المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يه - التحيل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمة المقصودة للشريعة - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌يه - التحيل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمة المقصودة للشريعة

‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

اسم التحيّل يفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتدّ به شرعاً في صورة عمل معتدّ به لقصد التفصّي من مؤاخذته. فالتحيّل شرعاً هو ما كان المنعُ فيه شرعياً والمانعُ الشارعَ.

فأما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله فليس تحيلاً ولكنه يسمى تدبيراً، أو حرصاً، أو ورعاً.

فالتدبير مثل من هوِي امرأة فسعى لتزوّجها لتحلّ له مخالطتها.

والحرص كركوع أبي بكرةَ رضي الله عنه لما دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم راكعاً وخشي فوات الركعة، وأحب أن يكون في الصف الأول تحصيلاً لفضله، فركع ودبّ راكعاً حتى وصل الصف الأول. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"زادك اللهُ حرصاً، ولا تَعُد"(1).

والورع مثل أن يتخذ من يوقظه إلى صلاة الصبح إذا خشي أن

(1) انظر 10 كتاب الأذان، 114 باب إذا ركع دون الصف. خَ: 1/ 109؛ انظر 2 كتاب الصلاة، 101 باب الرجل يركع دون الصف، 683، 684. دَ: 1/ 404 - 441؛ انظر 10 كتاب الإمامة، 63 باب الركوع دون الصف. نَ: 2/ 118.

ص: 317

يغلبه النوم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات في قضية بلال حين غلبته عيناه، كما في حديث الموطأ (1).

ومثل التحيل باللفظ الموجه يصدرُ ممن أكره بتهديد بالقتل على أن يقول كفراً أو حراماً مع أن الإكراه يُحلُّ له القول. قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (2). كما يُحكى أن بعض أهل السنة كان في مجلس من غلاة الشيعة، فسئل فيه عن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الذي كانت ابنتُه تحتَه، أراد أبا بكر، وظنوا أنه يريد علياً على احتمالي معاد الضمير المضاف إليه "ابنةُ" والضمير المضاف إليه "تحتَ".

ومثل اللفظ الخفي الدلالة على العامة يصدر ممن يُخاف فِتنَتَهم، كقول أبي عبد الله البخاري لما امتحن بالسؤال عن كون القرآن مخلوقاً: أقوالنا من أفعالنا وأفعالنا محدثة. ولا يدخل في التحيّل المبوب له التحيّل على الناس في المعاملات بإيقاعهم في لوازم شرعية يجهلونها. وهو المسمى بالتغرير، مثل ادّعاء المُصالح أنه إنما يُصالح ليحصُل على إقرار خصمه له.

فالمراد بالتحيّل إذا أطلق في اصطلاح أهل الشريعة هو الذي صدَّرتُ بتعريفه. ولذلك عرفه أبو إسحاق الشاطبي في المسألة

(1) الحديث طويل انظر 1 كتاب وقوت الصلاة، 6 باب النوم عن الصلاة، 25، 26. طَ: 1/ 13 - 15. والحديث مرسل. وله روايتان الأولى عن سعيد بن المسيب، والثانية عن زيد بن أسلم. وصل أولاهما مسلم عن أبي هريرة، 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 55 باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 309. مَ: 1/ 471.

(2)

النحل: 106.

ص: 318

العاشرة من القسم الثاني من كتاب المقاصد من تأليفه تعريفَ التمثيل بقوله: "إن الله أوجب أشياء وحرم أشياء [إما مطلقاً من غير قيد ولا ترتيب على] سبب، كما أوجب [الصلاة و] الصيام [والحج وأشباه ذلك] وحرّم [الزنى و] الربا، [والقتل ونحوها]. وأوجب أيضاً أشياء مرتبة على أسباب، وحرّم أخر كذلك، كإيجاب الزكاة [والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك] و [كـ] تحريم [المطلقة و] الانتفاع بالمغصوب [أو المسروق وما أشبه ذلك]. فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه [بوجه من وجوه التسبب] حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر [أيضاً]، فهذا التسبب يسمّى حيلة وتحيّلاً"(1) وذكر أمثلة فارجع إليها (2).

وهذا هو الذي أراده البخاري رحمه الله من كتاب الحيل من الجامع الصحيح، وأخرج فيه الأحاديث الدالة على إبطالها مُبَوّبة على أبواب من تصرفات المكلَّفين كترتيب كتب الفقه (3).

