الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ز - طلب الشريعة للمصالح
المصلحة بأنواعها تنقسم قسمين:
أحدهما ما يكون فيه حظ ظاهر للناس في الجبلة يقتضي ميل نفوسهم إلى تحصيله لأن في تحصيله ملاءمةً لهم.
والثاني ما ليس فيه حظ ظاهر لهم.
ووصفتُ الحظ بأنه ظاهر للتنبيه على أن كثيراً من المصالح من القسم الثاني ليس الحظ فيه ظاهراً للناس، ولكنّ فيه حظوظاً خفية يغفلون عنها.
مثال القسم الأول: تناول الأطعمة لإقامة الحياة، ولبس الثياب، وقربان النساء.
ومثال الثاني: توسيع الطرقات وتسويتها، وإقامة الحرس بالليل. فهذا ونحوه ليس فيه حظ ظاهر لفرد من الأفراد. فإن جمهور
= التنزيه ما اقتضى الشرع طلب تركه طلباً غير جازم ولا مشعر بالعقوبة. ومحل الخلاف بين الجمهور والحنفية جعل الشافعية ما ثبتت كراهته بدليل ظني حراماً، ويقابل كراهة التنزيه عند الحنفية خلاف الأولى عند الجمهور. الرازي. المحصول: 1/ ق أ، 127، 131؛ الآمدي. الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 156، 166؛ زكي الدين شعبان. أصول الفقه الإسلامي: 239 - 241، ف: 182 - 184.
الناس لا يشعرون بالمنافع التي تنجر إليهم من معظم المصالح العمومية ما دامت قائمة، وإنما يشعرون بها متى فقدوها، على أن بعض الناس قد يعيش دهراً لا ينتفع ببعض المصالح العامة، مثل الزمِنِ بالنسبة إلى مصلحة توسيع الطريق وتسويته.
ولكل من قسمي المصلحة خصائص من عناية الشارع.
فالقسم الأول ليس من شأن الشارع أن يتعرض له بالطلب، لأن داعي الجِبلة يكفي الشريعة مؤونة توجيه اهتمامها لتحصيله. وإنما شأنها أن تزيل عنه موانع حصوله، كمنع الاعتداء على أحد بافتكاك طعامه ولباسه، وكتحديد كيفية عقد النكاح لإزالة موانع التناسل كالغيرة والعضل. ولذلك نجد البيع والنكاح في قسم الإباحة، وإن كانا مصلحتين مهمتين يقتضيان لهما حكم الوجوب.
والقسم الثاني يتعرّض له التشريع بالتأكيد، ويرتّب العقوبة على تركه والاعتداءِ عليه. وقد أوجب بعضَه على الأعيان، وبعضَه على الكفايات بحسب محل المصلحة. فالذي مصلحته لا تتحقّق إلا بأن يقوم به الجميع، مثل حفظ النفس يكون واجباً على الأعيان. والذي مصلحته تتحقَق بأن يقوم به فرد أو طائفة يجب على الكفاية على الفرد أو على الجماعة، كإنقاذ الغريق وإطفاء النيران الملتهمة الديار. ومن هذا القسم الإنفاقُ على الزوجات والأبناء، ومواساةُ ذي الحاجة، وإضافةُ الغريب، وإجراءُ الوظائف لمن يقوم بأمور الأمة.
وقد يلتحق بهذا القسم أنواع من القسم الأول يعرض لها ما يغشى الجبلة من العوائد والتعاليم الفاسدة التي تحجب الجبلة عن التأثير، مثل من يصاب برعونة ترك الطعام. كما يذكر عن بعض الجاهلية أنه جلس يتغدَّى حذو غدير، فرأى في الماء صورة نفسه
يزدرد الطعام، فكره تلك الهيئة وآلى أن لا يذوق طعاماً حتى مات جوعاً. فهذا من اختلال العقل.
ومثل ما عرض لبعض أحياء العرب من وأد بناتهم، خشيةَ أن يلحقهم العارُ من جرائهن بالأسر أو الفقر.
