تحقيق مقصد شرعي حين يتعذر غيرها. ولعل ما ذكرناه من التيمم والاستقبال يرجع إلى ذلك، فلنتفطنْ له.
(1)397.
(2)
الحجرات: 12.
(3)
تقدم: 113/ 1.
(4)
إيماء إلى قوله تعالى في التغليظ على الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الآية، الحجرات: 12، المتقدمة الذكر. تع 2.