(1) الشاطبي. الموافقات، المسألة العاشرة في تعريف الحيل وذكر أمثلة منها:(1) 2/ 239 = (2) 2/ 265 = (3) 2/ 379 - (4) 3/ 106. والنقل بتصرف.

(2)

من أمثلة إسقاط الواجب أو تحليل الحرام التسبب في إسقاط الصلاة بشرب الخمر، أو دواء مسبت، أو قصر الرباعية بإنشاء سفر، أو السفر في رمضان ليفطر، أو هبة ماله أو إتلافه بأي وجه من وجوه الإتلاف حتى لا يلزمه الحج ونحو ذلك. ومن أمثلة تحريم الحلال: الزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه، والوصية لوارث في قالب الإقرار بالدين. الشاطبي. الموافقات:(1) 2/ 239 - 240 = (2) 2/ 265 - 266 = (3) 2/ 379 - 380 = (4) 3/ 107.

(3)

انظر 90 كتاب الحيل وترتيبه على أبواب الفقه من نحو باب في الصلاة، وفي الزكاة، وفيما حكى من الاحتيال في البيوع وفي النكاح، وفي الهبة =

ص: 319

ولا شك في أن هذا التحيّل باطل. قال أبو إسحاق الشاطبي في القسم الثاني من كتاب المقاصد: "المسألة الثانية عشرة: لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمالُ معتبرةً بذلك، لأنه مقصود الشارع فيها [كما تبين]. فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه (أي منفعته وحكمته) على أصل المشروعية فلا إشكال. وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح [وغير مشروع] لأن الأعمال الشرعية (أي المقصود منها الجري على الشرع) ليست مقصودة لأنفسها (أي لمجرد صورها وأشكالها)، وإنما قُصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات"(1).

وقال في المسألة الثانية منه: "قصد الشارع من المكلَّف أن يكون قصدُه في العمل موافقاً لقصده - أي الشارع - في التشريع. والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة، إذ قد مرّ أنها موضوعة لمصالح العباد"(2).

وقال في المسألة الثالثة منه: "إن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد. فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة"(3).

= والشفعة ونحو ذلك. خَ: 8/ 59 - 67.

(1)

النقل بتصرف. الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 242 = (2) 2/ 268 = (3) 2/ 385 = (4) 3/ 120.

(2)

الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 207 = (2) 2/ 230 = (3) 2/ 331 = (4) 3/ 23.

(3)

الشاطبي. الموافقات: (1) 2/ 208 = (2) 2/ 231 = (3) 2/ 333 = (4) 3/ 27.

ص: 320

ويلخّص معاني كلامه أن الأعمال كلَّها منوطةٌ بأسباب، وأن الأسباب ما جعلت أسباباً إلا لاشتمالها على الحِكم والمصالح التي ضبطها الشرعُ بها، وجعلها علامة عليها، ومعرِّفاً بها. فإذا كان العمل مسلوباً من الحكمة التي رُوعيت في سببه كان فعلُه خلياً عن الحكمة التي لأجلها جعل مُسبَّباً على سببه، مثل القتال له صورة واحدة وأسباب متعددة. فمنه الجهاد، ومنه قتال الفئة الباغية وهما مشروعان ويختلف حكمه فيهما (1)، ومنه ما ليس مشروعاً مثل القتال

(1) دليل مشروعية الجهاد قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} الحج: 78، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ

} التوبة: 111، وحديث:"أي العمل أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله". خَ مَ تَ نَ وابن خزيمة عن أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". خَ مَ.

وفرضية الجهاد باتفاق الفقهاء عند التقاء الزحفين وتقابل الصفين لقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الأنفال: 45. وعند نزول الكفار ببلد مسلم حماية للدماء ودفعاً لشرهم وقهرهم. الكاساني. البدائع: 7/ 98. وعند استنفار الإمام لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} التوبة: 38. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استنفرتم فانفروا". متفق عليه.

أما البغاة: "فكل من نزع يده من طاعة إمامه. فَمَن فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية، ومن خرج عن السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". انظر: 92 كتاب الفتن، 2 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سترون بعدي أموراً تنكرونها. خَ: 8/ 87.