ومثل الهاجس الذي هجس بنفس المعرِّي، فأعرض عن التزوج كيلا يأتي بنسلٍ غايته الموت، إن صحّ ما نسب إليه أنه أوصى أن يكتبوا على قبره:
هذا جناه أبي عليْـ
…
ـيَ وما جنيتُ على أحد (1)
وكذلك ما يعرض من الكسل عن الاكتساب لبعض الناس، وما يعرض لبعض الزهاد من الانقطاع إلى العبادة حتى يفضي بهم إلى إضاعة منافع أخرى.
فللقائم بالشريعة ولأصحاب التفريع في التشريع أن يقفوا في هذا المقام موقفَ ردع هذه العوارض النادرة بإرشاد يزيل الضلال والخطأ، ويفضح ذلك الأفن. كما قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (2). وكما قال تعالى:
(1) يروى هذا البيت مفرداً. قاله وهو يحتضر. وأوصى المعري - كما قال المؤلف - بكتابته على قبره. ومن شعره في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي
…
سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة
…
ترمي بهم في موبقات الآجل
وينظر إلى هذا المعنى ذاته ابن رشيق في قوله:
قبّح الله لذة لشقانا
…
نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقد
…
فإيجادنا علينا بلاء
الآلوسي. روح المعاني: 15/ 61.
(2)
الأعراف: 32.
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1). وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: "ألم أُخْبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ " قال: قلت: إني أفعل ذلك. قال: "فإنك إذا فعلت هجمت عينك ونَفِهت (2) نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقاً، ولزوجك حقاً؛ فصم وأفطر وقم ونم"(3).
فما كان من هذه العوارض خاصاً بنفس صاحبه فعلاجُه الموعظة الشرعية والتربية. وما كان متعدّياً إلى إضرار الناس بالفعل أو بالقول - مثل من يدعو الناس إلى اتباعه في هذه الرعونات - فعلاجهُ العقوبات.
فوليُّ الأمر يُجبر تارك الاكتساب بأن يكتسب لعياله، وينفي مَن يدعو الناس إلى بدعته كما نفى عمر صَبِيغاً (4) عن البصرة. وقد كان
(1) الإسراء: 31.
(2)
بفاء، وهو من باب تعب، وبمعناه أيضاً، وفسر بمعنى كلت. اهـ. تع ابن عاشور.
(3)
انظر 19 كتاب التهجد بالليل، 20 باب حدثنا علي بن عبد الله. خَ: 2/ 49؛ وبلفظ آخر 30 كتاب الصوم، 59 باب صوم داود عليه السلام، وبمثله ورد في 54 كتاب الأنبياء، 37 باب قول الله تعالى:{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ، ح 3، حديث عبد الله عمرو بن العاصي. خَ: 4/ 134؛ انظر 13 كتاب الصيام، 35 باب النهي عن صوم الدهر، ح 188. مَ: 1/ 816؛ انظر بألفاظ مختلفة، 22 كتاب الصيام، 78 باب ذكر الزيادة في الصيام والنقصان، وذكر اختلاف الناقلين لخبر عبد الله بن عمرو فيه. نَ: 4/ 212 - 213.
(4)
بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة. اهـ. تع ابن عاشور.
وهو صبيغ بن عسل العراقي. رجل طلب العلم فأخطأه. فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم. كان يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد =
عمرُ ألزمَ المحتكرين للطعام بأن يبيعوا ما يحتاج الناس إلى شرائه من الحبوب، كما في الموطأ (1)، فقد ألزمهم بنوع من البيوع مع كون أصل التصدّي للبيع والشراء مباحاً، لأن إباحته نشأت بالاعتماد على داعي النفوس للاكتساب وحب الربح، واختلاف الأغراض هو مَعدِلُ الحاجة.