وفيه حديث مسلم عن أبي هريرة: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد =

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عهده فليس مني ولست منه"، 33 كتاب الإمارة، 13 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، ح 53، 54. 55. مَ: 2/ 1476 - 1487؛ انظر حديث أبي ذر، "من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"، 39 كتاب السنة، 27 باب الخوارج، ح 4758. دَ: 5/ 118 - 119؛ انظر حديث عرفجة بن شريح الأشجعي: "فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم كائناً من كان فاقتلوه"، 37 كتاب تحريم الدم، 6 باب قتل من فارق الجماعة، ح 4018. نَ: 7/ 92 - 93؛ 28 باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية، ح 4111، 4112. نَ: 7/ 123؛ حَم: 2/ 133، 296، 306، 488؛ 3/ 445، 446؛ 5/ 180، 387. ابن الأثير. جامع الأصول: 4/ 69 - 70، ع 2052، 2053.

ومن عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري: "من حمل علينا السلاح فليس منا". الشوكاني. نيل الأوطار: 7/ 173.

وقتال البغاة مشروع في الأساس بقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات: 9. والأمر في قوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} للوجوب وجوب الكفاية، ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها. والإصلاح الثاني المأمور به في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} مقيّد بأن تفيئ الباغية بقيد بالعدل.

ومن العدل في الصلح - كما قال ابن العربي -: "أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال. فإنه تلف على التأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح

". ولا ضمان عليهم في نفس ولا مال عند المالكية، وقال أبو حنيفة يضمنون، وللشافعي قولان. وحكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم، ولا يتبع =

ص: 322

للغنيمة والقتال للذكر. وفي الحديث: "يقال له: كنت تقاتل ليقال: فلان شجاع؛ فقد قيل"(1).

وعند صدق التأمل في التحيل على التخلص من الأحكام الشرعية من حيث إنه يفيت المقصد الشرعي كلَّه أو بعضَه، أو لا يفيته، نجده متفاوتاً في ذلك تفاوتاً أدّى بنا الاستقراء إلى تنويعه إلى خمسة أنواع:

النوع الأول تحيلٌ يفيت المقصدَ الشرعي كلَّه ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر. وذلك بأن يُتحيَّل بالعمل لإيجاد مانع من ترتب أمر شرعي. فهو استخدام للفعل لا في حالة جعله سبباً بل في حالة

= مُدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسترق أسراهم.

وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها، والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 26/ 241 - 243.

(1)

ورد بلفظ: "جريء" بدل "شجاع". والحديث لأبي هريرة، وهو طويل. ونص محل الشهادة منه قوله صلى الله عليه وسلم:"إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به. فعرّفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت. ولكنك قاتك لأن يقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار". انظر 33 كتاب الإمارة، 43 باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، ح 152. مَ: 2/ 1513 - 1514، وبترتيب آخر في الثلاثة الذين خلت أعمال البر عندهم من الإخلاص. ولفظه قريب من الأول. انظر 34 كتاب الزهد، 48 باب ما جاء في الرياء والسمعة، ح 2382. تَ: 4/ 591 - 593؛ انظر 25 كتاب الجهاد، 22 باب من قاتل ليقال: فلان جريء، ح 3135. نَ: 5/ 23 - 24.

ص: 323

جعله مانعاً. وهذا النوع لا ينبغي الشكُّ في ذمه وبطلانه، ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه إن اطّلِع عليه. والأدلة من القرآن والسنة الصريحة طافحة بهذا المعنى، بحيث صار قريباً من القطع. وقد ساق أبو عبد الله البخاري جملة منها في كتاب الحيل من صحيحه (1). وذكر الشاطبي جملة من الأدلة في المسألة الحادية عشرة (2)، وفي بعضها نظر.

(1) ذكر ابن حجر أن كتاب الحيل اشتمل من الأحاديث المرفوعة على أحد وثلاثين حديثاً، المعلق منها واحد، وسائرها موصول، وكلها مكررة فيه، وفيما تقدمه من الكتب. وفي الكتاب أثر واحد عن أيوب. الفتح: 12/ 351.

(2)

قال الشاطبي قبل إيراد الأدلة المومى إليها: الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن في خصوصات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها إلى القطع. وقد جعل الشاطبي من الأدلة التي أوردها من القرآن والسنة ما فيه إظهار للطاعة، لقصد دنيوي يتوصل بها إليه، وما هو من قبيل التصرفات التي يراد بها إسقاط الحكم أو قلبه إلى حكم آخر بفعل سائغ أو غير سائغ، وما تدور معانيه منها على قلب الأحكام ظاهراً، وهو غير جائز. الموافقات:(1) 2/ 240 - 242 = (2) 2/ 266 = (3) 2/ 380 - 384 = (4) 3/ 109 - 119.