وعلى هذا المنهج تنتهج الشريعة في المحافظة على أنواع المصالح باعتبار تصرف الناس فيها بالتسامح والتضييق في القسمين المذكورين آنفاً. فلكل أحد الاختيار في حقوقه الذاتية الثابتة له على غيره التي هي من القسم الأول. فله أن يسقطها إن شاء، لأن كونها حقوقاً له، وكونها مطلوباً بها غيرُه له مَظِنَّةُ حرصه على تقاضيها. فالشريعة تكله إلى الداعي الجبلي، وهو داعي حب النفس والمنافسة في الاكتساب. فالإسقاط لا يكون إلا لغرض صحيح. فإن تجاوز ذلك الحدَّ فاختل الداعي الجبلّي سُمِّي سفهاً يُمنعُ صاحبُه من التصرف.
وأما الحقوق الثابتة للإنسان في نفسه، ولا تعلُّقَ لها بغيره،
= المسلمين حتى قدم مصر. فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فضربه برطائب من جريد مرة أولى وثانية، وفي الثالثة أذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. انظر 19 باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع ح 150. دَي: 1/ 51؛ القرطبي. التفسير، القسم الرابع، الآية:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} : 4/ 14 - 15؛ وتفسير آية: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} : 17/ 29؛ الذهبي. المشتبه: 414.
(1)
يشير إلى البلاغ الذي ذكره مالك 31 كتاب البيوع، 24 باب الحِكرة والتربص، ح 56. طَ: 2/ 651.
فتصرّفه فيها بالإسقاط صحيح. ولذلك صحَّت الهباتُ والعفو عن الجنايات دون القتل، وعن الديون في الأحوال الجارية على المقاصد الحسنة. فإن اختل الداعي الجبلّي سُمِّي التصرف سفهاً، إلا إذا ترتّب على إسقاطه مفسدة. فإن ترجيح تلك المفسدة دلّ على اختلال الداعي الجبلّي. ألا ترى أن للمرء أن يأذن الطبيب بقطع عضو من أعضائه إذا رأى الطبيبُ ذلك مع كون المصلحة مظنونةً، وله بذل نفسه في الذب عن الحوزة بشروطه (1)، وليس له الإذن بقطع عضو من أعضائه باطلًا (2).
(1) وذلك من الجهاد، قال أبو عمر: وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم. فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل الدار أن ينفروا أو يخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، ولا يتخلّف أحد يقدر على الخروج من مقلّ ومكثر
…
ولا يتخلف عن ذلك إلا ذو علة أو أعمى أو أعرج، ومن لا يجد ما ينفق في سفره وما يترك لعياله، ومن عليه دين لا يجد له وفاء، أو كان له أبوان يكرهان خروجه أو أحدهما. ابن عبد البر. الكافي: 1/ 462 - 464.
(2)
يخضع هذا للقواعد العامة. انظر الفرق بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين قال: تحريم القتل والجرح صوناً لمصلحة العبد وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه
…
فتحجير الرب على العبد ذلك لطفاً ورحمة منه به. القرافي. الفروق: 1/ 141؛ التنقيح، الفصل 18: 95؛ الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 25 وما بعدها؛ الكاساني. بدائع الصنائع: 7/ 177؛ ابن نجيم. البحر الرائق: 8/ 74.
وفي كتاب الأحكام الشرعية للأعمال الطبية: إذا كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، وكذا قطع عضو من أعضائه فإنه لا يحل شيء من ذلك بإذن المجني عليه؛ لأن الحق في سلامة الحياة، والجسد حق مشترك بين العبد وربه. د. أحمد شرف الدين:26.
وأما ما كان من القسم الثاني من قسمي المصلحة فليس لأحد إسقاطُ حقه فيه لأن حقه ثابت مع حق غيره.
وخلاصة القول: إن الشريعة تحافظ أبداً على المصلحة المستخفِّ بها، سواء كانت عامةً أم خاصة، حفظاً للحق العام أو للحق الخاص الذي غلب عليه هَوَى الغير أو هواه هو نفسه.