ومن الأدلة المتعَقَّبة على الشاطبي حديث: "ليشربن ناس من أمتي الخمر". إسناده ضعيف ورجاله ثقات غير مالك بن أبي مريم. لم يرو عنه غير حريث، ولم يوثقه غير ابن حبان. قال ابن حزم: لا يدرى من هو. وقال الذهبي: لا يعرف. وقد تضمن الوعيد بالخسف والمسخ. يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير. وهذا يتعارض مع ما هو مقرر من أمن أمته صلى الله عليه وسلم من ذلك. وإن أجيب عنه بأن الأمن المبشر به والوعود هو فيما عدّ ما بين يدي الساعة. والحديث موقوف. ومنها أيضاً حديث النهي =

ص: 324

وهذا مثل من وهب ماله قبل مضي الحول بيوم لئلا يعطي زكاته، واسترجعه من الموهوب له من غد (1).

ومن شرب مخدّراً ليغمى عليه وقت الصلاة فلا يصليها (2).

ومثل كثير من بيوع النسيئة التي يقصد منها التوصل إلى الربا (3).

= عن هدية المِدْيَان. وسنده في السنن الكبرى للبيهقي مطعون فيه. وهو ضعيف. وله علل هي ضعف إسماعيل بن عياش وعتبة بن حميد، وجهالة ابن أبي يحيى، واضطراب إسناده، وكونه موقوفاً. انظر: تع أبي عبيدة، مشهور بن حسن آل سلمان الموافقات:(4) 3/ 113 - 118.

(1)

قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه إذا حال الحول أنه لا يحل التحيل بأن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين متفرق. وقال مالك: من فوت من ماله شيئاً ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول شهراً أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول. وقال أبو يوسف في كتاب الخراج: ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر مغ الصدقة ولا إخراجها عن ملكه لملك غيره ليفوتها بذلك فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهما ما لا تجب فيه الزكاة. وقال محمد: ما احتال به مسلم حتى يبطل حقاً أو يحق باطلاً أو ليدخل به شبهة في حق فهو مكروه، والمكروه عنده إلى الحرام أقرب. ابن حجر. الفتح: 90 كتاب الحيل، 3 باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة: 12/ 330 - 332.

(2)

يكون قد حجب عقله اختياراً، فلا يكون مكلفاً في هذه الحالة. وفي هذه الحيلة مخادعة لله. ومخادعة الله حرام، وتهرب من أداء ما فرض الله من حق قبله.

(3)

وقد ذكر الفقهاء صور ذلك في حديثهم عن بيوع الآجال المتنوعة. وهي كل ما أدى منها إلى حرام يكثر قصده، كسلف جر نفعاً، أو ضمان بجعل، أو شرط بيع وسلف، أو صرف مؤخر، أو بدل مؤخر، أو فسخ =

ص: 325

النوع الثاني تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر، أي استعمال الشيء باعتبار كونه سبباً. فإنَّ ترتب المسبب على سببه أمر مقصود للشارع.

مثل أن تعرض المرأة المبتوتة نفسها للخطبة رغبة في التزوج مضمرة أنها بعد البناء تخالع الزوج أو تغضبه فيطلقها لتحل للذي بتّها، فالتزوج سبب للحل من حكم البتات. فإذا تزوجت حصل المسبب وهو حصول شرعي.

ومثل التجارة بالمال المتجمع خشية أن تنقصه الزكاة، فإنه إذا فعل ذلك فقد استعمل المال في مأذون فيه، فحصل مسبب ذلك وهو بذل المال في شراء السلع. وترتب عليه نقصانه عن النصاب فلا يزكى زكاة النقدين، ولكن انتقلت مصلحة ذلك المال من نفع الفقير إلى منافع عامة تنشأ عن تحريك المال، وانتقَلَتْ زكاتُه إلى زكاة التجارة.

وكذلك الانتقال من سبب حكم إلى سبب حكم آخر في حين المكلف مخير في اتباع أحد السببين، فعلم أن أحدهما يكلفه مشقة فانتقل إلى الأخف. مثل من هَوِي سُرّية رجل فسعى ليزوجه إياها ثم علم أنه إن تزوجها وجب عليها الاستبراء بثلاثة أقراء، وأنه إن اشتراها من سيدها فاستبراؤها حيضة فعدل عن تزوجها إلى شرائها.

= ما في مؤخر أو غير ذلك من علل المنع. ومثَّلوا لتلك البيوع ببيع الرجل سلعة بعشرة لأجل ثم يشتريها بخمسة نقداً أو إلى أجل أقل، أو بيع الرجل سلعة بعشرة لأجل واشترائه بمثلها للأجل مع اشتراط نفي المقاصة، أو بيعه سلعة بعشرة دنانير لأجل واشترائها بمائة درهم حالة أي ولأجل أقل أو أكثر. الدردير. الشرح الصغير: 3/ 116 - 117.

ص: 326

ومثل من له نصاب زكاة أشرف أن يمر عليه الحول في آخر شهر ذي الحجة فأوجب على نفسه حجاً أنفق فيه ذلك فصادفه الحول وقد أنفق ذلك المال. وهذا النوع على الجملة جائز لأنه ما انتقل من حكم إلا إلى حكم، وما فوّت مقصداً إلا وقد حصّل مقصداً آخر، بقطع النظر عن تفاوت الأمثلة.

النوع الثالث تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمراً مشروعاً هو أخف عليه من المنتقل منه.

مثل لبس الخف لإسقاط غسل الرجلين في الوضوء، فهو ينتقل إلى المسح. فقد جعل لبس الخف في سببيته وهو المسح، ولم يستعمله في مانعيته.

ومثل من أنشأ سفراً في رمضان لشدّة الصيام عليه في حر أو مدة انحراف خفيف منتقلاً منه إلى قضائه في وقت أرفق به. وهذا مقام الترخّص إذا لحقته مشقة من الحكم المنتقل منه. وهو أقوى من الرخصة المفضية إلى إسقاط الحكم من أصله.

النوع الرابع تحيل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع. وفي التحيل فيها تحقيق لمماثل مقصد الشارع من تلك الأعمال.

مثل التحيل في الأيمان التي لا يتعلق بها حق الغير، كمن حلف أن لا يدخل الدار أو لا يلبس الثوب فإن البرّ في يمينه هو الحكم الشرعي، والمقصد المشتمل عليه البر هو تعظيم اسم الله تعالى الذي جعله شاهداً عليه ليعمل ذلك العمل. فإذا ثقل عليه البر فتحيل للتفصي من يمينه بوجه يشبه البر، فقد حصل مقصود الشارع من تهيب اسم الله تعالى.

ص: 327

قال القاضي أبو بكر بن العربي في آخر كتاب العواصم: "وكنت أشاهد الإمام أبا بكر فخر الإسلام الشاشي في مجلسه بباب العامة من دار الخلافة يأتيه السائل فيقول له: حلفت أن لا ألبس هذا الثوب، فيأخذ من هدبته مقدار الأصبع ثم يقول له: البسْه لا حنث عليك"(1) اهـ.

وللعلماء في هذا النوع مجال من الاجتهاد، ولذلك كثر الخلاف بين العلماء في صوره وفروعه. ومذهب مالك فيه لزوم الوفاء وإلَّا حنث. والشاشي شافعي المذهب، ولعله يفتي بما ذكره ابن العربي لمن يعلم منه أنه إن حنث لم يكفّر، أو لمن يعلم منه أنه لا يجد إطعاماً ولا إعتاقاً وأنه يعجز عن الصوم أو يشق عليه مثل أهل الأعمال البدنية فيفتيه بما ذكر إبقاءً على حرمة اليمين في نفسه. وكان بعض الحنفية يفتي من حلف "لا يدخل الدار" بأن يتسوّرها أو ينزل من باب سطحها (2).

النوع الخامس تحيل لا ينافي مقصد الشارع، أو هو يعين على تحصيل مقصده، ولكن فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى.

مثل التحيل على تطويل عدة المطلقة حين كان الطلاق لا نهاية

(1) ابن العربي. العواصم من القواصم: (1) 2/ 213 - 214؛ الرملي: إذا حَلف لا يلبس الثوب الفلاني ثم قطع منه قطعة لا يحنث إن لبسه لأن المحلوف عليه لبسه لجميع أجزاء الثوب وليس بحاصل، الفتاوى، باب الأيمان: 4/ 76 - 77.