ومتى تعارضت المصلحتان رُجِّحت المصلحةُ العظمى. ولهذا قدم القصاص على احترام نفس المُقتَصِّ منه، لأن مصلحة القصاص عظيمة في تسكين ثائرة أولياء القتيل، لتقع السلامة من الثارات، وفي انزجار الجناة عن القتل، وفي إزالة نفس شريرة من المجتمع. فلو أسقط وليُّ الدم القصاص زالت أعظم المصالح. فبقيت مصلحتان أخريان: إحداهما حاصلة من توقّع عدم العفو، والأخرى تحصل باستصلاح حال الجاني بالضرب والسجن. فلذلك سقط القصاصُ بالعفو فيما عدا قتل الغيلة وما عدا الحرابة، لأن عِظَم الجريمة رجَّحَ جانبَ مصلحةِ إزالةِ نفسٍ ظهرَ شرُّها وَبَعُد رجاءُ خيرها.
ولأجل هذا أيضاً كان إتلاف النفوس في الذب عن الحوزة غرضاً صحيحاً. وأقر النبي صلى الله عليه وسلم طلحةَ بن عبيد الله حين وقف يدفع بسيفه ونَبله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى ضربت يده (1)، لأنّ في
(1) طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي هو أبو محمد، ويعرف بطلحة الخير وطلحة الفياض. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى. آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك. شهد أُحداً. وأبلى فيها بلاء حسناً. وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه. فعن قيس: رأيت يد طلحة شلاء وَقَى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد. انظر 64 كتاب المغاي: 18 باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ =
بقاء الرسول بقاء الأمة جمعاء، وليس بقاء طلحة كذلك. وقد عَلم [أبو] طلحة ذلك فكان يقول للرسول عليه الصلاة والسلام:"لا تشرف على القوم يصيبك سهم، نحري دون نحرك"(1).
ومن هنا يتضح لنا طريق النظر في المصالح المتعددة إذا لم يمكن تحصيل جميعها، وفي المفاسد المتعددة إذا لم يمكن درء جميعها. وقد بيّن عز الدين بن عبد السلام في كتاب القواعد أن تقديم أرجح المصلحتين هو الطريق الشرعي، وأن درء أرجح المفسدتين كذلك. فإذا حصل التساوي من جميع الوجوه فالحكم التخيير (2).
= أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ح 12. خَ: 5/ 33.
وفي ذلك قال يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظاهر يوم أُحُد بين درعين واحتمل طلحة النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصخرة: "أوجب طلحة" حين صنع يوم أحد ما صنع وضرب الضربة في رأسه. وبعد موت صحبه الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذودون عنه قال: أنا للمشركين قتّال. ومات شهيداً في وقعة الجمل، رماه مروان بن الحكم بسهم فأرداه. ابن حجر. الإصابة: 2/ 229؛ ابن عبد البر. الاستيعاب على هامشه: 2/ 220؛ ابن حجر. الفتح: 7/ 359، 4063.
وذكر المؤلف، بعد إشادته بموقف أبي محمد طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي هذا موقفاً يجري في نفس النسق. وذلك ببيان موقف أبي طلحة.
(1)
نسب البخاري هذه المقالة لأبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وهو زوج أم أنس بن مالك. وكان كما ورد في حديثه مُجَوِّباً على النبي صلى الله عليه وسلم بحَجَفة له، وكان رامياً شديد النزع. 64 كتاب المغازي، 18 باب إذ همت طائفتان، ح 13. خَ: 5/ 33؛ ابن حجر. الفتح: 7/ 361، 4064.
(2)
نقل بتصرف. فصل في تساوي المصالح مع تعذر جمعها. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 88 - 90.
وأقول: قد مُثّل في أصول الفقه بمن سقط على جماعة من الجرحى، بحيث إذا وطئ على واحدٍ قتله، فإذا انتقل على غيره قتله أيضاً. فقيل: يبقى واطئاً لمن نزل عليه. وقيل: يخيّر (1). ويظهر التخيير واضحاً في تصرّفات ولاة الأمور عند تعارض المصلحتين العامتين كتوسيع طريق بين جبلين يفضي إلى بلد بتضييق طريق بينهما يفضي إلى بلد آخر (2).