(2)

لعلها مقالة الإمام أبي بكر محمد بن الفضل: "يحنث إن كانت اليمين بالعربية، وإن حلف على ذلك بالفارسية لا يحنث لأن تلك الصور لا تعد دخولاً عند الأعاجم، وهو المختار". فتاوى قاضيخان على هامش الفتاوى الهندية: (1) 2/ 77 = (2) 1/ 317 - 318.

ص: 328

له في صدر الإسلام. فقد روى مالك في الموطأ من طريقين: أن الرجل كان إذا طلق امرأته له أن يرتجعها قبل انقضاء عدتها ولو طلقها ألف مرة. فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها، وقال: والله لا آويك إلي ولا تَحِلين أبداً (1). فأنزل الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2)، وأنزل:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (3) اهـ. فجعل الله صورة الفعل المشروع استهزاء بالشريعة لمّا قصد بها إضرار الغير. ونسخ بذلك عدد الطلاق فصار لا يتجاوز الثلاث. ويأتي في الاعتداد للثلاث من المقصد ما أتى في الاعتداد قبل التحديد.

وكذلك من تزوج المرأة المبتوتة قاصداً أن يحلّلها لمن بتّها فإن فعله جار على الشرع في الظاهر، وخادم للمقصد الشرعي من الترغيب في المراجعة، وفي توفر الشرط وهو أن تنكح زوجاً غيره، إلَّا أنه جرى لعن فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية عبد الله بن مسعود في سنن الترمذي وقال: هو حسن صحيح (4). ولا أَحْسَبُ

(1) انظر 29 كتاب الطلاق، 29 باب جامع الطلاق 80، 81. طَ: 2/ 588. والحديث الأول مرسل وصله الترمذي عن عائشة، 11 كتاب الطلاق، 16 باب حدثنا قتيبة، ح 1992. تَ: 3/ 497.

(2)

البقرة: 229.

(3)

البقرة: 231.

(4)

رواه محمود بن غيلان، ثنا أبو أحمد الزهري، ثنا سفيان عن أبي قيس عن هذيل بن شُرَحْبيل عن عبد الله بن مسعود قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ والمحلَّل له". انظر 9 كتاب النكاح، 28 باب ما جاء في المحل والمحلل له، ح 1120. والحديث صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من =

ص: 329

التغليظَ فيه إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا لما فيه من قلة المروءة، لأن شأن التزوُّج أن يكون لقصد المعاشرة فلا يجعل الرجل زوجه عرضة لغيره، أو لما فيه من توقيت النكاح إن قلنا بحرمة نكاح المتعة، أو لكليهما، فكل منهما جزءُ علة. ولقد اختلف العلماء في تحليل المبتوتة بذلك النكاح وعدم تحليلها (1).

والمسألة ذات نظر، لأن المفسدة راجعة إلى المحلِّل لا إلى المحلَّل له، إلَّا إذا كان إبطال ذلك النكاح معاملة بنقيض المقصد الفاسد من الحيلة. وفي الحديث الصحيح:"لا يُمنع فضلُ الماء لِيُمنع به الكلأ"(2)، فمنعُ فضل الماء المملوك جائز لأنه تصرف في المملوك

= أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان وعبد الله بن عمرو وغيرهم. وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا

وقال سفيان: إذا تزوج المرأة ليحللها ثم بدا له أن يمسكها فلا يحل له أن يمسكها حتى يتزوجها بنكاح جديد. تَ: 3/ 428 - 429.

(1)

الحديث دليل على تحريم التحليل عند الجمهور، وعلى كراهة النكاح المشروط به التحليل عند صاحب الهداية. وظاهره يقتضي التحريم كما هو مذهب أحمد. ذلك أن اللعن يقتضي النهي عن هذا الفعل وحرمته. والحرمة في النكاح تقتضي عدم الصحة. قال الخطابي في المعالم: إذا كان التحليل عن شرط بينهما فالنكاح فاسد لأن العقد متناه إلى مدّة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن شرطاً وكان نية وعقيدة فهو مكروه. ذكره غير واحد من العلماء أن يضمرا أو ينويا أو أحدهما التحليل وإن لم يشترطاه. وقال النخعي: لا يحلها لزوجها الأول إلا أن يكون نكاح رغبة. فإن كانت أحد الثلاثة الأول أو الثاني أو المرأة تُقَدِّرُ أنه محلل فالنكاح باطل، ولا تحل للأول. المباركفوري. التحفة: 4/ 264 - 267.

(2)

انظر 42 كتاب الشرب والمساقاة، 2 باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى. خَ: 3/ 75؛ 90 كتاب الحيل، 5 باب ما يكره من =

ص: 330

بناء على عدم وجوب المعروف وهو قولنا، ولكن لمَّا اتخذ حيلة إلى منع الكَلَأ الذي حوله لأن الرعاة لا يرعون مكاناً لا ماء فيه لسقي ماشيتهم، صار منع الماء منهياً عنه.

وكذلك القول في إبطال الحيلة اللفظية في الأيمان التي تقطع بها الحقوق فكانت الأيمان على نية المستحلِف.

فإذا تقرَّرت هذه الأنواع لدى من يستعرضها بفهم ثاقب، ويجعل المكابرة ظهرياً، يوقن بأن ما يجلب لصحة التحيل الشرعي من الأدلة إنما هي أدلة غير متبصر بها ولا يعسر عليه بعد هذا تنزيلها منازلها وإبداء الفروق بينها.

فأما ما كان منها وارداً في آثار شريعتنا فمخارجه ظاهرة، مثل الأعمال التي جعلت لها صور غير جارية على أحكام نظائرها المقررة، إما لوقوعها في مبدأ التشريع فرخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما روي في الموطأ (1) وصحيح مسلم (2) أنه لما أُبطل التبني وكان سالم مولى أبي حذيفة مُتبنًى لأبي حذيفة، فجاءت سَهلة بنت سُهيل زوج أبي حُذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً يدخل علينا وأنا فضل، وليس لنا إلَّا بيت واحد، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضِعيه

= الاحتيال في البيوع، ولا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ، حديث أبي هريرة خَ: 8/ 61؛ انظر 17 كتاب البيوع، 62 باب في منع الماء، 3473. دَ 3/ 747 - 749؛ انظر 12 كتاب البيوع، 44 باب ما جاء في بيع فضل الماء، 1272. تَ: 3/ 572؛ انظر 16 كتاب الرهون، 19 باب النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، 2478، 2479. جَه: 2/ 828؛ انظر 36 كتاب الأقضية، 25 باب القضاء في المياه، 29. طَ: 2/ 744.

(1)

و (2) تقدم التخريج: 2/ 77.

ص: 331

تَحرُمي عليه" فقالت: يا رسول الله كيف أرضعه وهو كبير؟. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير" فقال نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما نرى هذا إلَّا رخصة أرخصها رسول الله لسالم خاصة. وأَبَيْنَ أن يدخُلَ عليهن أحد بهذه الرضاعة.

فهل يشك الفقيه في أن هذه رخصةٌ أوجبتها شدة حدوث إبطال حكم التبنّي مع عدم سبق تمهيد له، ولا أخذٍ لعُدته عند بعض الناس؟ فكان الترخيص بالإذن مع التماس وجه صوري للإذن جمعاً بين الرفق في ابتداء التشريع وبين حصول صورة حكم شرعي ليحصل احترام الحكم الشرعي، لتكون مخالفة الحكم في جزئية خاصة في ابتداء الأمر مشوبة بحرمة الحكم. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه - بعد ذلك لا محالة -:"انظرن من يدخل عليكن بالرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة"(1).

وكذلك ما ورد في حديث الرجل الذي زوجه رسول الله المرأة التي عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرجل لما قال:"لا أجد لها مهراً" قال له رسول الله: "قد زوجتكها بما معك من القرآن"(2). فتلك خصوصية جعلت لها صورة تشبه الصور المعروفة،

(1) انظر 52 كتاب الشهادات، الحديث الأخير من 7 باب الشهادة على الأنساب والرضاع، حديث عائشة إنما الرضاعة من المجاعة. خَ: 3/ 150؛ انظر 46 كتاب النكاح، 51 باب القدر الذي يحرم من الرضاعة. نَ: 6/ 100 - 102.