وممّا يجب التنبّه له أن التخيير لا يكون إلّا بعد استفراغ الوسع في تحصيل مُرجِّح مّا ثم العجز عن تحصيله. وفي طرق الترجيح قد يحصل اختلاف بين العلماء، فعلى الفقيه تحقيقُ الأمر في ذلك.
ويُعرفُ الترجيح بوجوه منها: أهميةُ ما يترتب على المصلحة على ما يترتب على غيرها، كتقديم مصلحة الإيمان على مصلحة الأعمال، وتقديم إنقاذ الأنفس عند الأخطار على إنقاذ الأموال،
(1) ورد هذا المثال افتراضاً بلفظ "الصرعى" بدل "الجرحى". ونصه ما ذكر في البرهان: من تردى في بئر من غير تعدٍّ ووقع على مصروع، ولو مكث عليه لمات، وفيه صرعى، لو انتقل إلى غيره، لمات المنتقل إليه. هذه واقعة بحسب المفترض خلت عن حكم الله - قال في الجواب: لا - لم تخل من حكم الله - ولا يعتقد خلو واقعة عن حكم الله ولا نرى ذلك في قواعد الدين، ولأن التردد أو التخير في هذه الواقعة للمتردي استواء الإقدام والإحجام وهو حقيقة الإباحة. الجويني. البرهان، المسألة 1531، 1534: 2/ 1350 - 1351. وصورة قريبة منها، إذا وقع رجل على طفل من بين أطفال إن أقام على أحدهم قتله. ابن عبد السلام. القواعد: 1/ 96.
(2)
قريب من هذه الصورة، الطريق يشق أرض رجل فيريد أن يحولها إلى موضع آخر من أرضه هو أوفق به وبأهل الطريق. قال ابن الماجشون: أرى أن يرفع أمرها إلى الإمام، لأن الإمام هو الناظر لجميع المسلمين، وهو بمكانهم في ذلك. ابن فرحون. التبصرة: 2/ 274، 275.
وتقديم ما حضّ الشارع على طلبه على ما طلبه طلباً غير محثوث، وتقديم الأصل على فرعه.
ومن طرق الترجيح الخفيّة عن المدركات الشائعةِ آثارُها في المعاملات: ترجيح إحدى المصلحتين الفرديتين على مساويتها بمرجِّح مراعاة الأصل. فإن كثيراً من أنواع التجارات إذا احترف به التاجرُ لجلب مصلحته فدخل بمقداره إضرار على مماثله في التجارة، فمصلحة أحد التاجرين في الاحتراف بالتجارة ومصلحة الآخر في ترك غيره ذلك الاحتراف، وهما متساويتان، ولا يمكن الجمع بينهما. فراعت الشريعة طريق الترجيح في مثل هذا، بأن الأصل إرسال الناس في ميدان الاختيار والجلب، فتترجح إحدى المصلحتين باختيار جالب تلك المصلحة لنفسه. ولذلك أباحت الشريعة أن يشتغل أحد بالتجارة في ضرب من ضروب السلع مع وجود مماثل له في تلك التجارة سابق له بله المقارن. فإذا قصد بذلك الإضرار كان آثماً على نيّته ولم يكن ممنوعاً من العمل (1).
فالشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة. فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع. فهي تترقى بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى، بمقدار ما تسمح به الأحوال ويتيسر حصوله، وإلّا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد.
(1) مأخوذ من كلام الشاطبي في المسألة الخامسة من القسم الثاني من كتاب المقاصد بتصرف .. [الموافقات: (1) 2/ 217 - 228 = (3) 2/ 348 - 364 = (4) 3/ 53] اهـ. ابن عاشور.
وقد مضى في مبحث الفطرة ما يمكن معه أن يجعل لأحكام المصالح والمفاسد وتعارضهما سبباً يربطها بمراعاة إقامة الفطرة وانخرامها. ولا يعوزك تتبعه في أحوال التعارض، فكن فيه على بصيرة (1)!.
(1) انظر أعلاه: 176 - 180؛ 184 - 186، 186 - 188.