(2)

انظر 66 كتاب فضائل القرآن، 21 باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ح 3. خَ: 6/ 108؛ 67 كتاب النكاح، 37 باب إذا كان الولي هو الخاطب، ح 2. خَ: 6/ 134؛ 40 باب السلطان ولي. خَ: 6/ 134؛ انظر 9 كتاب النكاح، ح 2030، الباب الثاني في ما جاء في مهور النساء، =

ص: 332

إبقاء على حرمة حكم المهر بقدر الإمكان على أحد تأويلين في معنى قوله: "بما معك من القرآن".

وأما ما كان من شريعة سابقة فلا نطيل القول في تأويله، إذ ليس بين أيدينا من بقية فروع تلك الشريعة ما يقنعنا في معرفة مقدار مخالفة الصورة الظاهرة المدعوة عندنا بالحيلة لبقية أحكام تلك الشريعة.

فقوله تعالى في قصة أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (1) ورد تفسيره بأنه حلف أن يضرب امرأته ضربات. ولما ذهب غضبه أشفق عليها، أي وتوقَّف في برّ يمينه - فأمره الله بأن يضربها بضغث من عصي. فلعل ذلك شرع شرعه الله له، فيكون أحد وجهين في برّ الحالف بمثل تلك اليمين، كما شرع لنا في الإسلام الكفارة، أو لعل تلك رخصة رخّصها الله لنبيه فإن الله يحلّ لنبيه ما شاء، إذ كان معصوماً من أن يستخف بحرمة اسم الله تعالى.

وأما قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (2) فنحن في غُنية عن الخوض فيه، لأن تلك حيلة على تحصيل أمر محبوب لا يوجد لمنعه شرع إلهي محترم. ألا ترى قوله:{فِي دِينِ الْمَلِكِ} ، والملك هو فرعون. فإضافة الدين إليه إيماء إلى أنه ليس بدين إلهي.

كما استدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "خذيها واشترطي لهم

= 1114 تَ: 3/ 421 - 422؛ انظر 9 كتاب النكاح، 17 باب صداق النساء، 1889. جَه: 1/ 608؛ انظر 11 كتاب النكاح، 19 باب ما يجوز أن يكون مهراً، ح 2207. دَي: 2/ 463.

(1)

ص: 44.

(2)

يوسف: 76.

ص: 333

الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" (1)، إذ لا يخفى على المتأمل أن ما يلوح فيه من الحيلة إنما هو حيلة على بائع بريرة. ولنا في بيان توجيه معناه تحرير ذكرناه في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (2). وقد تقدم شيء منه في بحث انتصاب الشارع للتشريع (3).

وبعد، فمن الغفلة أن يُقاس على مثل هذه الحيل فَتُجعلَ أصلاً للقياس عليها، مع تحقق أن الحيلة لا تشتمل على معنى وحكمةٍ تصحح القياس عليها، إذ قد اتفقنا على أن الحيلة مخالفة للحِكَم ومُفيتة للمقصد. ولذلك سميت حيلة. فكيف نجعلها أصلاً للقياس عليها! وكيف يُلحِق بها النظائرَ من يمنع القياس على الرخص!

وقد اتضح لك من الأمثلة المتقدمة الفرقُ بين أن يستعمل الفعل المتحيَّل به بصفة كونه سبباً لتحصيل مسبّبه فيفوّت مسبّب سبب آخر، وبين استعماله الحيلة بصفة كونها مانعاً من فعل آخر سواءً كانت مع ذلك سبباً في فعل لا يشبه الفعل الذي قام له المانع أم لم تكن سبباً في شيء. فزده إتقاناً بتكثير أمثلته.

(1) تقدم: 115/ 1.

(2)

انظر ذلك في: فصل "من لا ميراث له" من كتاب الفرائض. فهو بعد نقله كلام الباجي في هذا الموضوع، ومقالة الزرقاني أفاد بنقله عن جده الوزير أن قوله تعالى:{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} الأحزاب: 5، يراد منه الولاء المطلق وهو الأعم ولا يرث به إلا الرجال. فليست المرأة مستحقة إياه، وإنما ثبت لها ميراث خاص بالعتق. وهو ولاء خاص بحديث بريرة. ابن عاشور. كشف المغطى: 242 - 244.

(3)

تقدم للمؤلف كلام في هذا حيث جعل مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة من باب الإشارة عليها بحق شرعي وليست تشريعاً أو فتوى، ولو كان كذلك للزم الشرط وكان معارضاً لما في خطبته:"إن الولاء لمن أعتق": 115/ 2.

ص: 334